عبدالرحمن مصطفى
ابحاث يسارية واشتراكية وشيوعية
يكثر الربط بين انهيار تجربة الاتحاد السوفيتي ونهاية المشروع الإشتراكي باعتباره حلم طوباوي لايستند على أرضية واقعية ،وعادة ما يستند هذا الربط على نظرة واهية للنظام السوفيتي وتطوره والأحداث الأخيرة في عمره ..ويقال مثلا في سياق المقارنة بين المجتمع الاشتراكي السوفيتي والمجتمع الرأسمالي الغربي بأن النظام الرأسمالي هو نظام الوفرة السلعية والخدمية وأن الاقتصاد السوفيتي الاشتراكي كان اقتصاد ندرة والدليل على ذلك هو طوابير الناس التي كانت تحتشد على محلات الخبز أو البضائع الأساسية هذه الفرضية قدمها الاقتصادي المجري janos korani وروج البنك الدولي لتلك الفرضية ..وعادة ما يتم الربط بين التجربة السوفيتية والاشتراكية بصورة قاطعة وحصرية بمعنى أن الاشتراكية ولدت في الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الشرقي وماتت مع انتهاء تجربة هذه الدول (رغم أنه كان هناك اختلافات بين الاقتصاد السوفيتي واقتصاد دول اوروبا الشرقية والصين من جهة أخرى) أو أن الاتحاد السوفيتي سقط لأن شعوب الاتحاد لم تؤمن بالنظام الاشتراكي المخطط وعارضته واصطدمت في ذلك مع نخبة الحزب ولكن التاريخ أنصف هذه الشعوب في النهاية وانهار الاتحاد السوفيتي برغبة الشعوب التي كانت منضوية تحته وعادة ما يوجه المنتقدون للنظام السوفيتي سهامهم للتخطيط الاقتصادي باعتباره منهجا عقيما في تسيير الاقتصاد ويرجعون انهيار الاتحاد السوفيتي الى فشل النظام المخطط وجموده ولايعرفون أن ذلك النظام حقق معجزات اقتصادية حقيقية (وليس على شاكلة ما يروج له البنك الدولي من تجارب فاشلة لدول حررت اقتصاداتها واندمجت بصورة شامة أو شبه شاملة في العولمة الرأسمالية) وطبعا لايربطون بين السياق التاريخي للحقبة التي ساد فيها نظام التخطيط وما أفرزته من ضرورات وشروط جعلت من هذا النهج مسارا صارما ليس في الاتحاد السوفيتي ودول المعسكر الشرقي فقط بل في دول المعسكر الرأسمالي الليبرالي أيضا ،وعادة ما تتم المقارنة بين نظام السوق والنظام المخطط باعتبارهما نظامان متناقضان وهذه الفكرة زائفة وتناقض موهوم فصاحب هذه الرؤية لايفرق بين رأسمالية القرن التاسع عشر التنافسية أو شبه التنافسية ورأسمالية القرن العشرين والواحد والعشرين الاحتكارية (ليس فقط من جخة المصارف والشركات العملاقة بل أيضا دور الحكومة في تنظيم الاقتصاد) ..
