علا الشلالي – خيوط
ما تزال المئات من العائلات اليمنية متشبثة بأمل لقاء أقارب لها تم إخفاؤهم قسريًّا من قبل السلطات التي حكمت البلاد شمالًا وجنوبًا، لأسباب سياسية أو مناطقية أو طائفية منذ ستينيات القرن المنصرم، مرورًا بفترة اغتيال الرئيس إبراهيم الحمدي وما بعدها حتى حرب صيف 1994.
هذه الآمال والتطلعات لم يخفت بريقها مع استمرار وتزايد ضحايا انتهاكات وممارسات الإخفاء القسري أثناء حروب صعدة الستة وما تلتها من أحداث إبان ثورة الحادي عشر من فبراير 2011، والحرب المندلعة منذ العام 2015 حتى وقتنا الراهن، إذ إنّ ذاكرة أهالي المخفيين تأبى النسيان كما يقولون خلال أحاديثهم المليئة بالحسرة والألم لـ”خيوط”، في حين تأتي ذكرى اليوم الدولي لضحايا الاختفاء القسري التي تصادف الثلاثين من أغسطس/ آب، لتعيد نبش تلك الجراح وأوجاع أفئدة من فقدوا عزيزًا أو قريبًا لهم.
يكثر استخدام الاختفاء القسري أسلوبًا استراتيجيًّا لبث الرعب داخل المجتمع، فالشعور بغياب الأمن الذي يتولد عن هذه الممارسة لا يقتصر على أقارب المختفي، بل كذلك يصيب مجموعاتهم السكانية المحلية ومجتمعهم ككل.
وتعاني أسر المختفين من غم نفسي بطيء، لعدم علمهم إذا كان الشخص الضحية لا يزال على قيد الحياة، وإذا كان الأمر كذلك، فأين يحتجز، وما هي ظروف احتجازه، وما هي حالته الصحية، فالبحث عن الحقيقة عرّض خلال فترات الصراعات السياسية كثيرًا من الأسر والناشطين المدافعين عن حقوق الإنسان لمزيد من الأخطار التي لا تخلو من التهديدات.
قضية مؤرقة
لم يكن صالح مقبل صالح، من محافظة الضالع، قادرًا على البقاء بعد حرب صيف 1994، في مدينة عدن جنوب اليمن والتي يعيش فيها مع عائلته منذ أن كان ضابط سلاح مدفعية الصواريخ بمعسكر الجلاء في أواخر ثمانينيات القرن الماضي، بسبب مخاوف أمنية.
لكنه بعد فترة وجيزة، قرر الذهاب إلى محافظة حضرموت (جنوب شرقي اليمن)، ومنذ ذلك الحين يُـعتقد أن صالحًا تعرّض للإخفاء القسري من قبل القوات المنتصرة في حرب الانفصال كما كانت تُسمى حينها، كما يقول أحمد نجل المخفي قسريًّا صالح مقبل.
ويضيف أحمد خلال حديثه لـ”خيوط”: “منذ تلك اللحظات لم نـعُد نعلم مصير والدي إن كان حيًّا أو ميتًا أو مسجونًا أو تمت تصفيته”.
تتذكر سلوى زهرة كيف أن وجع إخفاء والدها لازم عائلتها منذ صغر سنها: ” لقد عانينا كثيرًا من ألم الفراق، أصبحنا كل يوم ننتظر سماع خبر حول والدي وأنه ما يزال على قيد الحياة أو كيف أصبح حاله، لا أحد يعرف ألم الفقدان كالذي جربه”.
برزت قضية المخفيين قسرًا في جنوب اليمن منذ الأحداث الناجمة عن الصراع على السلطة، عقب فترة رحيل الاحتلال البريطاني، منذ الستينيات حتى ثمانينيات القرن الماضي.
وتشرح رئيسة اتحاد نساء اليمن فتحية عبدالله، في هذا الخصوص لـ”خيوط”، كيف ظلت قضية المخفيين قسرًا تؤرق العائلات في جنوب اليمن التي عانت كثيرًا وما تزال حتى وقتنا الراهن.
في السياق، اتبعت سلطة نظام صالح أسلوب الرفض والتعنت والتمويه مع هذا الملف الخاص بالاختفاء القسري، وهو نفس التعامل الذي واجهت به استفسارات المنظمات الدولية العاملة في مجال حقوق الإنسان، حيث أصرت على الإنكار وعدم الاعتراف بوجود مخفيين قسرًا من غير الذين هم على ذمة أحداث الصراعات السياسية في مناطق الجنوب إبان عهد جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية.
وفقًا للإعلان المتعلق بحماية جميع الأشخاص من الاختفاء القسري، الذي اعتمدته الجمعية العامة للأمم المتحدة في قرارها 133/47 المؤرخ بتاريخ 18 ديسمبر/ كانون الأول 1992 بوصفه مجموعة مبادئ واجبة التطبيق على جميع الدول، فإن الاختفاء القسري يحدث عند: “القبض على الأشخاص واحتجازهم أو اختطافهم رغمًا عنهم أو حرمانهم من حريتهم على أي نحو آخر على أيدي موظفين من مختلف فروع الحكومة أو مستوياتها أو على أيدي مجموعة منظمة، أو أفراد عاديين يعملون باسم الحكومة أو بدعم منها، بصورة مباشرة أو غير مباشرة، أو برضاها أو بقبولها، ثم رفض الكشف عن مصير الأشخاص المعنيين أو عن أماكن وجودهم أو رفض الاعتراف بحرمانهم من حريتهم، مما يجرد هؤلاء الأشخاص من حماية القانون”.
