محمد عبدالله المساح ،،،، “استوقف الزمن نصف قرن، ومات مكلومًا”
وُلد محمد عبدالله المساح، في قرية الردع بمنطقة العزاعز، مديرية الشمايتين- محافظة تعز، في العام 1948. تلقى تعليمه الأوليّ في كُتّاب القرية (المِعلامة)، وفي سن الثامنة انتقل إلى عدن، حيث كان والده يعمل بائعًا جائلًا للتنباك. أقام في بيت ومقهى فارع الشهير بمنطقة كريتر، وواصل دراسته في مدرسة العجيل الأهلية، وهي مدرسة أسسها الشيخ العجيل، لتدريس أبناء اليمنيين الذين لا تقبلهم مدارس المستعمرة البريطانية.
يقول عن تلك الفترة: “في عدن درست في مدرسة «العجيل» مدة سنة، وقد كانت مدرسة أهلية لأبناء الشماليين؛ لأنّهم لا يقدرون أن يدخلوا مدارس حكومية، ومن الزملاء الذين درست معهم فيها: أيوب طارش، ومحمد قائد سيف البليط، وفي تلك الأثناء أخذني أبي لأتعلم القرآن في مسجد البيحاني من بعد عصر كل يوم، مع أنّ والدي كان لا يقرأ ولا يكتب، لكنه غرس في نفسي حب العلم، وكان رجلًا متدينًا وشخصًا عاملًا، وكان يحضر حلقات القرآن في مسجد البيحاني.
كان أبي يعمل في عدن بائعًا متجولًا يبيع التمباك وكان يحمله فوق رأسه، وفي كل يوم جمعة كان والدي يربط أربع حزم ويلفها في “الطربال”، وأحملها فوق رأسي ونمشي حتى نصل إلى محطة الباصات ثم نمشي من “كريتر” إلى باب عدن ثم «المعلا»، ونبيع “التمباك” حتى نصل إلى منتصف المعلا في الظهر ثم نصلي ونخرج نتغدى في المخبازة، يطلب لنا لحمًا، ثم نمشي من «المعلا» إلى “القلوعة” ثم إلى “حافون” ثم التواهي ثم إلى “بنجسار”، تأتي الساعة السادسة ونحن في “بنجسار” نهاية “التواهي”، وقد خلص أبي بيع التمباك”.
غادر مع الحجيج إلى جدة في العام 1959، حيث استقر والده وعمل بائعًا جائلًا للكيك، وهناك واصل تعليمه في مدرستي العزيزية والفلاح مدة عام. عاد إلى عدن في 1960، وواصل دراسته في المعهد الإسلامي، حيث درس على أيدي نخبة من المعلمين اليمنيين المناهضين لسلطة الإمام، منهم: أحمد دهمش، محسن العيني، أحمد حسين المروني، علي عبدالجبار النعيمي.
إلى جانب دراسته في المعهد الإسلامي، عمل في بيع الصحف العدنية الشهيرة (الأيام، وفتاة الجزيرة، واليقظة، وغيرها)، وبواسطة قراءة الصحف بدأت اهتماماته بالكتابة، ويقول عن ذلك:
“أثناء بيعي للصحف كنت أقرؤها وكانت قراءتي لها تفيدني ثقافيًّا، كما كنت أقرأ كتبًا خارج الكتب المدرسية، وأول كتاب قرأته كان في مكتبةٍ في شارع الملكة أروى، حيث كنتُ أذهب إليها، أطّلع على عناوين الكتب، وكان أول كتاب أقرؤه هو كتاب «الأجنحة المتكسرة» لجبران خليل جبران، ثم رواية «اللص والكلاب» لنجيب محفوظ”.
كان لاعب كرة قدم ماهرًا، ولعب للفريق الثالث في نادي الأحرار في منطقة القطيع خلال سنوات ثلاث بين 1960 و1963، كان وعي الفتى يتشكّل مع موجة المد القومي وانفجار ثورة سبتمبر 1962، ولهذا حين انتقل إلى مدينة تعز وسكن في القسم الداخلي في (دار الناصر)، ودرس في مدرسة الثورة ابتداء من العام 1963، كان قد حدّد خياره السياسي بالانضمام إلى حركة القوميين العرب.
بين 1963 و1966، واصل تعليمه الثانوي في تعز، وكان إلى جانب ذلك قائدًا طلابيًّا معروفًا بتوليه منصب الأمين العام للاتحاد، ويقول عن تلك الفترة:
“كان دور الحركة نشطًا جدًّا، وقد تمثّل هذا النشاط بالمسيرات والمنشورات، وقد لعبنا دورًا كبيرًا في توزيع نشرة الجبهة القومية التي كانت تصدر في تعز، كانت تعز حينها أشبه بخلية النحل في النشاط السياسي والاجتماعي والثوري ضد المستعمر، وكانت ثورة الشعب اليمني بكامله، وكانت (حركة القوميين العرب) متصدرة العمل القومي والنضالي ضد المستعمر”.
أولى محاولاته القصصية نشرها في صحيفة الجمهورية بتعز، وعنوانها (الوردة الذابلة)، ونشرت في 1965.
في صيف 1966، أدّى امتحان الشهادة الثانوية بمدرسة عبدالناصر بصنعاء، وكان ضمن أول دفعة طلاب ثانوية تخرجت من اليمن وانتقلت للدراسة الجامعية في القاهرة، وعن تلك الفترة يقول:
“وصلنا القاهرة في عام 1966، كنت ضمن بعثة الوافدين التي منحتها الحكومة المصرية، سافرت عبر ميناء الحديدة مع الجنود المصريين العائدين، ووصلنا إلى ميناء «الأدبية» قرب قناة السويس، ومن ثم ركبنا باصات إلى القاهرة.