تجربة الاتحاد السوفيتي تجربة عظيمة وتستحق الدراسة فهي كانت أول محاولة في التاريخ لإقامة مجتمع غير طبقي ويلزم ذلك أن يتم التعاطي معها بروية وحذر وقدرة على تحليل تلك التجربة بعيدا عن الانطباعات الشخصية والتصورات المؤدلجة أو التصورات التي تحمل آراء مسبقة عنها ،والحقيقة أن هناك الكثير من الدراسات التي تناولت النظام السوفيتي بمختلف جوانبه الاقتصادية والسياسية والثقافية الخ..ومعظمها باللغة الإنجليزية واللغة العربية لاتتوفر الا على القليل من مثل هذه الدراسات ..ومن أبرز هذه الدراسات دراسة الاقتصادي الأمريكي ديفيد كوتز والصحفي الكندي فريد وير في كتاب revolution from above أو الثورة من فوق فيما يتعلق بالتجربة السوفيتية وفي هذا الكتاب تم اجراء الكثير من اللقاءات مسؤولين سوفييت وروس (بعد تفكك الاتحاد السوفيتي) أجراهها معهم الصحفي الكندي فريد وير الذي فترة من حياته في الاتحاد السوفيتي وعلى عكس التصورات الوردية عن رفض الشعوب لهذا النظام في مقابل تمسك النخب به يقدم هذا الكتاب نظرة مختلفة ومعاكسة لهذه الفرضية الزائفة ،والغريب أن متبني وجهة نظر الفشل الحتمي للنظام السوفيتي (في العالم العربي) يذودون عن الأنظمة الملكية التي حكمت في هذه المنطقة ويرون أنها أجهضت وتم إفشالها وليس أنها كانت فاشلة حقاً ،أما النظام السوفيتي فهو نظام فاشل حتما ومن البدايات التي ظهر وتشكل بها ! وعند الاستفسار عن أي دليل على ذلك يشار الى واقعة انهيار النظام السوفيتي ..لماذا لايقال نفس الكلام مثلا عن تجربة النظم الملكية التي حكمت في الشرق الأوسط وشمال افريقيا! والحقيقة أن القول الفصل في تحديد إن كانت تجربة ما فاشلة أم لا هو في معرفة حالة الاقتصاد والمجتمع ..والحقيقة أن تجربة الملكية في مصر والعراق كانت كارثية على جميع المستويات فمعدلات ف 80 أو 90 بالمئة من السكان كانوا يرزحون تحت خط الفقر وكان هناك قمع واستبداد سياسي (كان هناك تجربة شبه ديمقراطية في مصر وذلك لأٍسباب مختلفة منها ضعف النظام الملكي آنذاك) وهذا التقييم طبعا لا يبرر النظم التي حكمت بعد الملكية في مصر والعراق ولاتجاوزاتها أو كوارثها لكن لم يحدث أن انتكست هذه المجتمعات بعد انهيار الملكية الى حالة اللامساواة والطبقية والفقر والعوز وسيادة المناطقية والعشائرية والجهوية (على الأقل في حالة العراق) التي عاشت في ظله شعوب مصر والعراق كما كان في العهد الملكي ..
من جهة اخرى هناك أشكال عدة للإشتراكية فليست اشتراكية الدولة للنظام السوفيتي (تسمية وردت في كتاب كوتز ووير للنظام السوفيتي) هي الشكل الأوحد للنظام الاشتراكي حتى الرأسمالية هي ليست رأسمالية واحدة ،هناك خطوط عرضية تجمع بين الأشكال المحتلفة للاشتراكية وكذلك الحال بالنسبة للرأسمالية وهذه النماذج ليست وليدة الارادة والرغبة فقط بل هي كذلك نتاج للظروف الموضوعية المحيطة بكل تجربة ،ويمكن القول بثقة تامة أن القائمين على النظام الاشتراكي في القرن الماضي (ممن كان لهم التأثير الأكبر في هذه التجربة كحالة ستالين وماو تسي تونغ مثلا) لم يتصوروا شكلا للاشتراكية يتجاوز ملكية الدولة لوسائل الانتاج وفي ما كتبه ماو من تعليقات على كتيب ستالين (المسائل الاقتصادية للاشتراكية في الاتحاد السوفيتي) اتفق ماو مع تصور ستالين أن الاشتراكية الكاملة تعني ملكية الشعب بأسره لوسائل الانتاج والخدمات وهذا التصور مساوق لفكرة ملكية الدولة الصرفة وبذلك يتفق ماو مع ستالين على أن الدولة هي المالك النهائي لوسائل الانتاج ،لكن لماذا لاتكون يكون للاشتراكية شكلا آخر كأن تكون الملكية بإسم العمال في الشركة أو المؤسسة المعنية وكذلك مع تطور المجتمع المدني تكون هناك حصص للمنظمات الأهلية كجمعيات حماية المستهلك والبيئة والنقابات والمجالس المحلية الخ..