ضع اعلانك هنا

تعز المحاصرة: صمود المدينة وحراسها !..

الكاتب : فتحي أبو النصر …

اليوم قضيت أربع ساعات، وأنا ألف شوارع حميمة في تعز، ذكرتني بطفولتي ومراهقتي .كنت أسمع اصوات المارة ممتلئة بالحب، والضحك والمشاكسات، والحلم ،والمكابدات، والحرية. فيما لكنة اللهجة التعزية فيها حكمة ودهاء .لذلك أنا سعيد جدا لأنني في تعز فلقد عزتني تعز، بينما كانت القاهرة قد قهرتني.وفي شوارع تعز التي تتنفس الصمود، وتُجسد التاريخ بأبعاده الإنسانية والمجتمعية. تتناغم أصوات الحياة بتلاحم أزقتها وعنفوان شعبها العظيم. على إن تعز ليست مجرد مدينة جغرافية، بل هي صورة حية للثبات والتحدي، تجسد قصص جيل عنيد في مواجهة الحصار والدمار، وتروي حكمة الحياة من خلال كل حجر في شوارعها، وكل ركن في جبلها.
والشاهد أن تعز، المدينة التي تعود جذورها إلى مئات السنين، نشأت على قمة الحضارة في جنوب شبه الجزيرة العربية، فيما استمرت مهدا للعلم والثقافة والفكر والتنوير.
كما تشهد على أصالتها كل زاوية، في الحارات الضيقة التي تنبض بالذكريات والتاريخ الطويل، ومن بين الجبال التي تشرف على المدينة، يشهد جبل صبر على تضحيات عظيمة تُركت فيه من أجل حماية هذا الكيان النابض بالحياة.
على إن جبل صبر، الذي يحيط بتعز، ليس مجرد جبل، بل هو قلب المدينة. سُمي صبرا لأنه كان شاهدا على العديد من اللحظات العصيبة التي مرت بها تعز، وكل شبر في أرضه يحمل ذكرى معركة أو قصة صمود.
كذلك فإن ذلك الجبل العتيق، الذي يأبى الرضوخ، يقف شامخا كحارس يقظ لهذه المدينة التي لا تنهار، مهما كانت الظروف. بل يعكس جبل صبر الروح الحقيقية لشعب تعز، إذ يتحول إلى عنوان استثنائي من عناوين المقاومة، ليذكرنا بأن الحلم لا يموت مهما كانت الأسباب.
والواقع أنه في تعز، تتشابك الحكايات كما تتشابك خيوط الشمس عند الغروب. فالمدينة التي احتضنت الشهداء وجنود المقاومة الشعبية، لم تستسلم يوما أمام أي تهديد. بل ظلت منذ بداية الحرب عليها ،صخرة قوية وقاعدة للثوار والمقاومين ضد مليشيات الحو.تي المدعومة من إيران، التي مازالت تسعى لتدمير كل شيء يُمثل إرادة شعبنا التعزي العربي. لكن تعز، على الرغم من الحصار الخانق والدمار المتزايد، بقيت حية بشجاعة رجالها ونساءها، الذين رغم قسوة المعاناة، يواصلون نضالهم بكل عزيمة.
والحال إن المقاومة الشعبية في تعز لم تكن مجرد قوة عسكرية، بل ظلت تجسيدا لروح الشعب المتمردة ضد الكهنوت، ضد الإملاءات والاستلابات.فيما اولئك الجنود البواسل الذين واجهوا آلة القتل الح..وتية بكل ما لديهم من قوة وصبر، هم الذين حفظوا للمدينة كرامتها، وعزتها، وحرية شعبها. وكذلك كانوا، ولا يزالون، الدرع الواقي للمدينة، حراسا لأمل يعيش في قلوب أهلها رغم المحن، ويواصلون مقاومتهم بأساليب مبتكرة وتضحيات جسيمة.
ولذلك فإنني لن انسى أبدا أولئك الجنود الذين أذاقوا الحو..تتيين الهزائم المتتالية على أسوار تعز.
فلقد قاوموا في معركة لم تكن مجرد معركة عسكرية، بل كانت معركة هوية، معركة وطنية ضد محتل يرى أن تعز مجرد قطعة أرض يمكن أن تسقط بسهولة.و أن أبناء تعز مجرد عبيد يجب أن يقوموا بالولاء لحضرة السيد.
