الكاتب / بروفيسور : قاسم المحبشي ..
كنت شاهدا على قصة ترجمة كتاب “تاريخ عدن 1839–1872” للمؤرخ الهندي الأصل البريطاني الجنسية Z.H. Kour. وانا من اقترحت أسم الزميلة العزيزة دكتورة شفيقة عبد القادر عثمان، للقيام بترجمته بحكم معرفتي بها استاذة الأدب والترجمة الانجليزية في جامعة عدن. كان ذلك في مطلع عام ٢٠١٧م حينما كنت نائبا لعمادة كلية الآداب. رشحتها لمدير مركز عدن للدراسات التاريخية دكتور محمود السالمي فرحب بالفكرة وطلب مني التواصل معها لتوقيع العقد في مكتب المركز. اتذكر بانني كانت حاضرا في ذلك اليوم. شكرا للدكتورة شفيقة عثمان للإشارة إلى أسمي في مقدمة الكتاب بوصفي أحد المشجعين لها. كتاب مهم جدا يغطي مرحلة تاريخية هامة في تاريخ عدن الحديث إذ هو دراسة أرشيفية موسّعة عن الاحتلال البريطاني لعدن، يكشف عن بنية السيطرة الاستعمارية وآلياتها بالاستناد إلى أرشيف الاحتلال بريطاني، وتقارير موظفي حكومة بومباي، ومراسلات عسكرية ودبلوماسية، ما يمنحه قوة توثيقية عالية الجودة والوثوقية بغض النظر عن كونه جاء محكوماً بالرؤية الإمبراطورية. إذ لاحظت إن السرد التاريخي ينطلق من زاوية “مصلحة الامبراطورية البريطانية” بوصفها محورا لتاريخ عدن، فيما تُقدَّم القوى المحلية (السلاطين، القبائل، التجار) كعوامل هامشية أو ردود أفعال، لا كفاعلين ذوي مشروع تاريخي للمجتمع المحلي؛ هنا تبدو في عدن وكأنها “موضوع جغرافي استراتيجي” أكثر من كونها مجتمعاً أصليا يمتلك مقومات وجوده الجغرافية والتاريخية والثقافية ويمكن قراءة العمل كمثال على ما يسميه إدوارد سعيد بـ”الجغرافيا المتخيَّلة”، حيث تتحوّل الأمكنة إلى مواقع وظيفية في خريطة القوة. نعم انه تاريخ القوة فالاكتشاف فعل حركة ونقلة وقوة وتفوق وسيطرة ومن يكتشف يصمم ويشكل يسمي الذات والأخر فمن نحن ومن الآخر وكيف يمكننا الخروج من هذه الشبكة العلائقية المستحكمة في تاريخنا الحديث والمعاصر؟
كتاب تاريخ عدن يقدّم وصفاً واقعيا لميناء عدن، تحصيناته، صهاريجه، بنيته السكانية، وأنماط المعيشة ولكنه وصف ليس بريئاً بل متسقا مع هدف تبرير السيطرة البريطانية فالمكان يوصف باعتباره حصناً طبيعياً ومخزوناً استراتيجياً، مع التركيز على قدرته على خدمة الملاحة البخارية وربط الهند بمصر. والناس يُختزلون إلى أرقام وتصنيفات إثنية (عرب، يهود، تجار هنود)، مع توصيف نمط عيشهم بطريقة توحي بالنظرة الاستعلائية بوصفهم بـ”البدائية” أو “التخلف” مقارنة بالمتحضر البريطاني القادم من الهند.
ذكرني هذا السرد التاريخي لمستعمرة عدن بعبارة ماركس الاستعمارية ( إنهم عاجزون عن تمثيل انفسهم ينبغي إن يمُثلوا) ففي كتابه المسألة الشرقية كان كارل ماركس يرى رأى أن بريطانيا، رغم وحشيتها الاستعمارية ونهبها للهند، كانت تفكك البنية الإقطاعية–القرابية التقليدية التي أبقت المجتمع الهندي في حالة “ركود تاريخي” قروناً طويلة اعتبر أن ” إدخال البنية التحتية الحديثة (السكك الحديدية، التلغراف، التعليم الإنجليزي) وتوحيد السوق القومية سيخلق شروط التحديث، حتى وإن كان ذلك بدوافع استعمارية محضة” وفي ذلك السياق يمكن قراءة كتاب تاريخ عدن بوصفه مصدراً مهما لفهم تفاصيل استيلاء الإنجليز على عدن في ١٩ يناير ١٨٣٩م لا اقصد التفاصيل العسكرية فقط، بل أيضاً عبر سياسات الموانئ، وتنظيم الأسواق، وإدارة السكان وكل ما يتصل بحياة عدن واهلها وجيرانها بما في ذلك تلاعب بريطانيا بالتوازنات بين السلاطين والقبائل، مع استخدام المعاهدات كأدوات سياسية أكثر من كونها التزامات متكافئة فضلا عن البعد الاقتصادي: التركيز على عدن كمحطة للفحم وتجارة البُن، بما يعكس أن الاقتصاد كان جزءاً عضوياً من مشروع السيطرة، وليس مجرد نتيجة جانبية.
على كل حال كتاب تاريخ عدن يقدم جرعة معرفية مهمة عن تاريخ عدن في منتصف القرن التاسع عشر، لكن قيمته الأعمق تكمن في كشفه عن المنطق الاستعماري في إنتاج المعرفة التاريخية. فهو مثال كلاسيكي على كيف يمكن أن تتحوّل الكتابة التاريخية إلى أداة هيمنة، حتى وهي تسرد “وقائع” تبدو محايدة. ولهذا فمن المهم قراءته بعيون نقدية محايدة تضعه في مواجهة السرديات المحلية الشفوية والمكتوبة، وأن نعيد صياغة تاريخ عدن من منظور سكانها، لا من منظور المدافع والسفن التي جاءت من بعيد….