ضع اعلانك هنا

10 ساعات لجمع كيس من القوارير البلاستيكية ، تبعات قاسية للحرب على الفئات المستضعفة في اليمن

بلال الشقاقي / خيوط

في 21 سبتمبر/ أيلول 2014، سيطرت جماعة أنصار الله (الحوثيين) على العاصمة صنعاء، بعد أسابيع من احتجاجات مسلحة قادتها الجماعة ضد الحكومة اليمنية، ثم تقدموا باتجاه جنوب البلاد. وفي 26 مارس/ آذار 2015، تصاعد الصراع عندما بدأت السعودية، وعدد من حلفائها، شنَّ ضربات جوية عنيفة من خلال عملية عسكرية سُميت بـ”عاصفة الحزم”، كان الهدف المعلن منها، منع أنصار الله (الحوثيين) من السيطرة على المزيد من المدن اليمنية، واستعادة سلطة الحكومة المعترف بها دوليًّا. خلف هذا الصراع المستمر منذ ست سنوات، واقعًا مأساويًّا، وصفته الأمم المتحدة بأنه أسوأ أزمة إنسانية في العالم؛ حيث قُتل عشرات الآلاف من اليمنيين، بينما يتعرض الملايين لخطر المجاعة والأمراض والأوبئة.

ناهيك عن التدمير الحاصل في البنية التحتية واتساع رقعة الفقر والبطالة وانعدام الدخل وفرص العمل وتوقف رواتب الموظفين، وغيرها من الأضرار طويلة المدى التي بدأت آثارها تظهر في شتى النواحي الاقتصادية والاجتماعية.

بلغتُ من الكِبَر عِتِيًّا

يُغادر الوالد أحمد الجرادي (65 سنة) منزله في الصباح الباكر، كل يوم، حاملًا كيسًا كبيرًا، (شوالة) كما يطلق عليها في اليمن، بادئًا رحلة معاناته في سبيل النجاح بتعبئة هذا الكيس بالقوارير البلاستيكية المستخدمة.

يذهب متكِئًا على عصاه يجول الشوارع بحثًا عن هذه القوارير، التي غالبًا ما يجدها في صناديق وأكياس القمامة. وبعد عناءً طويل لا يتمكن من تعبئة هذا الكيس الذي يحمله إلا مع غروب الشمس. يقضي ما يقارب 10 ساعات في جمع كيس واحد كبير في الحجم، لكن قيمته لا تتعدى الألف ريال (أقل من 2$)، بالكاد يكفيه هذه المبلغ ليشتري وجبة طعام واحدة.

لم يتبادر إلى ذهن العم أحمد أن سوء حاله سيصل يومًا إلى هذه الدرجة، التي لم يعد فيه قادرًا على تحمل تكاليف ما يكفيه وزوجته من أكل وشرب. كان يعول كثيرًا على راتبه الذي كان يحصل عليه كموظف خدم طويلاً في وزارة العدل التي قضى فيها ما يقارب الأربعة عقود، ، لكنه تفاجئ بانقطاع هذا الراتب بعد مضي سنتين على تقاعده، “لم أستلم راتبي التقاعدي كاملًا إلا في السنتين الأولى من فترة تقاعدي، بعدها لم أستلم إلى اليوم إلا نصفه مرتين أو ثلاث، على الأغلب”.

لم يُرزق أحمد بالأبناء، ويعيش الآن وحيدًا مع زوجته زُهرة (60 سنة) في منزل صغير، سقفه من الصفيح، ومكون من غرفة واحدة، يقول أحمد لـ”خيوط”، إنه كان يملك منزلًا واسعًا لا بأس به، لكنه اضطر إلى بيعه بعد أن ضاق به الحال، خصوصًا بعد مرض زوجته التي احتاجت عملية جراحية عاجلة لاستبدال أحد صمامات القلب المتضررة، “بلغت من الكبر عتيًّا ولا يوجد لدي أبناء يُعيلوني، صرفت كل مدخراتي ولم يعد في مقدوري العمل، وراتبي التقاعدي ذهب مع الريح”، هكذا لخص العم أحمد حالته التي يعيشها منذ ما يقارب الخمس سنوات.

انهيار الاقتصاد وفرص الدخل

أحمد أحد كثيرين من فئة كبار السن المتقاعدين، الذين كانت معاشاتهم التقاعدية هي مصدر دخلهم الوحيد، وأصبحوا حاليًّا يعانون بشدة للحصول على أبسط الاحتياجات اليومية الضرورية، بعد توقف هذه المعاشات كليًّا في المحافظات التي يسيطر عليها أنصار الله (الحوثيين)، وجزئيًّا في باقي المحافظات الأخرى مطلع العام 2017، ويزيد عدد المتقاعدين في اليمن، وفقًا لبيانات رسمية اطلعت عليها “خيوط”، عن 124 ألف،41% منهم بدون معاشات منذ مارس/ آذار 2017.

لم يكن المتقاعدون هم المتضررين الوحيدين من تبعات هذه الحرب؛ فالكثير من الأسر اليمنية، خصوصًا تلك التي تنتمي للفئات الأشد ضعفًا، فقدت مصدر دخلها الأساسي نتيجة لهذا الحرب، فقد أدى انهيار الموارد العامة في موازنة الدولة إلى انخفاض في الإنفاق العام الحكومي والذي تسبب في وقف دفع الإعانات النقدية الشهرية من قبل صندوق الضمان الاجتماعي، التي كان يستفيد منها 1.5 مليون من الأسر الأشد فقرًا في اليمن.

