•• بروفيسور / قاسم المحبشي…
المرأة والفلسفة؛ تشابه الوظيفة واغتراب المعنى..
الفلسفة أنثى لا تمنح مفاتيح قلبها إلا لمن أحبها
ارتبطت الفلسفة عبر تاريخها الطويل بصورة نمطية للرجل الكهل الذي يبدو منهمكًا في التأمل والتفكير في مشكلات العالم الميتافيزيقية (ما وراء الطبيعة) وتطالعنا الأنثربولوجيا الفلسفية منذ القرن السادس قبل الميلاد في اليونان القديم بنماذج بالغة الرمزية والدلالة للصور النمطية التي اكتسبتها الفلسفة ورموزها الفاعلة – (سقراط، أفلاطون، أرسطو، الفارابي، ابن رشد، ابن خلدون، ديكارت، كانط.. الخ) – في تاريخ الفكر الإنساني العام. فالفلسفة هي فيلو سوفيا بمعنى (حب الحكمة). والفيلسوف هو محب الحكمة أول صديق الحكمة بحسب هيدجر ..
رغم أننا نعلم أن قصة استبعاد المرأة وتهميشها وقمعها وإقصائها وتحقيرها وسحقها وقهرها وإخفائها من عالم الإنسان “الرجل” يعود إلى جملة من الأسباب والشروط التاريخية والاجتماعية في الأزمنة البدائية جداً, إلا أن استمرار هذه الحالة المؤسفة حتى العصر الحديث يثير الحيرة والعجب. وهذا يعود في نظرنا إلى خطورة الاعتقادات والتصورات والآراء والأوهام والعادات التي تترسخ في حياة الناس ويتوارثوها جيل بعد جيل كأنماط ونماذج للسلوك, أو ” الهابيتوسات”2 حسب عالم الاجتماع الفرنسي بيار بورديو, يقول عالم النفس التربوي الأمريكي ” أرثر كوفر” في كتابه ” خرافات في التربية” “يسلك الناس وفقاً لما يعتقدون…
فإذا اعتقدت أن شخصاً أمين فسوف أثق به, وإذا اعتقدت أنه غير أمين فلن أثق به. إننا نسلك وفقاً لما نعتقد .وحينما تكون معتقداتنا صحيحة وصادقة, نستطيع أن نحدث قدراً كبيراً من التقدم. أما إذا كانت معتقداتنا خاطئة فإنها تعوق هذا التقدم وتحبط آمالنا, وتعرض الحياة الإنسانية ذاتها إلى الخطر”3, ولقد ذهب كل جيل ضحية لمعتقداته ولخرافاته وأوهامه وأساطيره..
فحينما اعتقد الصينيون أن الكون ينقسم إلى الين واليانج, أي الأنوثة والذكورة الـyang يرمز إلى مبدأ الذكورة والعنصر الايجابي الفعال المنتج السماوي وعنصر الضوء والحرارة والحياة, والـ yin ويرمز إلى الأنوثة العنصر السلبي المنفعل, الأرضي عنصر الظلمة والبرودة والموت. والحقائق كلها يمكن ردها إلى تعارض واتحاد العاملين الأساسيين في الكون, الذكورة الأنوثة أي اليانج والين. كان من شأن هذا الاعتقاد الأسطوري, أن يعمق الهوة بين الرجل والمرأة ويمنح الرجل الذكر مكانه أرفع من مكانة المرأة الأنثى. وحينما اعتقد أهل اليونان أن العقل يحكم الكون, وان الرجل هو الكائن العاقل الوحيد, وان المرأة كائن حسي غير عاقل, برروا النظرة الدونية للمرأة..
