ضع اعلانك هنا

أمريكا، أمريكا؛ هي التي تشغلنا فكيف نفهمها..؟!..

•• بروفيسور : قاسم المحبشي ..

(هم يصنعّون المستقبل ونحن نستجّر الماضي)
ق.م….

التفكير ليس فطريا عند الإنسان كما قد رسخ في الأذهان -بسبب الخلط الشائع بين العقل والتفكير- بل هو أشبه بالسير على الأقدام بالنسبة للقرود ، بما ينطوي عليه من عسر ومشقة بالغة وهذا ما جعله في الثقافة العربية الإسلامية أمر يستعاذ منه اذ يشبه بالهم والقلق والشك والوسواس ( اللهم نجنبا من الهم والهرم! جنبكم الله كل فكر! لا يكون لك فكر! فالفكر والتفكير في في الثقافة العربية الإسلامية هو النقيض لراحة البال والطمأنينة والسكينة والناس في كل زمان ومكان قلما يميلون إلى الفكر والتفكير ، ولا يكون ميلهم اليه إلا كرها لا اختيارا وذلك في أوقات المحن والأزمات الكبرى إذ يضطرون اليه في مواجهة التحديات العسيرة..

أما في أزمنة اليسر والرخاء والدعة ، فالناس يعيشون حياتهم ويحمدون ربهم على راحة البال ورضا الضمير وبهذا المعنى نفهم صيغة المؤرخ الانجليزي ارنولد توينبي ، في التحدي والاستجابة ، التي أكد فيها إن الظروف الصعبة لا السهلة هي السر في فهم نشوء الحضارات ونموها وازدهارها وتعاقبها الدوري فحينما سقطت أثينا تحت سنابك خيول اسباطرة فكر أفلاطون بالجمهورية الرهيبة وحينما سقطت روما العظيمة علي يدي جيوش الامازيغ بقيادة حانيبعل فكر القديس اغسطين بمدينة الله ومدينة الشيطان وحينما سقطت الحضارة العربية الإسلامية بسيوف التتار فكر ابن خلدون بالتاريخ وقواه فكتب المقدمة التي أودع فيها فلسفته بالتاريخ. وحينما شاهد هيجل جيش نابليون في شوراع مدينته كتب عبارته الشهيرة ( العقل يمتطي حصانا)..

وحينما هزمت المانيا بالحرب العالمية الأولى كتب شبينجلر ، سقوط الحضارة الغربية وحينما شاهد ارنولد توينبي أفول نجم الامبراطورية البريطانية التي لا تغيب عنها الشمس كتب نظرية التحدي والاستجابة وحينما هزمت المانيا النازية في الحرب العالمية الثانية كتب هيدجر كتابه الوجود والزمان وحينما خيم الموت فوق اوروبا كلها كتب سارتر الوجود والعدم وحينما انتصرت الليبرالية الأمريكية وسقط المعكسر الاشتراكي كتب فوكوياما نهاية التاريخ والإنسان الأخير! وحينما ادركت الدوائر الاستراتيجية الأمريكية تكاليف نهاية التاريخ كتب هينتجتون صدام الحضارات وحينما انتصرت التقنية الرقمية كتب أولفين توفلر ميلاد حضارة جديدة اسماها حضارة الموجة الثالثة. وهي الشغالة في اللحظة الراهنة..

فمتى فكر العرب أو متى سوف يفكرون بالتاريخ وقواه ؟!وأنا أبحث في فلسفة المستقبل واجهت موقفان متناقضان كانا دافعا لازدهار الدراسات المستقبلية في الحضارة الغربية؛ الموقف الأول يتصل بالثقة بالتاريخ بوصفه تقدميا والموقف الثاني يتصل بفقدان الثقة بالتاريخ بوصفه بلا قيمة ولا أهمية.
اولا: على صعيد الموقف الواثق بالتاريخ أخذت فكرة التقدم تنتشر وتشيع في نسيج الثقافة الأوروأمريكية عقيدة عامة وفلسفة شاملة منذ القرن السادس عشر الميلادي ومابعده حتى منتصف القرن العشرين إذ لم تكن فكرة التقدم مجرد أراء يرددها مفكرون وإنما كانت اقتناعاً عاما لدى أهل ذلك العصر…

