فخر العزب – العربي الجديد
عاد أحمد الأصبحي إلى منزله حاملاً ملفات أطفاله الثلاثة من إحدى مدارس مدينة تعز وسط اليمن، بعدما عجز عن تسجيلهم نتيجة ارتفاع الرسوم. كان يدفع العام الماضي 600 ألف ريال، واليوم ارتفعت الرسوم إلى 900 ألف ريال (الدولار يساوي 1440 ريالاً في مناطق الحكومة الشرعية)، وهو المبلغ الذي عجز عن تسديده.
يقول الأصبحي لـ”العربي الجديد”: “ذهبت إلى المدرسة لتسجيل أطفالي، وتفاجأت بأن الرسوم زادت، ما اضطرني إلى سحب ملفاتهم، على أمل أن أجد لهم مدارس أخرى، على الرغم من أن جميع المدارس رفعت الرسوم هذا العام”. يضيف: “عدا عن رسوم التسجيل، هناك الزي المدرسي والكتب والقرطاسية وغيرها، في ظل وضع اقتصادي صعب. فلا أتقاضى من وظيفتي وعملي الحر أكثر من 250 ألف ريال شهرياً. لذلك، أنا عاجز عن تسجيل أولادي في المدرسة هذا العام”.
تضاعف الرسوم الدراسية زاد من معاناة الأسر اليمنية التي رأت في ذلك عبئاً جديداً عليها، في ظل معاناتها منذ بدء الحرب قبل ثماني سنوات، وما نجم عن ذلك من أزمات اقتصادية أبرزها انقطاع الرواتب، وانعدام فرص العمل، وارتفاع الأسعار، وانهيار القيمة الشرائية للريال اليمني أمام العملات الأجنبية.
وتقول أم كريم، وهي ربة بيت، لـ “العربي الجديد”: “ذهبت لتسجيل ولدي في المدرسة، وتفاجأت بتضاعف الرسوم الدراسية وعدم قدرتي على توفيرها. اضطررت إلى بيع بعض الذهب الذي أملكه لتسجيله، وبقي لدي الزي مدرسي والقرطاسية”. تضيف: “أواجه مشكلة حقيقية، علماً أنّ لدي طفلاً وحيداً. فكيف بمن لديه أكثر من طفل؟ كيف سيكون باستطاعة الأهل تسجيل أولادهم في المدارس في ظل الارتفاع الجنوني لرسوم التسجيل، وارتفاع أسعار الأدوات المدرسية من دفاتر وأقلام وحقائب؟”.
وبدأ العام الدراسي في مناطق الحكومة الشرعية في 27 أغسطس/آب. أما في مناطق سيطرة الحوثيين، فقد بدأ في 22 يوليو/ تموز الماضي. وكان خيار البدء المبكر مرتبطاً بتعطيل الدراسة خلال شهر رمضان المقبل.
وتُدير وزارتا التربية والتعليم التابعتان للحكومة الشرعية وجماعة الحوثيين، العملية التعليمية في اليمن بتقويم دراسي مختلف، وبمنهاج معدل في مناطق الحوثيين. وتعاني مدارس البلاد من أزمة توفير الكتاب المدرسي، وتلجأ بعضها إلى توزيع كمية أقل من الكتب يتشاركها الطلاب طوال العام الدراسي، فيما تعيد مدارس أخرى توزيع الكتب المستعملة على الطلاب الجدد.
ويقول الطالب في المرحلة الإعدادية، حسام الشرعبي، لـ “العربي الجديد”: “لا توجد كتب دراسية في مدرستنا، ما يضطرني إلى شرائها من الخارج”. يضيف: “تُعاني المدارس نقصاً حاداً في الكتب نتيجة فساد المسؤولين في الوزارة”.
ومن بين أبرز مشاكل التعليم في اليمن، تزايد عدد المدارس الأهلية في مقابل تراجع عدد المدارس الحكومية، وخصوصاً خلال الحرب. وتعرّض عدد من المدارس الحكومية للقصف والتدمير، كذلك استُخدِم عدد كبير منها كمقارّ عسكرية لأطراف الحرب المختلفة، ما جعلها خارج نطاق الخدمة، ليضطر الطلاب إلى الالتحاق بالمدارس الأهلية لكونها الخيار المتوافر. أضف إلى ما سبق أن عدداً كبيراً من المدارس الحكومية تقع عند خطوط التماس في جبهات القتال، ما أدى إلى إغلاقها.