وحينما اعتقد العرب قبل الإسلام بان الأنثى كائن يجلب العار ويضعف الرجال, شرعوا عادة وأد البنات… وحينما يعتقد بان جسد المرأة وصوتها ووجهها من العورات فلابد أن نختفي عن الأنظار وتحتجب عن الغرباء من الرجال هذا معناه أن سلوك الناس وتفاعلاتهم وعاداتهم وتفضيلاتهم وأفعالهم وردود أفعالهم ومؤسساتهم ونظمهم وتقاليدهم لا يمكن تفسيرها وفهمها من خلال تمظهراتها المباشرة, بل لابد من الذهاب إلى ما ورائها, من المنطلقات والأسس العقيدية واللاهوتية أو الفلسفية, كما أن اعتقادات الناس في أي زمان ومكان ليس مجرد أفكار أو تصورات معنوية وكلمات ومفاهيم معرفية مجردة, بل هي نتاج قوى اجتماعية وسياسية وثقافية نشأة وترسخت عبر مسار طويل من الخبرات والتجارب والممارسات في أنماط سلوك وعادات وخبرات أو هابتوس((Habitus)) عادة أو طبع أو نسق الاستعدادات والتصورات اللاشعورية…
أعترف بانني حينما فكرت بالكتابة في موضوع الجنوسية؛ تحولات المفهوم وسياقات المعنى. لم أكن على دراية كافية بما أنا قادم عليه, ولكنني اكتشفت في أثناء الانهماك بالعمل إن الأمر اكبر واعقد واهم بكثير مما كنت أتصور, إذ وجدت العلاقة بين المرأة والفلسفة هي من بين أكثر الموضوعات مدعاة للدهشة والتأمل والاهتمام, إذ لم يشهد تاريخ الأفكار مثل لذلك النط العلائقي المثيرة بما شهده من تحولات ومفارقات وتناقضات, على سبيل المثال لا الحصر:
1- الفلسفة هي أكثر العلوم النظرية قرباً من المرأة من حيث ماهيتها الإنسانية وطبيعتها الأنثوية فهي (محبة الحكمة) فيلو سوفيا، وربيبة الدهشة وأم العلوم وحاضنة ومولدة الأفكار والمفاهيم، وقد كان حكيم اثينا سقراط يشبه نفسه بالقابلة، مولّدة النساء معتبرا عمل الفيلسوف توليد الأفكار من عقول النساء والرجال. وتلك رمزية بالغة الدلالة والمعنى فالحب والدهشة والتخصيب والمخاض والوالدة كلها رموز أنثوية خالصة ورغم ذلك أجبرت الفلسفة على أن تكون أبعد العلوم واكثرها اغتراباً عن المرأة أو بالأحرى ارغمت المرأة على عدم الاقتراب من الفلسفة إذ ظلت الفلسفة التقليدية تستبعد المرأة من دائرة اهتمامها انطلاقاً من الثنائية الاعتباطية بين العقل والطبيعة, العقل الذي يمثل (الرجل) الذكر المتطابق مع مفهوم الإنسانية والطبيعة التي تمثل الأنثى الموضوع السلبي, تقول الفيلسوفة المعاصرة شيلارون “المرأة معروضة بالتراث الفلسفي التقليدي على انها ليست كائناً إنسانيا بل هي مثل الأشياء الطبيعية لا تتطلع أن تكون ذاتا تتسم بالأخلاقية والقدرة الفكرية”.
2- ليست هناك علم من العلوم الإنسانية هو أشدها قرباً وحمميه بالمرأة من الفلسفة, إذ وجدت المرأة الحديثة في الفلسفة الملاذ الآمن والأفق الفكري والفضاء الابستمولوجي الخصيب الذي أشبعت فيه سغبها المعرفي وتعطشها الفكري وتنفست فيه الصعداء وصاغت فيه أسئلتها الميتافيزيقية تقول الفيلسوفة ديريد جالوس ” الفلسفة هي النوع الأكثر عمقاً من التفكير الذي نحن مؤهلون له”وحينما نوازن بين طرفي المفارقة, اعني قرب الفلسفة من المرأة واغترابها عنها نلاحظ أن الفلسفة كانت بالنسبة للمرأة في مشروع نهضتها الحديثة والمعاصرة, هي بمثابة القوة الدافعة والسلاح الأمضى في معركتها التحررية, إذ لاحظنا كيف شكلت الفلسفة التمهيد الضروري لمشروع النهضة والحداثة الإنسانية وذلك بالمتطلبات الفلسفية الثقافية المتمثلة بجملة واسعة من الأفكار والمفاهيم الكبرى: الحق, العقل, القانون, الحرية المؤسسة, الإنسان, الطبيعة الإنسانية, المجتمع المدني, التقدم, العلم, الطبيعة التاريخ ، الجسد، المرأة.الخ..