إذ كان لـ تحقيق الاستقلال الامريكي عام 1783 والنجاح في إقامة حكومة جديدة الأثر الكبير في تحويل المفهوم العقلي للتقدم إلى عقيدة راسخة في الوسط الثقافي الأمريكي اذ كتب “توم بين” “نحن الأمريكيين، نملك القوة والقدرة على أن نبدأ العالم من جديد، وأن العالم لم يشهد موقفاً مماثلاً منذ أيام نوح حتى الان، ونحن نقف على عتبة ميلاد عالم جديد”وكان “توماس جيفرسون” يطلق على أمريكا اسم “إمبراطورية الحرية” إذ كتب يقول “إن قدرنا أن نكون حائلاً دون عودة الجهل والبربرية وإن أوروبا القديمة سوف تعتمد علينا ونحملها على كاهلنا وتعرج بجانبنا تحت وطأةش شباك القساوسة والملوك، ترى ماذا سنكون عندما تصبح القارة الجنوبية تحت سيطرتنا وما هو الموقف الذي سنكلفه كقوة حليفة للعقل والتقدم وسند للحرية في العالم”( وفي عام 1858 كتبت مجلة “هاربرز منثلى” “إن كل ما له علاقة بوضعنا وتاريخنا وتقدمنا، يعين الولايات المتحدة أرضا للمستقبل” ويكتب ( هنري بلوسل) أن أمريكا تمثل اعلى مرحلة في الحضارة والتقدم والتجديد..

ويرى آرثر هيرمان إن فكرة التقدم الأمريكية كانت تنطوي بداهة على نظرة علمانية للتاريخ مناقضة للنظرة المسيحية اللاهوتية وإذا كانت فكرة التقدم قد ظللت بأفقها العام الفضاء الثقافي الاور أمريكي في القرن الثامن عشر، فربما يعود ذلك إلى كونها تمثل حينذاك الشكل المدرك الذي اتخذته مشاعر ودوافع وحاجات الطبقة البرجوازية الفتية التي كانت تعيش أوج فتوتها وشبابها، وقد كانت فكرة التقدم بما احتوت في ذاتها من قوة ديناميكية لتحريك الأفراد والأمم ودفعهم في اتجاه أنجاز الغايات والأهداف التاريخية..

ومن خبرتي المتواضعة في الدراسات الفلسفية تبين لي أن فلسفة التاريخ هي أهم نافذة لفهم التاريخ وقواه ومساراته الظاهرة والخفية وحينما تكوّن القارة الجديدة هي التي تقود التاريخ المعاصر فعليه اعادة النظر في تاريخ الحضارة البشرية بعيون فلسفية.
من نافل البيان أن عقيدة التاريخ لم تكن راسخة عند الأمريكيين، كما هي عليه عند الشعوب الأخرى، وذلك بحكم حداثة الولايات المتحدة الأمريكية و عمر العالم الجديد، وربما كانت الروح الأمريكية عموما تتميز بالنزعة المستقبلية، أكثر منها التاريخية، إذ أن الفلسفة البراجماتية التي تشكل الأساس الثقافي للمجتمع الأمريكي – تقوم على أساس النظر إلى المستقبل في كل التصورات، فبدلا من الاهتمام بالماضي و التاريخ والبحث عن أصول الأشياء والظواهر والأفكار والمؤسسات، انصرفت البرجماتية للبحث في النتائج العملية والمفيدة للحياة والتقدم فهي لا تسأل كيف نشأت المعرفة؟ أو ما هي الحقيقة؟ بقدر ما تسأل عن النتائج التي تترتب على هذه الفكرة أو تلك في عالم الخبرة الواقعية والحياة المباشرة؟ في هذه البيئة الثقافية المتحررة من آثار التاريخ و أثقاله والمتجهة بنظرها إلى المستقبل واحتمالاته عاش وفكر توفلر، وكان مشدود إلى المستقبل أكثر من الماضي، وفي جوابه عن سؤال هل أنت مستقبلي؟ أجاب توفلر: “لستُ أرفض كلمة مستقبلي لأنها لا تحمل أي معنى شائن…

والنظر إلى المستقبل هو وسيلة لتحسين القرارات التي يجب اتخاذها في الحاضر..فما من أحد في رأيي يستطيع أن يستمر في العيش عشر دقائق دون أن يخصص جزءًا مُهمًّا من نشاطه العقلي لإعداد فرضيات لها صلة بالمستقبل، وفي مرحلة من الاضطرابات الثورية كالتي نعيشها، فإن الماضي لم يعد دليلاً موثوقا عندما يتعلق الأمر بقرارات مباشرة وبإمكانيات يخبئها المستقبل، بل لا بُد من امتلاك فكرة واضحة عن المستقبل كضرورة جوهرية من أجل البقاء… ولكل ثقافة في نظري موقف خاص تجاه الزمن فمنها ما هو مستقطب حول الماضي إذ حيث يرسخون في أذهان الأطفال الفكرة القائلة بأن الحكمة والحقيقة تكمن في الماضي..ومثل هذه الثقافة تبقى قرونا وآلاف من السنيين حبيسة العش البيئي نفسه»..