وبذلك تكون الاشتراكية شكلا من اللا مركزية بدلا من المركزية الصارمة كما تصورها ستالين وماو ،وكذلك يمكن أن يستمر الانتاج السلعي (بمعنى أن تحدد الأسعار والكميات المنتجة من جهات متعددة بدلا من أن تحضع لهة واحدة) فالانتاج السلعي شكل سابق للانتاج الرأسمالي بقرون طويلة ..ويمكن القول أن تروتسكي اتفق مع ستالين أيضا في هذا التصور بمعنى الاشتراكية المركزية الصارمة وهو كان مؤيدا لتجميع المزارعين في المزارع الجماعية كما طبق ذلك ستالين (لكن بإقناعهم بدلا من إجبارهم!) وكذلك أن تخضع الزراعة لخدمة التصنيع الثقيل وبصرف النظر عن كل هذه الأمور فهناك من يؤكد أن انتصار السوفييت في الحرب العالمية الثانية كان نتاجا لسياسة ستالين الاقتصادية في التصنيع السريع الا أن كل هذه التصورات عن النظام المركزي عكست حقبة معينة من بناء النظام الاشتراكي ففكرة ملكية الشعب هي مطابقة لفكرة ملكية جهة مركزية لكل وسائل الانتاج والخدمات وفي اطار هذه الملكية قد تدخل بعض الاضطرابات بمعنى أن نظام الملكية هذا مبهم ويسهل تجييره فيما بعد لصالحة فئة ضد أخرى على عكس الملكية التعاونية التي تكون أكثر شفافية ووضوحا …يمكن القول أن بوخارين شذ عن القاعدة وتصور أن الانتقال الاشتراكي من سياسة النيب يمكن أن يكون بالتدريج وعلى الأغلب كان لينين سيتبع هذا المسار لو عاش أكثر ..لكن المشكلة أن الفرضية الستالينية (التصنيع السريع) لها مايسندها باعتبار أن النازية كانت خطرا حقيقيا ،لكن ان كانت سياسات ستالين الاقتصادية محل جدل فسياساته داخل الحزب كانت كارثية ومافعله فيما سمي بحملة التطهير العظيم كانت كارثة بجميع المقاييس فهي التي فتحت الأبواب لإعادة تشكيل الحزب الشيوعي السوفيتي من جديد ودخول العناصر البراغماتية واستبدال العناصر الثورية التي تم ابادتها بالكامل ..
ومن هنا تنطلق نظرية كوتز ووير في الكتاب المذكور آنفاً ،فتفكك الاتحاد السوفيتي كان نتاجا لهزيمة آيديولوجية منيت بها الايدولوجية الماركسية السوفيتية ،على المستوى الاقتصادي أدى الاقتصاد السوفيتي أداءاَ اعجازياً بحق (اذا ما قورن بالتجارب الأخرى) من عام 1928 الى عام 1975 فنما بنسبة أكثر من 9 بالمئة كمعدل وسطي طيلة هذه الفترة (بالاحصاءات السوفيتية) أو 4.5 بالمئة (بالاحصاءات الغربية) وهناك فرق بين المنهجين يكمن في أن النظام السوفيتي كان يركز حصرا على السلع المادية في حساب الناتج المحلي بينما الاحصاءات الغربية تدخل الخدمات في حساب الناتج المحلي ..في مقابل نمى الاقتصاد الأمريكي خلال هذه الفترة بمعدل 3 بالمئة فقط (وفترة ما بعد الحرب العالمية الثانية هي العصر الذهبي للرأسمالية ومعدلات النمو في الحقبة النيوليبرالية أقل بكثير مما كان في الحقبة الكينيزية الفوردية) خلال هذه الفترة استطاع الاتحاد السوفيتي أن يحقق ما حققته الرأسمالية في 4 قرون من تطوير للبنية التحتية ورفع لمستوى معيشة السكان وبناء الصناعة الثقيلة والاستهلاكية الخ..