وبحسب تقرير سابق لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة “يونيسف”، فإنه منذ بداية النزاع في مارس/ آذار 2015، خلفت الهجمات آثاراً مدمرة على النظام التعليمي في البلاد، انسحبت على فرص ملايين الأطفال في الحصول على التعليم. وأشارت إلى أنه كان للنزاع والتعطيل المستمر للعملية التعليمية في جميع أنحاء البلاد وتجزئة نظام التعليم شبه المنهار أصلاً تأثير بالغ في التعلم والنمو الإدراكي والعاطفي العام والصحة العقلية للأطفال كافة في سنّ الدراسة البالغ عددهم 10.6 ملايين طالب وطالبة في اليمن. ودُمّرت 2,916 مدرسة (واحدة على الأقل من بين كل 4 مدارس) أو تضررت جزئياً أو استخدمت لأغراض غير تعليمية نتيجة 7 سنوات من النزاع الذي شهدته البلاد.
ويُواجه الهيكل التعليمي مزيداً من العوائق، تتمثل بعدم حصول أكثر من ثلثي المعلمين، أي ما يقرب من 172 ألف معلم ومعلمة على رواتبهم بشكل غير منتظم منذ عام 2016، فيما ترك البعض التعليم بحثاً عن أعمال أخرى مدرّة للدخل.
هذه الظروف، خصوصاً انقطاع الرواتب، تجعل المعلمين في المدارس الحكومية يلجأون إلى التدريس في المدارس الأهلية من أجل توفير لقمة العيش، وهو ما زاد من انتشار المدارس الأهلية، في ظل تحذيرات من خصخصة التعليم في البلاد.
عمد الحوثيون إلى تعديل المناهج الدراسية لتتضمن أفكاراً عنصرية ومذهبية وأخرى تتحدث عن أحقية الهاشميين (الهاشمية مصطلح سياسي وفكرة دينية وجماعة من الناس تدعي أحقية دينية في الحكم لمن يمُتّ في نسبه بِصلَة مباشرة إلى الرسول). كذلك عدلوا أهداف ثورة 26 سبتمبر (ضد المملكة المتوكلية في شمال اليمن عام 1962، وقامت خلالها حرب أهلية بين الموالين للملكية وبين الموالين للجمهورية، وسيطرت الفصائل الجمهورية على الحكم في نهاية الحرب، وانتهت المملكة وقامت الجمهورية اليمنية)، وضمّوا سيرة حسين الحوثي وصالح الصماد وسير أئمة المذهب الشيعي مثل سيرة الإمام زيد بن علي والإمام يحيى بن الحسين، وأضافوا معركة كربلاء والدولة الزيدية وثورة الإمام القاسم والإمام المنصور وابنه يحيى حميد الدين.
وضمت المناهج صوراً لمقاتلي الجماعة، باعتبارهم مجاهدين في سبيل الله، وصوراً للمولد النبوي وعبارة لبيك يا رسول الله، وحذفت سيرة الرسول والصحابة والأعياد الدينية والوطنية، وسير عمر بن عبد العزيز وعمر المختار ويوسف العظمة والإمام الشوكاني وقادة ثورة 26 سبتمبر، علي عبد المغني ومحمد محمود الزبيري وآخرين. وعمد الحوثيون إلى استخدام مصطلحات عسكرية في كتب الرياضيات، ما يعني تنشئة جيل على ثقافة العنف والموت.
تزايد عدد مدارس اليمن الأهلية في مقابل تراجع عدد المدارس الحكومية
ودفع تعديل المناهج بعض أولياء الأمور إلى عدم إلحاق أبنائهم بالمدارس، خشية المنهاج الطائفي والداعي إلى الجهاد، إذ يعمد الحوثيون إلى استقطاب طلاب المدارس للالتحاق في دورات عسكرية والزجّ بهم في ساحات القتال. ويقول مالك الحبيشي لـ “العربي الجديد”: “اضطررت إلى نقل ابني الذي يدرس في المرحلة الإعدادية من مدرسة حكومية إلى مدرسة أهلية، نتيجة الطائفية في المدارس الحكومية بمناطق الحوثيين”. يضيف: “لاحظت تعلق ولدي بالأناشيد التي تحرّض على القتال وجهاد العدوان الصهيو أميركي، كما يسمونه، وانشغاله بقراءة ملازم حسين الحوثي بدلاً من كتبه الدراسية. لذلك، نقلته إلى مدرسة أهلية لأن تأثير الحوثيين فيها أقل”.
