منشور برس / “صحيفة الثوري” – حوارات:
يبحث برنامج “الشاهد” في موسمه الرابع في قصة الوحدة اليمنية، الآمال والتحديات، والألغام التي زُرعت في طريقها، وكيف تحوّل مسار الوحدة من مباحثات بين الدولتين إلى حوارات بين الحزبين الحاكمين.
تحققت الوحدة في 22 مايو 1990، بعد سنوات من النزاع والعداء بين الأنظمة المتعاقبة في صنعاء وعدن. كان اليسار هو اللاعب الأقوى والتيار الأكثر تمدداً في الجغرافيا اليمنية، التي شهدت حروباً طاحنة، ظلت خلالها عناصر اليسار منخرطة في الكفاح المسلح في جبهات ما عُرف بحرب المناطق الوسطى.
يفتح برنامج الشاهد قصة الحرب وتحولاتها مع علي الصراري، أحد القيادات الميدانية لما كان يُعرف بـ”الحزب الديمقراطي الثوري”، وهو أحد الأحزاب الثمانية التي توحدت في أكتوبر 1978 وأعلنت ميلاد الحزب الاشتراكي اليمني.
كما يتطرق الصراري للحديث عن نشأته وتعليمه، وما تلاها من تراكم في تجربته السياسية والصحفية، بالإضافة إلى تلك المحطات التي قادته اليوم إلى عضوية المكتب السياسي للحزب الاشتراكي.
في هذه الحلقة والحلقات القادمة، التي يُعدها ويُقدمها المدير العام لقناة بلقيس الأستاذ أحمد الزرقة، نستعرض تباعاً أجزاء من شهادات القيادي الصراري حول تحولات اليسار اليمني من العنف المسلح إلى العمل الديمقراطي.
ظروف الميلاد والنشأة
يقول عضو المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني، علي الصراري، إنه وُلد في منتصف الخمسينيات، مشيرًا إلى أن ولادته كانت في زمن كان يمثل عمق النظام الإمامي، بما كان يمثله من تخلف عام.
وأضاف: “هذا الزمن احتُسب بالنظر إلى السنوات التي قضيتها في الكُتّاب، وميلاد إخواني، حيث عرفنا من خلال هذه الحسابات كلها، أنني من مواليد 1954م، فيما كان يُعرف بقضاء ماوية، وقريتنا اسمها هومرين، وهي جزء من مجموعة قرى تُسمى عزلة أصرار، ونحن نُلقب باسم هذه العزلة، وهذه التسمية جاءت من هجرة قديمة لأجدادنا، حيث كانوا في قيفة برداع محافظة البيضاء، وهاجروا إلى صبر وماوية في محافظة تعز، وإلى محافظة إب”.
يفيد الصراري بأن الحديث عن ظروف ميلاده ونشأته في قريته بعزلة أصرار، يحتاج إلى تذكر مآسٍ هائلة، حيث كانوا في ذلك الزمان لا يجدون الدواء، بل حتى الملابس التي يلبسونها كانت عبارة عن خرق ممزقة.
وأضاف: “لم نكن نتذوق طعم اللحم إلا مرة في السنة، عندما يذبحون الأضحية في عيد الأضحى، في ذلك الوقت، كنا نأكل اللحم، وبعد ذلك كنا نأكل الفطير مع الحقين والبسباس، وهذه كانت وجبتنا اليومية على مدار السنة”.
وتابع: “توفيت والدتي بعسر ولادة، بسبب عدم وجود مستشفيات، وكان عمري 4 سنوات، وكان لدي أخ أكبر مني بأربع سنوات، لكنه في هذا السن كان نوعًا ما يفهم الحياة من حوله، أما أنا فكنت لا أفهم، ولم أكن متقبلًا قصة أن أمي توفيت، وكنت رافضًا أن أذهب لأعيش في بيت أخوالي أو في بيت أعمامي. استمررت مصممًا على البقاء في منزلنا، وهذا كان امتحانًا كبيرًا لأبي، الذي كان عليه فعلًا أن يحيطني بالرعاية، وأن يكون أبًا وأمًا في الوقت نفسه”.
وأشار إلى أن الكثير من النساء كنّ يمتن أثناء الولادة، والمرأة التي لم تمت كانت محظوظة جدًا، وبعضهن كنّ يستمررن في الولادة لمدة أسبوع، بسبب عدم وجود أي رعاية أو مستشفيات، وكان الاعتماد فقط على القابلات الريفيات، وأعتقد حتى في المدن كانت هناك صعوبة في الحصول على رعاية صحية ملائمة للنساء، ولهذا كانت نسبة الوفيات وسط النساء عالية جدًا، وكذلك بين المواليد.
