عبير اليوسفي / خيوط
تنفرد الروايات التي تتناول موضوع الهُوية والاغتراب وتساؤلات الإنسان الوجودية، بكونها مكاشفة ومعاينة لأحوال المجتمعات، ومنها يعيد الكتاب هندسة حياة الشخصيات وتفاعلاتها داخل الزمن والمكان وتأثيرات الأحداث، لتصير تعبيرًا عن ديمومة الحياة ومساراتها المتعرجة.
رواية عبده خال (نباح) تمثل أنموذجًا كاشفًا لهذا القول حين تعيد اكتشاف عدن المكان أولًا، وخرج فيها الكاتب عما هو معتاد ومتداول من أساليب الكتابة السردية، فتظهر عدن للقارئ مستباحة بماضيها الاستعماري:
“شوارع عدن بقايا لذاكرة إنكليزية لم يستطع الرفاق محو الثقافة الأنجلوسكسونية التي جاءت إلى هذه البقعة في منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، ولم يستطيعوا إجادة لعبة الإحلال والإبدال، بقي الإنكليز يمدون أعناقهم من خلال الشوارع، والبيوت والتاريخ، والذكريات …”.
في النص نلتقي بأول شخصياته “عياش” الصوت الذي يعلل الارتباك الذي تعيشه المدينة بالتعليق: “حتى المدن تتشتت خطاها، حين يمتطي صهوتها سائس أخرق”.
انحصر زمن الرواية بين فترة الغزو العراقي للكويت وعشر سنوات تالية (1990-2000)، ويبدأ من قلق المجتمع السعودي في تلك الفترة، ومن تهديدات صدام بالقصف ومحاولة تأمين المنازل بإلصاق النوافذ. لكن ثمة نافذة ظلت مشرعة يسترق منها البطل لحظات قصيرة مع حبيبته اليمنية والتي عاشت في مدينة (جدة) التي ينتمي إليها السارد.
يفترق الحبيبان بسبب العودة الجماعية التي فُرضت على المغتربين اليمنيين في فترة الحرب، حين بث فيهم خطاب رئيس الدولة الحماسة للعودة، وتصنيف من بقي هناك بالعميل، فانجرف الكثيرون للعودة دون تخطيط مسبق بسبب سيولة المشاعر الوطنية والتي عززتها أيضًا التحولات السياسية الجديدة في البلاد في أشهُر الوحدة الأولى.
من على الطائرة المتجهة إلى مطار صنعاء تتكشف للقارئ تفاصيل تلك الحكاية اليمنية السعودية، التي انتهت بعودة “وفاء” وعائلتها إلى اليمن، ومحاولات السارد البحث عنها طيلة عشر سنوات في المدن اليمنية دون فائدة.
لم يستطع اليمنيّون في تلك الفترة أن يخرجوا بأقل الخسائر حين “دهف” بهم موقف الحكومة اليمنية نحو الوطن في شوق وآمال خابت كثيرًا عند الاصطدام بالواقع اليمني.
هذا السيناريو تكرر بطرق مختلفة في السنوات الأخيرة مع العودة الجماعية لألوف المغتربين بعد صعوبة استمرار الإقامة وأكلاف المعيشة المرتفعة، ليشكلوا في عودتهم أعباء إضافية في بلد تنهشه الحرب والفوضى وانعدام الفرص.
في منتصف الرواية، تتكشف هوية البطل، وهو صحفي سعودي حضر إلى اليمن من أجل تغطية قمة مؤتمر الديمقراطيات الناشئة، وفي رحلة البحث عن الحبيبة التي غيّبها الرحيل عنه ينقلك في حوارات عدة عن الهوية والوطنية والحرية داخل اليمن.
عند الوصول الأول إلى صنعاء، يفكر قبل الهبوط من الطائرة بالمقولة الشهيرة “لا بد من صنعاء وإن طال السفر”، ويعلق: “من شذب هذا المثل حتى يغدو مسافرًا على كل لسان، وتغدو صنعاء آخر المرافئ لرحالة يجد في حصونها مستقرًّا أو عاشقًا خرج يبحث بين جبالها عن فتنة خبأتها… من قال “لا بد من صنعاء وإن طال السفر”؟ الأمثال تنفر من الشفاه وتنسى أن تعود لصاحبها، يغدو المثل ملكًا مشاعًا للناس، كل الناس، وصنعاء كتاب نثر حروفه على الألسن فلم يعد أحد إلا وجعل صنعاء بغية لشيء ما حاك في صدره” (الرواية).
ربط الكاتب بين الأوضاع السياسية في تلك الفترة وبين شخصياته، فكان الحدث السياسي الأبرز هو تغطية انعقاد مؤتمر “الديمقراطيات الناشئة” في اليمن، وتواجُد الصحفيين، ليدار بينهم حوار حول الآراء السياسية والمواقف، وينتهي بجدل عن الحرية وحقوق الإنسان.
في ثنايا السرد، لم تغب عن النص الأغاني، فقد استعان الروائي بصوت أيوب طارش ودندنة “ارجع لحولك كم دعاك تسقيه”، وفي وصف دقيق للأغنية اليمنية، يقول: “الأغاني اليمنية سحقت قلوب العشاق، أغانٍ تذكرك بذلك الاحتراق الذي تركه الشعراء مبذورًا بين اللحن والكلمة” (الرواية).
هذه الرواية واحدة من أعمال عبده خال الكثيرة، مثل: (الطين، وترمي بشرر، وفسوق، ومدن تأكل العشب، ولوعة الغاوية، أنفس، صدفة ليل، وشائج ماء، الأيام لا تخبئ أحدًا وغيرها) غير أنّها لم تحظَ بالانتشار، وتعرضت لانتقادات فنية وموضوعية.
وقيمتها الموضوعية، من وجهة نظري، في هذه المقاربة تكمن في حضور اليمن الطاغي فيها، حين سلط الكاتب الضوء على موضوعات تغريبة اليمنيين الكبرى (الهجرة)، التي غدت واحدة من مستلهمات الروائيين الرواد، وبدأت من رواية (فتاة قاروت) لأحمد السقاف قبل قرابة قرن، ونضجت جماليًّا مع رواية (يموتون غرباء) لمحمد عبدالولي، حين صار المهاجر والمغترب ومعاناته تحت مجهر المعاينة مثل البطل “عبده سعيد” في الرواية، الذي يموت غريبًا في أرض الحبشة، وهو يحلم بالعودة نهائيًّا إلى قريته وداره الذي لم يشاهده إلا بواسطة صورة كانت معلقة في دكانه، حيث مات بداخله في ليلة باردة بسبب اختناقه بدخان وقِيد التدفئة.
•••عبير اليوسفي
كاتبة وأديبة يمنية
المادة خاص بمنصة خيوط