تحرك علني
عقب ثورة الحادي عشر من فبراير، تحرك ملف المخفيين قسرًا؛ إذ شجعت الثورة الشبابية أهالي الضحايا على البوح بمظلوميتهم التي لم يجرؤوا على الحديث عنها خلال الفترة التي سبقت 11 فبراير/ شباط 2011. كانت سلوى ابنة المخفي قسريًّا علي قناف زهرة، إحدى الضحايا الذين أخذوا على عاتقهم إحياء قضية الاختفاء القسري من خلال رصد وحصر ملفات المخفيين، ولفت أنظار المنظمات المحلية والدولية المعنية بالحقوق والحريات لأهمية معرفة مصيرهم.
بعد ساعات من اغتيال الرئيس اليمني الراحل إبراهيم الحمدي، في 11 أكتوبر/ تشرين الأول 1977، بالعاصمة صنعاء، تم اختطاف العميد علي قناف زهرة الذي كان يشغل منصب قائد اللواء السابع مدرع، وتم إخفاؤه قسريًّا في مكان غير معلوم حتى وقتنا الراهن.
تتذكر ابنته سلوى زهرة في حديثها لـ”خيوط”، كيف أن وجع إخفاء والدها لازم عائلتها منذ صغر سنها: “لقد عانينا كثيرًا من ألم الفراق، أصبحنا كل يوم ننتظر سماع خبر حول والدي وأنه ما يزال على قيد الحياة أو كيف أصبح حاله، لا أحد يعرف ألم الفقدان كالذي جربه”.
عام 2012، أسّست سلوى مع عدد من أقارب ضحايا الاختفاء القسري وآخرين في صنعاء “الرابطة اليمنية لأسر المخفيين قسريًّا”.
توضح زهرة أنه لم يكن لديها هي وأخريات من أقارب المخفيين أي مستند دولي أو محلي للحديث عن مظلوميتهن قبل العام 2011، إذ إن أي شخص كان يقترب من ملف المخفيين أو يشير إليهم يتعرض هو نفسه للإخفاء.
الجميع ضحايا
لم يكن أحد من السياسيين أو من قيادات الأحزاب السياسية أو حتى المعنيين بقضايا حقوق الإنسان، يرحبون بنا كرابطة معنية بالمخفيين قسريًّا في اليمن؛ لأن هذا الملف سيكشف الكثير من المتورطين الذين كانوا وما يزالون يزعمون بأنهم يعملون من أجل مصالح المواطن اليمني وحريته وكرامته.
تنوه زهرة بالدور الذي قدمته لهم منظمة مواطنة لحقوق الإنسان، في الوقت الذي رفض فيه الكثير التعاونَ معهم، وذلك من قبل قيادة المنظمة، والتي تشير لهما بالاسم، الناشطين الحقوقيين عبدالرشيد الفقيه ورضية المتوكل، إذ فتحا أبواب مقراتهما، كما تقول زهرة، لاستقبال أهالي الضحايا ومساعدتهم، إضافة إلى تقديم الاستشارات والدعم القانوني.
وعلى الرغم من العراقيل والصعوبات التي واجهت الرابطة في مهدها، فإنها كانت متنفسًا لكثير من أقارب ضحايا الاختفاء القسري الذين يعُدون أنفسهم ضحايا أسوة بالمخفيين، حينها تم رصد الكثير من الضحايا لسماع شكاواهم.
تشير سلوى زهرة إلى أن الرابطة استطاعت توثيق ما يزيد على 80 ملفًا لمخفيين قسرًا في مناطق متفرقة، إضافة إلى القيام بالعديد من الأنشطة وتنظيم مسيرات ومظاهرات لمناصرة مظلومية المخفيين قسريًّا.
كما نظمت العديد من الحملات التي عملت على لفت أنظار المجتمع المحلي والدولي بأهمية تحريك ملف المخفيين، كحملة “الجدران تتذكر وجوههم”، وهي رسوم لفنانين يمنيين تمت على جدران عدد من شوارع العاصمة صنعاء.
كما كان هناك تحرك آخر ركز على مؤتمر الحوار الوطني الذي تم عقده في مارس/ آذار2013، حيث طالبت هالة القرشي بنت سلطان القرشي المخفي قسرًا منذ العام 1978، المشاركين في مؤتمر الحوار بالاهتمام بهذا الملف واستشعار المعاناة التي يتجرعها أهالي المخفيين قسرًا، وأن تُعكس تلك المعاناة في قانون العدالة الانتقالية الذي كان من المزمع إقراره عقب مؤتمر الحوار الوطني، وبما يسهم في تجاوز الآثار المترتبة على هذه الظاهرة، لكن ذلك لم يحدث.
هكذا مثلت الفترة الانتقالية التي أعقبت ثورة 11 فبراير/ شباط 2011، بارقة أمل لعائلات المخفيين قسرًا، لكن الحال لم يدُم بسبب اندلاع الحرب في العام 2015، في حين يستمر الضحايا والأسر المتأثرة، في التشبث بالأمل، إذ تقول سلوى زهرة على لسان أقارب ضحايا الاختفاء القسري: “ما زلنا نبحث عن ذوينا، وما زلنا نسعى لإقرار قانون منع الإخفاء القسري، وما يزال الأمل قائمًا”.