وأردف: “أنا أستطيع أن أقول، إن الرعاية التي تلقيتها من والدي ساعدتني إلى حد ما، لكن فقدان الأم في هذا السن شيء لا يمكن تعويضه، وأتذكر أنني في تلك الفترة أصبت بأمراض أعادتني سنوات إلى الوراء، وفقدت حتى القدرة على المشي، وأتذكر أن أبي كان يدعو أولاد عمي، لكي يدربوني على المشي مرة أخرى، فكانوا يشجعونني على أن أمشي وأنا ممسك بالجدار، وشيئًا فشيئًا، استطعت أن أستعيد القدرة على المشي”.
ولفت إلى أن والده لم يكن لديه أي ارتباط سياسي، لكن جده والد أبيه كان فقيهًا، وكان لديه كتب قديمة، وبمعايير ذلك الزمان يمكن القول إنه كان متعلمًا.
وزاد: “أتذكر بعد موت أمي كان هناك توقع بأن ألحق بها، وأتذكر أن أحد أعمامي عندما جاء وشاهدني وأنا أُنازع، قال: اذهبوا وجهزوا له قبرًا، وأنا كنت أتذكر هذه الكلمة، ومعها أتذكر أمي، هل سيدفنونني تحت التراب كما فعلوا معها؟ لأنني ذهبت معهم إلى المقبرة، لكن ربما أن هذه الكلمة هي التي جعلتني أتشبث أكثر بالحياة، وأعاند حتى استعدت قدرتي على المشي وقدرتي على النطق، بل أول ما تجاوزت هذا المرض، أصبحت من أكثر الأطفال شغبًا في القرية”.
وقال: “لهذا أنا أقول، وُلدنا في البؤس وعشنا في البؤس، ولم نعرف من هذه الحياة أي شيء، إلا بعد أن سقط النظام الإمامي، وانتقلنا من قرانا إلى المدن، التي كانت قد بدأت تدخل مرحلة الانفتاح، ولا نستطيع أن ننكر أو نتجاهل الدور الذي لعبه المصريون في إحداث هذه النقلة، لأنهم افتتحوا المدارس، وصار لدينا أطباء نتلقى على أيديهم العلاج، وأمور حياتنا بدأت تتغير”.
وأضاف: “كان لدى الشعب اليمني استجابة عالية نحو العهد الجديد، ولهذا لم يتخلف اليمنيون عن هذا الركب، بل وطّنوا أنفسهم على مرحلة جديدة بسرعة، وكان هناك إقبال غير عادي على التعليم”.
الالتحاق بالتعليم
يقول علي الصراري، إنه التحق بالكُتّاب وهو في عمر ما بين خمس إلى ست سنوات، وحفظ القرآن على يد أكثر من فقيه، حيث لم تكن لديهم مدرسة تأويهم داخلها.
وأضاف: “مدرستنا كانت عبارة عن شجرة، ونحن تحت ظلها، منذ الصباح وحتى الظهر، وفي العصر، وكان هناك أكثر من فقيه يعلموننا الكتابة على ألواح خشبية، مطلية بمادة، ونكتب عليها بالفحم، ونحفظ القرآن”.
وتابع: “كل واحد منا كان لديه جزء من القرآن، وكنا يوميًا نمر على جزء من الآيات القرآنية، نحفظها ونتلوها على شيخنا الفقيه، نحن كنا نسميه سيدًا، وكنا ندفع له أجره، وهو عبارة عن كمية من الحبوب أسبوعيًا، كما كنا ندعوه لتناول وجبة الغداء يومًا في الأسبوع في بيت أحد الطلاب، وكان يُمنح مبلغًا ماليًا زهيدًا كأجر له”.
وأردف: “أتذكر أن هؤلاء الفقهاء كانوا يتعاملون معنا بقسوة، حيث كنا أطفالًا في سن لا نعي، ونميل للعب أكثر من التعلم، فكانوا يستخدمون معنا أساليب قاسية جدًا، حتى ننفذ التعليمات، وكانوا يجبروننا على حفظ آيات القرآن واستظهارها، وفي حال نسيانها، كنا نتعرض للعقاب”.
وزاد: “في السنة الثامنة من عمري، استكملت حفظ القرآن، لا أقول إنني حفظته كاملًا، لكن الفقيه كان يوميًا يستظهر معنا آيات، فكنت أحفظ جزءًا، ثم أنساه، وأنتقل إلى جزء آخر، وأحفظه، وبعد مدة أنساه، وهكذا، وبعد أن انقضت المدة، قيل لنا إننا أكملنا حفظ القرآن”.
وقال: “في آخر يوم، كان هناك احتفال، حيث يجتمع الأطفال، وينشدون أناشيد دينية، ويُركب المتخرج على حمار، ويلبسونه الدسمال الخاص بالمشايخ، وتكون هناك زفة واحتفال، وكان هذا من أمتع الأيام التي يعيشها الطفل، لأنه يعني الخلاص من الفقيه والذهاب إلى الكُتّاب، والضرب الذي كنا نتلقاه من الفقيه”.
(قناة بلقيس)