لكنهم فشلوا أمام عزم المقاومة، ولم تَكسرهم قسوة الحصار أو تسقطهم قذائف الحقد.
ومع مرور الزمن، أصبحت تعز هي اتجاه الحرية التي لا تُقهر. فهذا الشعب التعزي، الذي عاصر الحروب والنزاعات، لا يزال يقاوم دون أن يرضخ، ويشرف على جرحه دون أن ينهار.
وللتذكير ففي مواجهة حصار تعز، شهد العالم بأسره بطولة الشعب التعزي، الذي تمكن من الصمود في وجه الحصار الخانق، معتمدا على نفسه، وعلى قوتها الداخلية.
بل في كل يوم يمر، يقف أهالي مدينة تعز على مسافة من الموت، ولكنهم لا يتراجعون أبدا. بل إنها تعز التي لم تترنح، فرغم كثافة قذائف الحوثي، تظل متجذرة في قلوبنا.
أما في ميدان الذاكرة الشعبية، فتحتفظ تعز بحكايات لا تُعد ولا تُحصى عن حياتها اليومية، عن طرقاتها المزدحمة بحركة الناس الذين يقاومون الحصار بفرح الحياة.
فعلى الرغم من الدماء التي سالت في شوارعها، ورغم آلام أهلها الذين فقدوا أحبائهم، فإنهم يتمسكون بكرامتهم بكل قوة، وكأنهم يُراهنون على انتصار لا مفر منه.
وفي الحقيقة، لا يمكن للزمن أن يمحو ذكر تعز، التي قاومت وستظل تقاوم، عازمة على أن تظل حرة.
ذلك لأن تعز هي تاريخ لا ينسى، ومقاومة لا تندثر. هي جبل صبر الذي يعانق السماء بعزة والرجال الذين يحمون بأنفه المدينة بأرواحهم .
كذلك حينما يقف الزمان ويعيش التاريخ، تظل تعز باقية، تصمد، وتؤكد لكل الأجيال أن الحرية لا تأتي إلا بالصبر، والتضحيات، والنضال. فعلى الرغم من مرارة الحصار الذي كاد أن يحولها إلى مدينة أشباح، فإنها تعز التي لم تنكسر. الوطن الذي يقاوم، والمدينة التي لا تموت.
أو بمعنى آخر فإن تعز هي المدينة التى تحتفل بالحياة رغم الحصار. وأنا أمشي في شوارعها كانت تتناثر الذكريات كحبات المطر التي تسقي أرواح ساكنيها الذين يتعطشون لتحقيق الدولة المدنية الحديثة.
من هنا وعلى الرغم من الحصار الذي فرض عليها، لا تزال المدينة تعج بالفرح، كأنها تحيا ضد قسوة الزمن ومرارة الحروب. قضيتُ أربع ساعات فقط أتجول في شوارعها، ومع ذلك كانت كفيلة بأن تعيدني إلى مرحلة الأحلام العفوية.
وفيما الأصوات التي كنت أسمعها، ممزوجة بمزيج من الحب والحرية، كانت أكثر من مجرد كلمات عابرة. بل كانت احاديث الناس البسطاء وهم يعبرون بين الحارات الضيقة، تحمل لهم عبق الحياة اليومية، فاتيقن انها تعز التي لا تعرف الاستسلام.
الغريب في الأمر أن تعز لا تشتكي، بل تبتسم في وجه معاناتها. ومن هنا فإن كل خطوة كنت أخطوها في شوارعها،كنت أشعر بذلك النوع من الصمود المتجذر في أعماق الأرض. لكأن الشوارع نفسها تقول: “لن نخضع”.
بل من بين بيوت المدينة المهدمة، كأن حياة جديدة كانت تنبثق.وفي السياق تتجلى مقاومة شعبية استمرت تمتزج مع ذكريات ماض من العزة والكرامة، تُرى في عيون الرجال الذين يقفون على أطراف الجبهات،وفي عيون النساء اللواتي يحملن هموم الحياة بأكتافهن، لكنهن لاينكسرن لأنهن قويات.
فقط صدقوني: إنها تعز .. تعز التي لم تكن مجرد مدينة تُحتجز في أضابير الحصار والنسيان، بل كانت ولا تزال تروي للتاريخ قصة كفاحها المتفردة والملهمة.

ضع اعلانك هنا