منصور الزبيدي، مسؤول البرامج في إحدى المنظمات الإنسانية المحلية، ذكر لـ”خيوط”، أن الأضرار الاقتصادية الناجمة عن الحرب، شملت كل اليمنيين، إلا أن تأثيرها كان مدمرًا على الفئات الضعيفة مثل العمال والموظفين وكبار السن وأصحاب الاحتياجات الخاصة، والأرامل من النساء اللاتي يُعِلْنَ أسرهن، وغيرهم من اليمنيين الذين كانوا يعتمدون كليًّا على معاشات التقاعد والضمان الاجتماعي الشهرية.

وأثر الصراع كثيرًا على الاقتصاد اليمني، فتوقفت أجزاء كبيرة من الأنشطة الاقتصادية في معظم القطاعات العامة والخاصة، وانخفضت الإيرادات الحكومية غير النفطية من الجمارك والضرائب، وما تبقى منها استُخدم في تغذية الصراع ودفع فاتورة الحرب على حساب المواطن اليمني.

وتأثرت قطاعات الأعمال كثيراً بسبب الحرب، إذ فقد كثير من اليمنيين أعمالهم وأصبح كثير منهم في معاناة شاقة للحصول على عمل لتوفير ما أمكن من الاحتياجات المعيشية الضرورية.

وساهم التجميد الكامل للنفقات المخصصة لمشاريع التنمية والتقليص في تكاليف النفقات التشغيلية للخدمات العامة، مثل التعليم والصحة وقطاع المياه، في زيادة حدة الأزمة الإنسانية.

كما أدت أزمة السيولة المتزايدة إلى انقطاع رواتب مئات الآلاف من العاملين في القطاع الحكومي منذ أغسطس/ آب 2016. إضافة إلى ما تسبب به انهيار العملة الوطنية إلى ارتفاع أسعار السلع الغذائية والاستهلاكية بصورة تفوق بكثير قدرات المواطنين اليمنيين.

نسيج ممزق

بدلًا من توجه السلطات المتعددة وأطراف الصراع في البلاد إلى التخفيف عن معاناة الناس ومكافحة الفقر والجوع والبطالة وإيجاد حل لصرف رواتب الموظفين، الذين يكابدون حياة قاسية بسبب توقفها بالذات في مناطق شمال اليمن وتحييد الاقتصاد وأرزاق الناس عن الصراع الدائر، ركزت على توجهات وممارسات أخرى كانت لها تبعات معيشية واقتصادية واجتماعية مؤثرة.

إذ ظهرت في الآونة الأخيرة الكثير من الممارسات، التي دقت ناقوس الخطر من الآثار غير المباشرة للحرب في اليمن على المجتمع اليمني. إذ تعرض العمال المنتمون للمحافظات الشمالية من اليمن لمضايقات في عدن ومناطق بجنوب البلاد، وتم طرد العديد منهم رغم توقف هذه الممارسات مؤخراً، وفي صنعاء ومناطق شمال اليمن ظهرت ممارسات اقصائية ضاره واستحواذ واستئثار على الوظائف العامة وقطاعات الأعمال الخاصة.

خلقت هذه الممارسات ردة فعل رافضة لها مع توسع رقعة الفقر والجوع والبطالة. وهو ما أكدته سلمى ناصر، باحثة وناشطة اجتماعية، في حديثها مع “خيوط”، “بأن الحرب ولّدت ممارسات لم يعتاد عليها اليمنيين تقوم بها أغلب الأطراف المشاركة في الحرب.

تضيف: “أن الصراع المستمر منذ ست سنوات أفرز مصطلحات ومسميات لم يكن يتم تداولها بكثرة وبهذا الشكل في الشارع اليمني من قبل”. وتحذر سلمى من أن هذا المَلّمح يعتبر مؤشرًا خطيرًا بالنظر إلى تتغلغله في اللاوعي الجمعيّ عند اليمنيين”.

من جانبه يقول أحمد عز الدين، وهو باحث متخصص في العلوم الاجتماعية والسياسية لـ”خيوط”: “إن التداعيات الاجتماعية للحرب في اليمن هي الأخطر، نظرًا لتأثيراتها العميقة طويلة المدى على نسيج المجتمع اليمني، الذي كان متجانسًا، إلى حدٍّ ما، قبل هذه الحرب، فقد تسببت الحرب في إحداث انقسام اجتماعي عميق. وأضاف عز الدين: “إن الحرب كذلك هيّأت المجال أمام الهويات الفرعية للسعي من أجل فرض نفسها والسيطرة على بقية مكونات المجتمع.

ستُّ سنوات عجاف عاشها اليمنيون، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة للغاية، وحربٍ مستعرة، وصراع لا يكاد ينتهي. ليبقى السؤال المطروح دائمًا، متى تتوقف الحرب ليتوقف معها هذا التجريف الحاصل في الهُوية اليمنية والأعمال وأرزاق البسطاء، ومتى ينتهي هذه الصراع الذي آذى اليمنيين كثيراً في لقمة عيشهم.

بلال الشقاقي
صحفي وصانع افلام

المادة خاص بمنصة خيوط

ضع اعلانك هنا