محفوظ الشامي
خيوط
يعمل المواطن عبدالملك الصوفي (47 سنة)، في مدينة دمت وسط اليمن، ويقضي فيها من شهرين إلى ثلاثة في العمل لجمع مبلغ من المال يرسله إلى أسرته المكونة من أربعة أفراد في منطقة حبيش بمحافظة إب.
يقول الصوفي لـ”خيوط”: “أجمع ما يقارب 100 ألف ريال كل شهرين، لكن عند إرسالها عبر الصرافة، وبسبب مشكلة فوارق الصرف، أصبحت تعادل 75 ألفًا فقط”. يتقاضى عبدالملك أُجرته بالعملة الجديدة، وربّ العمل لا يراعي الفرق بين الطبعتين من العملة، فتتحول الـ3000 ريال، أجره اليومي، إلى 2100 ريال، سواء أرسلها إلى محافظة إب أو استخدمها في مكان عمله في دمت.
تعيش اليمن منذ نهاية العام 2019، على وقع صراع مالي طاحن بين الحكومة المعترف بها دولياً وسلطة أنصار الله (الحوثيين)، بعد قرار الأخيرة رفض التعامل بالعملة المطبوعة خلال سنوات الحرب، ومصادرتها ومنع تداولها في مناطق سيطرة الجماعة.
وتأثرت الأسواق اليمنية بشدة نتيجة هذا الصراع الذي تسبب في انخفاض قيمة الريال اليمني بنسبة كبيرة مع فارق سعري في صرف العملة أمام الدولار والريال السعودي والدرهم الإماراتي وغيرها، وأدى ذلك لارتفاعات متزايدة في أسعار السلع. وأبعد من ذلك، حدث ما لم يكن يتوقعه المواطن اليمني، حيث صار فارق القيمة الشرائية للريال، متفاوتاً بين الطبعة القديمة من الريال، وبين الطبعة الجديدة، وارتفعت عمولة الحوالات المالية بين مناطق الحكومة المعترف بها والمناطق الخاضعة لسيطرة أنصار الله (الحوثيين) بنسبة تتراوح بين 10-15%.
وعقب نقل البنك المركزي اليمني من صنعاء إلى عدن في سبتمبر/ أيلول 2016، باشر البنك الخاضع لإدارة الحكومة المعترف بها، ضخّ مليارات من العملة التي تمت طباعتها في روسيا إلى الأسواق، وصرف رواتب الموظفين المدنيين في مناطق نفوذها، وهو ما دفع سلطة صنعاء إلى استنكار ضخ العملة بكميات كبيرة، والمطالبة بصرف رواتب الموظفين في كافة المحافظات اليمنية، ثم منعت تداول العملة الجديدة في مناطق سيطرتها.
وبررت الحكومة المعترف بها دولياً نقل البنك المركزي من صنعاء إلى عدن، بأن جماعة أنصار الله (الحوثيين) تستخدم السيولة النقدية فيه، بما في ذلك الاحتياطي النقدي من العملات الأجنبية، لتمويل مقاتليها في جبهات الحرب.
على الرغم من تضرر المواطنين واهتزاز الأسواق والمصير المجهول لرواتب الموظفين، إلا أن السلطات المحلية ترى منع تداول العملة الجديدة قراراً صائباً فرضته الضرورات الاقتصادية
فوارق المنع
تقع مدينة “دمت” وسط اليمن، وهي إحدى مديريات محافظة الضالع التي استحدثت بعد إعلان الوحدة اليمنية عام 1990. كان الهدف من استحداث المحافظة ربط المناطق الواقعة على خط الحدود بين الشطرين بصيغة وحدوية في التقسيم الإداري، فتضمنت محافظة الضالع مديريتي دَمْت والحُشاء وقعطبة بعد أن كانت تابعة لمحافظة إب (شمال)، مثلما تضمنت محافظة لحج (جنوب) مديريات كـ”القبيطة”التي كانت تابعة لمحافظة تعز (شمال).
ومدينة دمت هي مركز المديرية التي تحمل نفس الاسم، وفيها سوق ريفي يمثل ملتقىً لقرى عدة متناثرة حولها. ويمارس سكان دمت الزراعة كنشاط رئيسي، وتمتاز بنشاط تجاري، وسياحي أيضاً بسبب وجود “حمّام دمت” الطبيعي، الذي يجتذب الزوار من جميع مناطق اليمن. ومؤخراً ازدهر سوق المدينة لموقعها على خط الحدود السابقة للعام 1990، ما جعلها منطقة تماس للنشاط التجاري بين المناطق الواقعة تحت سيطرة الحكومة المعترف بها دولياً، والمناطق الواقعة تحت سيطرة جماعة أنصار الله (الحوثيين) ومن ضمنها مدينة دمت بطبيعة الحال.
وكانت سلطة صنعاء استثنت مديرية دمت من قرار منع تداول العملة الجديدة، نهاية العام 2019، رغم كونها في نطاق سيطرة أنصار الله (الحوثيين). وكان دافع ذلك الاستثناء قيام الحكومة المعترف بها بصرف رواتب الموظفين المدنيين في دمت باعتبارها تابعة إدارياً لمحافظة الضالع (جنوب) الواقعة في النطاق الجغرافي للبنك المركزي اليمني التابع للحكومة المعترف بها دولياً. لكن تفاوت القيمة الشرائية بين العملتين، القديمة والجديدة، أثقل المواطنين وأربك تعاملاتهم اليومية بالعملة الوطنية.
