ضع اعلانك هنا

شجاعة المغامرة ودهشة الاكتشاف…

الكاتب / بروفيسور قاسم المحبشي …

ليست لوحة بيردل بوريل “خارج الإطار ” مجرد حيلة بصرية تُوهمنا بخروج شاب من إطار اللوحة، بل هي استعارة عن خروج الذات من أسر الجماعة، وتجاوز سطوة القطيع التي صاغتها التقاليد والعادات والأوهام الجمعية. إنّها لحظة الانفلات من الكهف، كما وصفه أفلاطون، ولحظة الوثبة الأخيرة نحو النور. فالفتى الذي يتأهب لعبور الإطار يبدو محمّلاً بصدمة الوعي الأولى: عيناه مشعتان بدهشة بريئة، دهشة من يكتشف العالم للمرة الأولى، وابتسامة نصف خجولة تنبئ عن فرح طفولي ممتزج بيقظة عقلية. صدره العاري وقد برزت أضلاعه كأنما اغتسل من أدران الكهف وظلاله، فيما يديه تشدّان على حافتين متقابلتين: اليمنى على سواد الداخل، واليسرى على ضوء الخارج، وكأن جسده يرسم قوس العبور بين عالمين. أما قدمه اليمنى فقد استقرت على اليقين الجديد، فيما اليسرى لم تزل سوداء مترددة عند تخوم الداخل، لكنها تستجمع قواها لوثبة رشيقة حاسمة. وهكذا تتحول تفاصيل الجسد إلى رموز: ذي معاني فالقبضة تعلن ثقة الفرد بنفسه حين ينفلت من جماعة القطيع والابتسامة تحمل فرح البداية الممزوج بقلق المغامرة والصدر العاري يشي بالتحرر، وكأن الانعتاق من الوهم يحتاج إلى تطهير رمزي من ثقل الماضي. انظروا إلى عينيه:
عينان مشتعـلتان بدهشة البدايات، دهشة من يرى العالم كما لو أنه يولد من جديد.
وانظروا إلى شفتيه:
ابتسامة نصف مكتومة، خليط من خوفٍ ومرحٍ طفولي، كمن يخطو أول مرة فوق أرض لم تطأها أقدام

اللوحة تحاكي النفس البشرية في علاقتها بالجماعة المتكيفة. فسيكولوجيا القطيع تجعل الإنسان يستسلم طوعًا لأوهام القبيلة والمسرح والكهف والسوق، ويعيش مطمئنًا داخل إطار رسمه الآخرون له. هناك، حيث تسود الكلمات الموروثة والتصورات المعلّبة، حيث رأي “الأسلاف” يُقدّس بوصفه نهاية كل حكمة، وحيث اللغة تصبح شبكة تحاصر الوعي أكثر مما تحرره. لكن اللحظة الفاصلة تأتي حين يجرؤ الفرد على خيانة الجماعة، حين يغامر بالانفصال عنها. إنها لحظة قدح الشرارة الأولى، لحظة يقول فيها المرء: “سأرى بعيني لا بعيونكم”. هنا يبدأ التاريخ الشخصي، لا كظلّ للجماعة، بل كصوت منفرد يكتشف العالم بكامل دهشته الأولى. لوحة بوريل ليست إذن مجرد مشهد فني، بل نص بصري عن شجاعة الخروج من القطيع. إنّها تقول لنا: كل إنسان يحمل كهفه، وكل إنسان مدعوّ إلى القفزة الأخيرة. فالخارج من الإطار لا يغادر مجرد لوحة، بل يغادر وهمًا جماعيًا، ويدخل عالَمًا جديدًا مفتوحًا على الدهشة والحرية.
اللوحة كلها تنبض بسؤال أبدي:
أيجرؤ الإنسان أن يرى بعينيه، لا بعيون الجماعة؟
أيجرؤ أن يفكر بعقله الخاص له بما لقنوه؟ أبحرؤ أن يكسر المسرح، أن يهجر الكهف، أن يخلع أقنعة اللغة التي فرضها السوق؟
أن ينظر إلى العالم لا كما قال الأسلاف، بل كما يتكشف أمامه الآن، عارياً وبريئاً؟هذا الفتى ذي القلب الجسور والعقل الطائش ليس مجرد بطل لوحة فنية، بل هو رمز لكل من تجرأ أن يقول:
“لن أعيش سجين أوهامكم. سأقفز”.

ضع اعلانك هنا