ياسمين الصلوي /خيوط
الواحدة ظهرًا بتوقيت مدينة الحديدة؛ أحدهم يطرق باب المنزل ببطء، تركت ما بيدي من خضروات كنتُ بدأت بتقطيعها لتجهيز وجبة الغذاء، وذهبت لفتح الباب. ثلاث طفلات بزّيّهن المدرسي يتصببن عرقًا، وقد ارتسم البؤس والتعب على وجوههن السمراء وأجسادهن النحيلة التي نحت عليها الحر تقيحات وطفحًا جلديًّا. قبل أن أتحدث، تقدمت إحداهن وهي تحمل حقيبتها بيد وحجاب رأسها باليد الأخرى، قالت بلهجتها التهامية الخالصة وهي تمسح بساعدها حبات العرق العالقة في وجهها: “أنتِ صحفية؟ اكتبي أن امْحَرّ، حرّقِحْنا (أحرقنا). ندرس في امْفصل وامَّراوح طافية، ليش ما يولّعوا امْكهرباء واصل؟ قولي إنه نِحْنا (نحن) مُشْ بايْكين (ذاهبين) للمدرسة لو امْكهرباء كذا تطفي!”. ملامح التعب التي ارتسمت على وجوه الطفلات الثلاث، كانت كافية للكتابة عن معاناة طلاب المدارس في محافظة الحديدة جراء موجة الحر الشديدة في ظل أزمة الكهرباء التي تشهدها المدينة صيفًا بعد آخر.
نفور الأطفال من المدارس
عام دراسي جديد استقبله طلاب مدارس مدينة الحديدة في ذروة الحرّ، يتنافسون داخل الصفوف على الجلوس تحت مراوح لا تكاد تخفف شيئًا من حرارة الجو التي تتجاوز 40 درجة، وفي معظم الأحيان تكون معطلة أو بلا تيار كهربائي لتشغيلها. أغلب مدارس المدينة ينقطع عنها التيار الكهربائي باستمرار، في أغلب ساعات الدوام المدرسي إن لم يكن كله؛ وضع مأساوي يتكبده طلبة مدارس الحديدة كل موسم صيف.
“ابنتي في السادسة من العمر، تدرس تمهيدي، تداوم يوم وتغيب أربعة أيام، يطلع في جسمها صنافير (تقرحات) من شدة الحر وانقطاع الكهرباء”، بهذه العبارات بدأ صدّيق الغفراني حديثه لـ”خيوط”، عن معاناة ابنته رنا.
صدّيق الغفراني من بين آلاف الآباء في مدينة الحديدة الذين يشكُون وضع أبنائهم في المدارس بسبب الحر وانقطاع التيار الكهربائي الذي ضاعف المشكلة. بسبب ما يسببه الحر الشديد لطفلته، قال صدّيق إنه تمنى لو لم يُلحِقها بالمدرسة، وهو يعتقد بأن الكثير من الآباء في الحديدة يشاركونه ذلك، ويتساءل: “فهل يشاركونا الآباء في المناطق الباردة هذه الأمنية؟”.
تعاني والدة الطفة سلا (8 سنوات)، صعوبة في إقناع ابنتها بالذهاب إلى المدرسة كل صباح، بسبب الحرّ الشديد والخانق في المدارس. تقول والدة سلا في حديثها لـ”خيوط”، إن طفلتها تعود من المدرسة وهي تتوعد بعدم الذهاب في اليوم التالي، بسبب توقف المراوح التي تلطف الجو في صفها؛ نظرًا لانقطاع الكهرباء بشكل متواصل. وتضيف أن طفلتها ليست الوحيدة التي ترفض الذهاب إلى المدرسة، بل إن كثيرًا من صديقاتها يعانين من الإشكالية نفسها، وأن الأطفال باتوا يفضلون البقاء في المنزل على الذهاب إلى المدارس، لا سيما المدارس المزدحمة بالطلاب.
فيما يقول فاروق (43 سنة)، إن طفله محمد (9 سنوات)، يغادر البيت ويذهب مع أصدقائه إلى منزل أحد زملائهم بدلًا من الذهاب إلى المدرسة، ثم يعودون إلى المنازل متّخذين في كل مرة عذرًا لعدم ذهابهم للمدرسة.
ويرى فاروق أن وضع المدارس في الحديدة -خصوصًا مع ارتفاع درجة الحرارة- لا يشجع الطلبة على حضور الحصص الدراسية، وأن الأهالي هم من يتكبدون عناء إقناع أبنائهم بالتوجه إلى المدارس، خوفًا على مستقبلهم، حد قوله.
ويتابع: “حين أبدأ بتجهيز ملابس ومستلزمات محمد استعدادًا لذهابه إلى الدراسة في بداية كل عام دراسي، يتمرّد على الذهاب للمدرسة، ويبدأ بطرح فكرة السفر والتنزه على والدته”.
وجود الكهرباء بشكل متقطع في الفصول الدراسية لا يكفي لتلطيف الهواء مقابل ما تشهده المدينة من ارتفاع غير مسبوق في درجة الحرارة.