ومع ازدهار تجارة “القات” -النبتة التي تنتشر زراعتها في معظم مناطق اليمن، ومنها دمت، ومع تداخل الأسواق خلال 25 سنة من الوحدة، بين مناطق خاضعة لسيطرة طرفي الحرب، وتدفق سيولة نقدية كبيرة من العملة الجديدة في مناطق الحكومة المعترف بها دولياً، عن طريق تجار “القات” القادمين من عدن ومناطق أخرى في جنوب اليمن، كل ذلك أدى لإصدار سلطة صنعاء قراراً بمنع تداول العملة الجديدة، ما فاقم أزمة المواطنين في مديرية دمت والمناطق المشابهة لوضعها على طول خط الحدود الشطرية السابقة.
منصور الصيادي، مدرّس في مديرية دمت، تحدث لـ”خيوط”، عن قرار منع تداول العملة الجديدة، معتبراً أن “المواطن البسيط” هو المتضرر الرئيسي من هذا القرار، ناهيك عن الموظفين المدنيين الذين لا يعرفون كيف ستصرف رواتبهم القادمة من الضالع، بالعملة الجديدة، وقد مُنعت البنوك والمصارف في المدينة من التعامل بها.
وإلى ذلك، يضيق الخناق على المواطنين في دمت ومناطق الشريط الحدودي السابق بين شطري اليمن، بسبب هذا القرار، وما ينتج عنه من انخفاض القيمة الشرائية للعملة الجديدة في حال استبدالها بالعملة القديمة. كما أن تجار السلع الغذائية والاستهلاكية باتوا يرفضون التعامل بالعملة الجديدة ما لم يقبل الزبون احتسابها بقيمة شرائية منخفضة بنسبة 15% عن العملة القديمة.
ومن ضمن صور الارتباك الناتج عن قرار منع تداول العملة الجديدة في دمت، ما يرويه المواطن علي قايد لـ”خيوط”، عن خلافه مع جاره الذي استلف منه مبلغ 50 ألف ريال، قبل خمسة أشهر بالعملة الجديدة، لكن قيمتها الشرائية في المدينة كانت كالقديمة ولو ردها، حسب قول قايد، قبل صدور قرار منع تداولها، لقبلها منه على الفور، لكنه يرفض الآن قبولها ما لم تكن بالعملة القديمة أو بزيادة 10 آلاف ريال، حسب التعامل السائد في أسواق دمت. ويضرب علي قائد مثلاً حياً لخسارته في حال قبِل المبلغ بدون فارق، ذلك أن ابنه يدرس في جامعة صنعاء، حيث منع تداول العملة أكثر صرامة، وفي حال ذهب إلى الصراف لإرسال الـ50 ألف ريال إلى ابنه، فإن قيمتها تنخفض إلى 40 ألف ريال.
حرص على الاقتصاد
على الرغم من تضرر المواطنين والارتباك السائد في الأسواق والمصير المجهول لرواتبالموظفين في دمت، إلا أن السلطات المحلية في المدينة تراه قراراً صائباً فرضته الضرورات المالية والاقتصادية.
صادق الإدريسي وكيل أول محافظة الضالع، المعين من قبل سلطة أنصار الله (الحوثيين) في صنعاء، يقول لـ”خيوط”، إن قرار منع تداول العملة الجديدة، “نابع من الحرص والشعور بالمسؤولية تجاه المواطنين، لأن ضخّ العملة الجديدة بهذا الشكل يسهم في تدهور قيمة الريال اليمني كونها تُطبع بكميات كبيرة دون غطاء نقدي”.
ويتعرض المواطنون لأضرار فادحة مع توسع فوارق الصرف بين طبعتي العملة اليمنية، والذي يصل أحياناً إلى 20%، وتوقف رواتب موظفي سبع جهات حكومية في مناطق سيطرة أنصار الله (الحوثيين)، كانت الحكومة المعترف بها دولياً، تصرف رواتبهم منذ العام 2018.
وتدهور الوضع الاقتصادي لليمن بصورة مستمرة بسبب الحرب الدائرة منذ ما يقارب ست سنوات، وحصار “التحالف العربي” بقيادة السعودية والإمارات، للمناطق الواقعة تحت سلطة أنصار الله (الحوثيين)، وسيطرته على المنافذ اليمنية البرية والبحرية والجوية، بما لذلك من أثر كارثي على الأنشطة التجارية المتمثلة في التصدير والاستيراد، فضلاً عن استخدام الاقتصاد كسلاح في الحرب المستمر، بغض النظر عن تأثير هذا الاستخدام على الحياة اليومية للمواطنين.
وتكالبت الأزمات على اليمنيين، متسببة في تدني مستوى دخل الفرد في اليمن، وحُرِمَ الموظفون من رواتبهم، وتضررت القطاعات الإنتاجية، مثل الزراعة والصناعات الصغيرة، وإنتاج النفط، وذلك عقب أول أزمة حادة للمشتقات النفطية في العام 2015. وفي المقابل، توقف التصدير الذي كان يعود بربح جيد بالنسبة للمزارعين، سيما مزارعي الفواكه والخضروات، ما اضطرهم لبيع محاصيلهم في السوق المحلية بأسعار بالكاد تغطي تكاليف الإنتاج.
وتصل نسبة المعتمدين على النشاط الزراعي في اليمن هم الأغلبية، بنسبة يقدرها المركز الوطني للمعلومات بنحو 54% من إجمالي القوى العاملة في اليمن.