حسن عبدالوارث
“رُبَّ يومٍ بكيتُ منه، فلما..
صرتُ في غيرهِ، بكيتُ عليهِ”
هذه من بكائيات العرب التي أطالوا الندب بها، حتى هذه اللحظة، لاسيما في بلاد اليمن. ولعلَّ الندب كان منصبّاً على فترة حكم الحزب الاشتراكي في الجنوب أكثر من أيّ شيء آخر، برغم ما يُؤخذ على تلك الفترة وذلك الحكم والحزب.
فما لاقاه أبو يمن بُعيد فقد الحزب الاشتراكي للسلطة، في مقابل ويلات بعد 1990، جعلت كثيرين من اليمنيين يترحمون عليه!
كانت مذبحة 13 يناير 1986 هي الضربة القاضية أو الطعنة النجلاء في جسد اليسار اليمني، كتجربة سياسية عريقة في النضال وفي الحكم. وهذه الأطروحة ليست فرضية نظرية بل حقيقة واقعة يتفق على صحتها أطراف هذه التجربة وأصدقاؤها وأعداؤها على السواء.
وقد أسهم الطرفان المتقاتلان يومها في توجيه الضربة أو الطعنة بهذا القدر أو ذاك، من دون تبرئة طرف لوحده أو شيطنة آخر دون غيره. ثم كانت حرب صيف 1994 المسمار الأخير في نعش هذا اليسار، حكماً وحلماً.
منذها لم تقم قائمة للحزب الاشتراكي اليمني الذي يُمثّل هذا اليسار، تاريخياً ووجودياً. وإذْ كان يحاول الاستنهاض ولو على أعضاء ممزقة وأنفاس متقطّعة، أُغتيل جار الله عُمر، ثم غادر ياسين نعمان البيت.. وأنكفأ الآخرون، أو غادروا وهاجروا وهجروا، أو باعوا القلعة بقملة، وبعضهم باعوا بعد أن بلعوا.. وبتلك المشاهد الدرامية اكتملت تراجيديا هذا الحزب وذاك اليسار.
وقد انهالت على هذا الحزب -منذ قيام وحدة 90، ثم منذ حرب 94 بالذات- موجة عاتية من الطعنات واللعنات، من داخله وخارجه معاً.. غير أنه من المثير للدهشة والريبة والاستهجان ليست الحملة الشعواء التي تعرّض لها هذا الحزب وذاك اليسار -كتجربة وكيان- بغرض شيطنته بالمطلق وطمس تاريخه وتشويه تراثه والتنكيل بمخزونه البشري والمؤسسي والفكري والسياسي، فهذا مشهد يُلامس المنطق الطارئ، الذي فرضته الأحداث عليه، ويُفهَم بأكثر من لغة في القاموس الذي حرّره وأصدره المطبخ السياسي والدعائي الذي أسّسه علي عبدالله صالح، ضمن مُخرَجات تلك الحرب الكارثية، بمعاونة رفاقه الأشاوس في قيادة حزب الاصلاح!
ولكن المدهش والمُريب والمُستهجَن حقاً هو موقف رموزه -وحتى موقف أصدقائه وشركائه العرب بالذات- مما ظل يحدث على مرأى ومسمع منهم.. بل إن الطامة الكبرى أن الموقف الذي انحصر عند بعض هؤلاء وأولئك في الصمت المطبق والانزواء المُخزي، قد تعدَّاه لدى البعض الآخر إلى الاسهام الفعلي مع أصحاب تلك الحملة في رسم خطوطها ونقش عناوينها وتنفيذ فصولها، حتى إن بعضهم كان مُعيناً مباشراً لعلي عبدالله صالح في ضرب هذا الحزب وتلك التجربة في مقتل.. أما من حاول الثبات والتماسك والتصدّي والتحدّي، في مواجهة هذه الحملة – المؤامرة، فقد تعرّض إما للقهر وإما للاهمال، وإما لما هو بين هذا وذاك، كما هو مثال المناضل النزيه أنيس حسن يحيى!
إن تقييم أية تجربة أو ظاهرة إنسانية، في السياسة أو سواها من مجالات النشاط الاجتماعي العام، لن يستقيم دون التحلّي بالموضوعية المنهاجية والأمانة الأدبية وانعدام الغرض الذاتي للنيل منها ومن شخوصها ومؤسساتها ومختلف تجلّياتها وانزياحاتها بكل أشكالها واتجاهاتها..
ولهذا سقطت مصداقية عديد من محاولات التقييم لهذه التجربة أو تلك الظاهرة بعد أن كانت -أو كادت أن تكون- سبباً في تشويه حقائق التاريخ والإساءة إلى عقل المتلقّي بمحاولة تزييف وعيه بالضدّ من جوهر هذه الحقائق.. وهي جريمة فادحة بامتياز.. فأقذر الجرائم في التاريخ هي تلك التي استهدفت الوعي بحقائق التاريخ.
( مقالي في موقع : بلقيس )