ومنذ منتصف القرن الماضي سادت الثقافة الغربية عامة نظرة تشاؤمية إلى التاريخ بوصفه خبرة الماضي والتقاليد السابقة، إذ سادت عقيدة قوية من الشك والريبة تجاه التاريخ وعلومه، وأخذ كثير من المثقفين يفقدون الثقة بالتاريخ والمعرفة التاريخية ويعلنون عدم جدوى التاريخ، وقد حاول المؤرخ الأمريكي (شارلس أوستن بيرد) أن يفسر (أزمة التاريخ) بقوله: “إن جوهر الأزمة في الفكر التاريخي ينبع من فقدان اليقين. والعلم الحديث الذي انتزع منا اليقين اللاهوتي غدا عاجزا أن يقدم لنا وصفا أو نظاما مماثلاً للسياسة القومية و للسلوك، فنحن محرمون من أي تفسير أو دليل واضح بيّن ومحرومون من الأمل بيقين قادم.. و بات لزاما على البشر أن يسلموا بقابليتهم للخطأ ويرضوا العالم مكانا للمحاولة والخطأ» فهذا المؤرخ الإنجليزي المشهور “جفري باراكلاف” من جامعة اكسفورد يكتب تحت تأثير الإحساس العميق بالأزمة:”إننا مهاجمون بإحساس من عدم الثقة بسبب شعورنا بأننا نقف على عتبة عصر جديد لا تزودنا فيه تجاربنا السابقة بدليل أمين لسلوك دروبه، وأن أحد نتائج هذا الموقف الجديد هو أن التاريخ ذاته يفقد، إن لم يكن قد فقد سلطته التقليدية ولم يعد بمقدوره تزويدنا بخبرات سابقة في مواجهة المشكلات الجديدة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلاً منذ آدم حتى اليوم»..

هذا الإحساس المتشائم بعدم جدوى التاريخ سرعان ما سرى كما تسري النار في الهشيم بين قطاعات واسعة من الفئات المثقفة الأورأمريكية وهذا ما أفصح عنه المؤرخ البريطاني “ ج. هـ. بلومب “ في كتابه “ حيرة المؤرخ”عام 4691م، بقوله: “ليس للتاريخ معنى أو فاعلية أو رجاء، فقد اندثرت فكرة الرقي والتقدم الصاعد بين المشتغلين بالتاريخ، فــ 09% منهم يرون أن العمل الذي يمارسونه لا معنى له على الإطلاق»..

وقد بلغ هذا الموقف المتشائم من التاريخ والمعرفة التاريخية عند المؤرخ الأمريكي “ دافيد رونالد”من جامعة هارفارد حد الرفض للتاريخ والتشكيك بقيمته وأهميته في كتاب يحمل الاستفزاز والتحدي صدر عام 7791م بعنوان (تاريخنا بلا أهمية) أكد فيه عدم فائدة التاريخ الحاضر والماضي والمستقبل وأعلن: أن التاريخ يظهر مقدار ضعفنا وأننا لا نتعلم من اخطأ الماضي، وما أقل تأثيرنا فيما ينزل بنا من أحداث وما أشد عجزنا في قبضة قوى طبيعية أساسية هي التي تشكل الوجود الإنساني» ويمكن لنا تتبع حيرة الفكر المعاصر إزاء ما شهده العالم ولا يزال يشهده من اضطراب شامل في ذلك السيل المتدفق من المحاولات التنظيرية التي ترغب في توصيف ونمذجة وعقلنه المشهد التاريخي الراهن في أطر مفهومية مجردة وكلية، إذ أخذ الفلاسفة والمفكرون منذ أواخر القرن العشرين يتسابقون ويتنافسون في صياغة وإبداع ونحت المفهومة المعبرة أو الصورة الفكرية التي يمكن لها أن تعبر عن العالم المعاش، وتمنح الحقبة الجديدة اسمها ومعناها..

ومن تلك التوصيفات يمكن الإشارة إلى أشهرها وهي: العولمة، ما بعد الحداثة، ما بعد القومية، ما بعد الحرب الباردة، ما بعد الأيديولوجيا، ما بعد الاستعمار، ما بعد البنيوية، ما بعد التنوير، ما بعد الشيوعية، ما بعد المجتمع الصناعي، ما بعد التاريخ، نهاية التاريخ والإنسان الأخير»، عصر الليبرالية الجديدة، عصر التفكيك، مجتمع الفرجة، أو الاستعراض، عصر الكمبيوتر، ثورة المعلومات والاتصالات، أو صدام الحضارات، القرية الكونية، نهاية عالم كنا نعرفه”مجتمع الاستهلاك، عصر الديمقراطية، عصر التقنية، عصر التنوع الثقافية، العهد الأمريكي، أو الأمركة، عصر الإرهاب العالمي، السوق الحرة، والوطن السيبرنيتي، عصر الفضاء، والكوكبية وعصر التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي وغير ذلك من التوصيفات الكثيرة في أبعادها المتنوعة…

ضع اعلانك هنا