درست في كلية الآداب، قسم صحافة، كانت تلك الفترة عز الفترة الناصرية، وأيضًا في الستينيات، أول ما وصلنا القاهرة كان المسرح في أوج نشاطه، وكذلك النتاج الفني والشعري، ومن أبرز الأدباء: صلاح عبدالصبور، وأمل دنقل، وحجازي، وفي الرواية نجيب محفوظ، والكثير.
وفي القاهرة لم أهتمّ بالعمل السياسي، مع أنه كان لي زميل مصري وتأثرت به كثيرًا اسمه «بدر السيد الرفاعي»، كان أبوه من مؤسسي حركة التحرر الوطني في القاهرة، وكان زميلي في الجامعة في كلية الآداب، وكان عميق الثقافة واستفدت منه كثيرًا، وكان رفيقًا مقربًا لي، وهذا الرجل ترجم عددًا من الكتب في المجال الثقافي، وطبعت له سلسلة عالم المعرفة عددًا من الكتب.
وفي تلك الفترة، كان تأثير النكسة علينا تأثيرًا رهيبًا في عام 1967، لحد أننا في الجامعة حاولنا أن نتجند مع المقاومة الشعبية، ولهذا تأثرنا بها كثيرًا، وكانت هناك نهضة قومية، وظاهرة في الستينيات، ممثلة في انتشار وتعميم الثقافة، كما أنّ عبدالناصر بعد 1967، بدأ يحتضن اليسار، وفي المجال السياسي تأثرت بالكاتب لطفي الخولي في مجلة «الطليعة»، وهي جريدة تصدر مع الأهرام، وكانت تصل إلى اليمن أيضًا.
القاهرة لعبت دورًا كبيرًا وأثّرت تأثيرًا كبيرًا عليّ، لم أكن مخططًا لدراسة الصحافة في القاهرة، ولكن الزملاء قالوا ندرس صحافة فدرسنا، ربما كان ذلك نتيجة تأثري بقراءة الصحف في عدن”.
عاد إلى صنعاء في صيف العام 1970، وعمل في وزارة الخارجية مدة عامين، وكان يشرف على نشرة (الدبلوماسي)، وتم تعيينه بدرجة سكرتير ثالث. وفي 1972، انتقل إلى وزارة الإعلام، وتم تعيينه رئيسًا لتحرير صحيفة الثورة الحكومية، لكنه أقيل بعد فترة قصيرة بسبب مقال، ويقول عن تلك الفترة:
“يومها كتبت مقالًا سياسيًّا يحمل طابعًا أدبيًّا عن «الحيَّات والحنشان»، أخذ الأستاذ دهمش بعض المواد، والأستاذ عبدالله الوصابي بعض المواد، وهذا المقال قلت للعمراني أن يقرأه ويشوف وهل فيه شيء، فقال لا يوجد فيه شيء، وقال العمراني لدهمش: “خلاص هذا يمر، لا يوجد فيه شيء”، وهذا المقال له حكاية لمقال كُتب قبله، عمل شوشرة في القصر الجمهوري أيام الإرياني، وبعد نشر المقال جاء الأستاذ أحمد دهمش، وقال: “لماذا كتبت هذا الكلام؟! هيا خلاص قد غيَّروك وعيَّنوا شخصًا ثانيًا رئيسًا للتحرير”.
اعتقل بسجن القلعة بصنعاء، مدة ستة أشهر بسبب آرائه السياسية، وبعد خروجه من السجن بدأ بنشر زاوية يومية في صحيفة الثورة عنوانها “لقطة من الزاوية”، و”الناس والأشياء”، و”لقطة من عين الكاميرا”، قبل أن تصير منذ العام 1975 “لحظة يا زمن”، وكانت من أكثر الزوايا متابعة وقراءة في الجريدة اليومية، وقد اتسمت بكثافتها ولغتها الأدبية السلسة، حتى عدت عند نقّاد نصوصًا شعرية جديدة (قصيدة نثر)، واستمر في كتابتها حتى مطلع التسعينيات، قبل أن يتوقف سنوات طويلة، ثم عاود نشر الزاوية مع مطلع الألفية حتى انفجار الحرب، وإن بشكل متقطع. “عيبة المجذوب” عنوان زاوية أسبوعية كان ينشرها في صحيفة الشورى بين 1997-1998.
أثناء إعدادها لكتاب “لحظة يا زمن محمد المسّاح”، في العام 2018، وضمن سياق الحوار، سألته المحاورة إنتصار السري عن مشاريعه المستقبلية، فقال:
“لا مشاريع مستقبلية لأنّي “شاروح” القرية أرقد وأموت؛ لأنّ الجو الآن مرعب وخانق، كأننا في عهد فرانكنشتاين”، وهو ما كان بالفعل عندما تُوفِّي بقريته مساء الجمعة 19 أبريل 2024، مكلومًا على ولده المفقود منذ سنوات.
المصدر:
كتاب “لحظة يا زمن محمد المسّاح – نصوص وشهادات”، جمع وإعداد: إنتصار السري، وفوزي الحرازي، صادر عن مؤسسة أروقة للدراسات والترجمة والنشر، عام 2020، في القاهرة.
•••
خيوط