من جهة أخرى، أدى انقطاع الرواتب في مناطق الحوثيين منذ عام 2016 إلى عزوف الكثير من المدرسين المؤهلين عن الاستمرار في التدريس بسبب الظروف المالية الصعبة، ليبحثوا عن أعمال أخرى تساعدهم في الحصول على لقمة العيش، في ظل إرغام الحوثيين غالبية المعلمين على العمل من أجل الحصول على السلة الغذائية التي توزعها المنظمات الدولية. وتفرض وزارة التربية والتعليم التابعة للحوثيين رسوماً دراسية على الطلاب تحت اسم “المشاركة المجتمعية”، وتقول إن هذه المبالغ تذهب للمدرسين لتشجيعهم على ممارسة عملهم، على الرغم من انقطاع رواتبهم، ويُوزَّع مبلغ عشرة آلاف ريال (الدولار يساوي 525 ريالاً في مناطق الحوثي) على بعض المدرسين.
ويقول عمر، وهو معلّم في إحدى مدارس صنعاء، لـ “العربي الجديد”: “منذ ثماني سنوات ونحن بلا رواتب، ما اضطرني إلى العمل في مدرسة خاصة براتب 50 ألفاً”. يضيف: “نُرغَم على الدوام في المدرسة الحكومية، ونتسلم نصف راتب مرة أو مرتين في العام، ونتعرض للتهديد بالفصل وإحلال بديل لنا إن امتنعنا عن الدوام، والابتزاز بحرماننا السلة الغذائية التي تصرفها إحدى المنظمات، ونجبر على تدريس منهاج طائفي وحضور ندوات طائفية بشكل دوري”. يضيف: “تقع على عاتق الحكومة الشرعية مسؤولية دفع رواتب المدرسين في مناطق الحوثيين كي لا نتعرض للابتزاز، والاعتراف بمدى خطورة التغيير الذي حصل في قطاع التعليم في مناطق سيطرة الحوثيين من خلال التغيير في المناهج التعليمية، والأنشطة التي يمارسها الحوثيون في المدارس والمراكز الصيفية عبر ندوات وورش عمل ومقابلات صحافية ودراسات ميدانية في الداخل ومخاطبة المجتمع الدولي”.
ويقول الباحث التربوي عبده غالب العديني، لـ “العربي الجديد”، إنه يمكن إدراك تأثير الحوثيين بقطاع التعليم من خلال التغيير الذي شهدته مناهج التعليم المختلفة، منها التربية الإسلامية، والتاريخ، والجغرافيا، والتربية الوطنية، والمجتمع، واللغة العربية، وصولاً إلى ترديد شعارات الموت كل صباح في ساحات المدارس الحكومية. ويرى أن “هذا ليس سوى تعبير عن حالة التغيير المؤلم الذي أحدثه الانقلاب، وما سيمثله من تمزيق للمجتمع، وتغيير مفاهيم العدالة والمساواة والإنصاف في أفكار الجيل الجديد وسلوكياته، ما يشكل خطراً حقيقياً على المجتمع مستقبلاً”.
يضيف العديني: “التعليم اليوم أصبح بمثابة انقلاب فكري وسلوكي. كما أن المدارس أصبحت ثكنات تدريب للقتل والدمار. ويمكن أن نلحظ العزوف الواضح من أولياء الأمور عن تسجيل أبنائهم في المدارس الحكومية بعد تغيير المناهج، وتعيين معلمين موالين للحوثيين، وتحويل المدارس إلى مراكز تدريب على القتل”. يضيف: “على الحكومة إدراك خطورة ما أحدثه الحوثيون من تغيير في المناهج التعليمية، وأن تمتلك الإرادة لإعلان أن معركتها الحقيقية تبدأ من التعليم، ويجب عليها أن تضغط بكل إمكاناتها على المنظمات الدولية المانحة لتحقيق أهداف التعليم في العدل، والإنصاف، والحماية، وضمان الأمن للأطفال في المدارس، وعدم السماح للحوثيين بالاستفادة من المنح المقدمة لاستخدامها في تدمير التعليم، وأن تعمل على الضغط باتجاه تسليم رواتب المعلمين على مستوى اليمن، خصوصاً أن الحوثيين يرغمون البعض على العمل من أجل الحصول على السلة الغذائية التي توزعها المنظمات الدولية وبنصف راتب كل نصف عام”.