ولا اعتقد إنه يمكن فهم نهضة المرأة الحديثة بدون فهم الأسس الميتافيزيقية لها, إذ كانت الفلسفة هي التي أيقظت المرأة من سباتها البطريركي, حينما بدأت المرأة تفكر فلسفيا وكان ذلك منذ عصر التنوير, بدأ التاريخ يبتسم بعيون إنسانية , وبدأت المرأة لأول مرة في التاريخ تعي ذاتها الإنسانية وتستعيد هويتها الذاتية الأنثوية, ومنذ الفيلسوفة الانجليزية ماري ولسو لكرافت عام1768م حتى الفيلسوف الفرنسية سيمون دي بوفوار أصبحت المرأة أخيرا وجود لذاته ومن اجل ذاته, بعد أن كانت عبر الإلف السنين وجود في ذاته فقط. وقد تمخضت الحركة النسوية عن رؤية منهجية جديدة للمعرفة الإنسانية تمثلت في لحظتين هامتين هما:
أولآ :نقد النسوية للنظرية الوضعية الذكورية وتأسيس منهجية امبريقية جديدة، تسمى الابستمولوجيا الموقعية النسوية بوصفها نوعًا من فلسفة بناء المعرفة التي تعمل من أجل رؤية العالم وفهمه بعيون النساء المقهورات وتجاربهن من خلال تطبيق هذه الرؤية والفهم على العمل الاجتماعي والتغيير الاجتماعي، أي من خلال التحام المعرفة بالممارسة التي تجمع بين كونها نظرية لبناء المعرفة ومنهجًا للبحث في الوقت نفسه، أي مدخلا لبناء المعرفة ودعوة للفعل السياسي. إن بناء المعرفة من واقع تجارب النساء المعيش، هو القادر على معالجة الخطأ التاريخي، القائم على إقصاء النساء عن مجالات المعرفة السائدة، تقول الباحثة النسوية “باتر يشاهيل كولينيز” إن «التجارب الملموسة للنساء هي التي تقدم المصداقية في ادعاءات المعرفة تلك» وهذا ما استدعى استخدام تقنيات منهجية جديدة، منها؛ المدخل التفاعلي الذي يعتمد على مشاركة المبحوثات في صوغ أفكارهن الجديدة التي تعكس تجاربهن وأفكارهن ومشاعرهن، ومن ثَمّ الابتعاد عن المقابلة التقليدية أي أن تكون تجارب النساء المعيشة هي مدخل البحث والدراسة والتوصل إلى المعرفة الجديدة (شارلين ناجي هيسي – بايير- وباتريشا لينا ليفي وآخرون، مدخل إلى البحث النسوي ممارسة وتطبيقًا، ترجمة، هالة كمال، المركز القومي للترجمة، القاهرة2015)
ثانيا: تخصيب وتفعيل المعرفة العلمية عامة والعلوم الإنسانية والاجتماعية خاصة بدفقة حيوية جديدة من المناهج والنظريات العلمية الأكثر انسانية،، وهذا ما أفضى إلى تغير ثورى في النظرة إلى العلم بوصفه صنعة إنسانية وإبداعاً إنسانياً، ونشاطاً إنسانياً، وفعالية إنسانية، ومغامرة إنسانية، أو كما أكد مارجوليس في كتابه, علم بغير وحدة : إصلاح ذات البين للعلوم الإنسانية والطبيعة “أن مشاريع العلم هي بصورة حاسمة إنجازات إنسانية، والصفة الجذرية للعلم بعد كل شيء أنه نشاط إنساني .. لذلك فكل العلوم هي علوم إنسانية من زاوية إنجازها الفعلي، فلا يمكن تعيين خصائصها بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني واللغة الإنسانية والخبرة الإنسانية والاحتياجات والاهتمامات الإنسانية”( يمُنى طريف الخولي, مشكلة العلوم الإنسانية: تقنينها وإمكانية حلها، دار الثقافة، القاهرة ١٩٩٠.
وتعد الفيلسوف العربية يمني طريف الخولي أهم من كتب في فلسفة العلوم والفلسفة النسوية. وحينما تستعيد المرأة الدهشة الفلسفية فهذا يعني أن محبة الحكمة عادت إلى منابعها الإنسانية الأصلية ورجعت إلى بيتها الحميم…