الصيف الأكثر حرارة
في الوقت الذي أعلنت فيه “الخدمة الأوروبية للتبدل المناخي” أن صيف 2021، هو الأكثر حرًّا في تاريخ الأرض، تعود الطفلة كفاية (11 سنة) إلى المنزل بملابس مبتلة بالعرق؛ نظرًا لازدحام صفّها بالطالبات وانقطاع الكهرباء أغلب ساعات الحصص الدراسية.
تقول كفاية بمرارة، إنها وصديقاتها في الصف صنعن من أغلفة الكراسات مراوح يدوية، من أجل الحصول على القليل من الهواء البارد.
وتشير في حديثها لـ”خيوط”، إلى أنها تعجز عن كتابة واجباتها المدرسية عند عودتها من المدرسة، وذلك نتيجة ألم في يدها إثر استخدامها للمراوح المصنوعة من الأوراق باستمرار.
وفي السياق نفسه، تقول والدتها إنها عندما تفتح حقيبة ابنتها من أجل مساعدتها في مراجعة الدروس، تفاجأ بأن ما كتبته في المدرسة من دروس، قد انمحى نتيجة العرق الذي يتصبب منها على الكراسات.
عادل مراد، هو أحد الآباء الذين يلامسون مشقة أبنائهم تحت وطأة الحر الشديد في المدينة الساحلية.
يقول عادل إن ابنه يعود من المدرسة مرهقًا جدًّا، نتيجة عدم وجود كهرباء في مدرسته، ويشير إلى أن التيار الكهرباء منقطع عن المدرسة منذ بداية العام الجاري (2021) ولم يعد حتى الآن.
أما عن المدارس المزودة بالطاقة الشمسية، يقول أحمد أمين (اسم مستعار)، وهو معلم في إحدى المدارس الحكومية، أن طلاب هذه المدارس يعانون في الأيام التي تتلبد فيها السماء بالغيوم أو تشهد أمطارًا، لكنهم أفضل حالًا من المدارس التي تعتمد على الكهرباء.
أسماء (34 سنة)، وهي معلمة في إحدى المدارس الحكومية أيضًا، تقول إنه وبالرغم من أن المدرسة التي تعمل فيها موصولة بخط كهرباء تجاري، إلا أن الطلبة والمدرسين يعانون كذلك من انقطاع الكهرباء عن المدرسة لأسباب تعود لانعدام المشتقات النفطية أو الضغط الشديد على محطات التوليد، خصوصًا في فصل الصيف الذي تزيد فيه حاجة المواطنين للكهرباء.
وترى أسماء (اسم مستعار) أن وجود الكهرباء بشكل متقطع في الفصول الدراسية لا يكفي لتلطيف الهواء مقابل ما تشهده المدينة من ارتفاع غير مسبوق في درجة الحرارة.
كما ترى أنه بات من الضروري توفير كهرباء مستمرة لمدارس مدينة درجة حرارتها تفوق طاقة تحمّل الطلبة وقدرتهم على الاستمرار في الفصول طيلة ساعات الدراسة بدون مراوح تبريد.
وتشير أسماء في حديثها لـ”خيوط”، إلى أن عدد الطالبات في بعض الصفوف التي تعمل فيها، تصل من 80 إلى 90 طالبة، هذا في الوقت الذي كان فيه التسجيل لا يزال مستمرًا وقت كتابة هذا التقرير. وتقول أسماء إن ازدحام الفصول فاق الطاقة الاستيعابية للمدرسة، ما ضاعف تأثير شدة حرارة الجو على الطالبات.
فقدان القدرة على الاستيعاب .
زارت “خيوط” بعض مدارس مدينة الحديدة، حيث أفاد معلمون فيها أن كثيرًا من الطلاب ينشغلون أثناء تدريس الحصص بتخفيف الحر عن أجسادهم، بين من يخلع ملابسه أو يصنع له مروحة يدوية أو البحث عن الهواء أمام النوافذ؛ الأمر الذي يجعلهم يصابون بإرهاق شديد وخمول، خاصة الأطفال. لذا فإنهم في هذه الحالة لا يستطيعون استيعاب أي معلومات أثناء شرح الدروس. إحدى المعلمات تحدثت لـ”خيوط”، عن المشكلة -بشرط عدم نشر اسمها- مؤكدة أنها حين تنظر إلى طالباتها أثناء شرح الدروس، تلاحظ عليهن الإرهاق والخمول الذهني والبدني “كأنهن يشاهدن فيلمًا مملًّا وينتظرن نهايته بفارغ الصبر”.
وتشير في حديثها إلى أنها لا تستطيع أن تتخذ أي عقوبة صارمة ضد خمولهن الذهني كونه أمرًا خارجًا عن إرادتهن، وأن المعلمات حين يلاحظن فقدان الطالبات للقدرة على الاستيعاب بسبب الحر الشديد، يسمحن لهن بمغادرة المدرسة قبل انتهاء الدوام، وهو ما يؤثر بدوره على التحصيل العلمي ويربك العملية التعليمية في المؤسسات المخصصة لها.
آباء الطلبة: “إذا كانت معوقات “الحرب والحصار” تحول دون قدرة الجهات المختصة على حل مشكلة الكهرباء طوال العام، فإنه من الواجب إيجاد حلول جذرية للكهرباء على الأقل في الصيف”
معاناة مشتركة
رغم انقطاع رواتبهم منذ خمس سنوات على الأقل، والظروف القاهرة التي يمر بها معلمو مدينة الحديدة مثل غيرهم في المحافظات الأخرى، فإنهم يدأبون في أداء مهمتهم التعليمية في وضع استثنائي تعيشه أكثر المدن اليمنية ارتفاعًا في درجة الحرارة، إضافة إلى ما تعانيه المدينة من ويلات الحرب منذ العام 2015.
كثير من المعلمين والطلبة يشكُون من عدة أمراض يتسبب الحر الشديد في مضاعفاتها، منها ارتفاع وهبوط ضغط الدم، والسكر، وصعوبة في التنفس، فيما تتكرر حالات الإغماء في المدارس، خصوصًا عند انقطاع الكهرباء، وهذا ما أكده عادل، وهو معلم ثانوية في إحدى مدارس المدينة.
ويشير عادل إلى أنه يحاول أداء مهمته في جحيم الحر الشديد، وأنه بفعل انقطاع الرواتب يصرف على الوظيفة من نقوده التي يكسبها من أعمال أخرى صار يمارسها منذ انقطاع راتبه. يفعل ذلك -كما قال- خدمة لوطنه وللأجيال، على أمل أن تكون السنوات القادمة أفضل.
وتؤكد المعلمة حنان (اسم مستعار) أنه بسبب الحر يحضر المعلمون والطلبة إلى المدارس وهم مرهقون، نظرًا لقلة النوم والراحة في المنازل بسبب الحرّ أيضًا، ما يجعل العملية التعليمية في المدينة تسير بشكل منقوص.
حنان وغيرها من المعلمين يرون كذلك أن أحد دوافع الطلبة لمغادرة المدرسة قبل انتهاء الدوام، هو العطش والجوع، حيث بالكاد يكفيهم المصروف المدرسي لشراء الماء دون الأكل، وتؤكد أن كثيرًا من الطلاب يستأذنون للذهاب إلى دورة المياه، وهم في الأساس يخرجون إلى تحت الأشجار في ساحة المدارس للحصول على هواء بارد.
وفي السياق ذاته، يفيد هؤلاء المعلمون والمعلمات، أن أغلب الطلبة في مدينة الحديدة يواصلون التعليم رغم ما تعانيه أسرهم من تعثّر مادي وظروف معيشية صعبة، وأن هناك طلبة، ومعلمين أيضًا، يقطعون مسافات طويلة تحت الشمس الحارقة والحر الشديد حتى يصلون إلى مدارسهم، فليس الجميع قادر على توفير تكاليف المواصلات.
رسالة ومناشدة
ويناشد الأهالي في مدينة الحديدة “الجهات المختصة” في الحكومتين المنقسمتين، لضرورة إبقاء التيار الكهربائي مستمرًّا في المدارس، على الأقل خلال ساعات الدراسة (قرابة خمس ساعات فقط)؛ كون حال الكهرباء بهذا الشكل، تساعد شدة الحر في التأثير على التحصيل العلمي للطلبة، كما يلعب انقطاع الكهرباء عن المدارس دورًا في نفور الطلبة من الذهاب إليها، وهو ما يعني تزايد معدلات الأمية والجهل، وانتشار الأمراض أيضًا.
كما يناشد المعلمين في مدارس المدينة فاعلي الخير والمنظمات العاملة في المجال الإنساني، دعم مدارس المدينة ببرادات حتى يستطيع الطلاب الحصول على الماء البارد، خصوصًا أبناء الأسر الفقيرة الذين لا يستطيعون شراءه.
معلمون من المدينة وجهوا رسالة إلى كل من له كلمة نافذة في مسألة الدوام وانقطاع الكهرباء، أن يتفهموا وضع مدينة الحديدة، وأن يقدّموا حلولًا عاجلة لمشكلة انقطاع الكهرباء عن المدارس، خصوصًا أن هناك مدارس لا يوجد فيها كهرباء عامة، ولا منظومات طاقة شمسية، ولا كهرباء تجارية.
أما رسالة الأهالي، فقد توحدت في أنهم يأملون بأن تراعي السلطات التربوية ظروف أبنائهم ودراستهم وسط موجات الحر الشديد، سواء بتأجيل بدء الدراسة إلى ما بعد انتهاء موسم الحرّ، أو بتعديل ساعات الدراسة، كما تفعل بالنسبة لطلبة المناطق الباردة في مواسم البرد الشديد.
ويؤكد الأهالي في رسالتهم للجهات المختصة، أنه إذا كانت معوقات “الحرب والحصار” تحول دون قدرتها على حل مشكلة الكهرباء طوال العام، فإنه من الواجب إيجاد حلول جذرية للكهرباء على الأقل في الصيف، كون أبنائهم معرضين في المدارس لشتى الأمراض.
•••ياسمين الصلوي
المادة خاص بمنصة خيوط