البعض قد يقول أن ذلك كان على حساب رفاهية الناس وذلك صحيح في عهد ستالين لكن فيما بعد أصبح العامل السوفيتي يحصل على وقت راحة أطول من نظيره الغربي ..وفضلا عن ذلك من يسمع هذا الكلام يظن أن الرأسمالية طيلة أربع قرون كانت تترسخ بما يناسب راحة العمال والفلاحين ولم يترافق تطورها مع تهجير قسري للفلاحين للعمل بأجور زهيدة في المصانع وبظروف من أسوأ مايكون فضلا عن استخدام العبيد واستعمار الدول الأخرى وإغراق أسواقها ونهب مواردها ..من عام 1975 بدأت تلوح بوادر الضعف على الاقتصاد السوفيتي في الأداء لكن هل نتج عن ذلك ركود وبطالة الخ ؟ ..لم يكن هناك أي ركود حتى انهيار الاتحاد السوفيتي من عام 1975 الى 80 كان معدل النمو 1.9 بالمئة وهذه كانت أيضا بين عام 1980 و1985 (بالتقديرات الغربية) بينما كان نمو الاقتصاد الأمريكي بين عام 1980 و1985 2.5 بالمئة أي أن الفارق ليس كبيرا وعلى العموم لم يحدث انكماش في الناتج المحلي السوفيتي حتى عام 1990 بينما حدث انكماش في الاقتصاد في السبعينيات وفي بداية حكم ريغن وما قيل عن معجزة اقتصادية في عهد ريغن كان اساسا يرتكز على استعادة المستويات القديمة للناتج المحلي الأمريكي وذلك كان بفعل مضاعفة الانفاق العسكري ومشروع حرب النجوم والتمويل بالعجز أي بفعل تدخل الحكومة وليس توجه ريغن النيوليبرالي ..وكان نمو انتاجية العمل في الاتحاد السوفيتي 1.3 في مقابل 1.4 في امريكا بين عام 1980 و1985 (لم يكن هناك أي انهيار اقتصادي اطلاقا!)
لهذا لم يكن للعامل الاقتصادي التأثير الأهم (تأثيره ينبع من تراجع انطلاقة الاقتصاد السوفيتي وهذا كان في صميم النظام السوفيتي مقارنة أداءه مع الغرب للحاق به بل ولتجاوزه لكن لم يكن هناك تراجع في مستويات المعيشة حتى عام 1990 ولأسباب تتعلق بالطريقة التي تبناها غورباتشوف لإصلاح الاقتصاد السوفيتي ) ..التأثير الأهم كان للعامل الايديولوجي وكوتز ووير يشرحان ذلك باستفاضة في كتابهما المذطور ..كانت الانتلجنسيا السوفيتية تشعر ابالغبن والحسد تجاه نظيرتها الغربية فمستويات معيشة هذه النخبة كانت قريبة أو مساوية لمستويات معيشة العمال اليدويين ..بينما كان الكاتب أو الروائي الغرب يحقق ثروة مليونية في الكثير من الأحيان فضلا عن ذلك يكون له مكانة مرموقة في المجتمع ويدعى الى المؤسسات لإبداء الرأي ويؤخذ على محمل الجد ..هذا التيار لم يكن نتاجا لفترة الثمانينيات بل يمكن إرجاعه الى الخمسينيات مع ظهور تيار المنشقين يمكن ابراز حالة العالم السوفيتي أندريه ساخاروف كمثال..فالمثقفين والكتاب يشعرون بنوع من الاستقلالية والرغبة بالتمايز عن عن الآخرين وكذلك برغبة قوية بطرح الأرء بالاستقلال عن أي سلطة أو توجيه سلطوي ..وبصرف النظر عن هذا التصور كان هناك نوع من التمرد على السلطة المركزية وايديولوجيتها المتزمتة ..وفي فترة الثمانينيات مع زيادة الزيارات المتبادلة بين النخب السوفيتية والغربية كان هناك شعور بالنقص لدى النخب السوفيتية ورغبة في محاكاة النخب الغربية ،طبعا لم يكن لهءلاء أن ترتفع أصواتهم لولا اطلاق سياسة الغلاسنوست والمثقفين يتبنون التصورات الأكثر راديكالية والأكثر صداما مع الواقع كما حدث بعد الركود الكبير في عام 1929 عندما تبنى المثقفون الأمريكيون التصورات الشيوعية وكان هناك رغبة قوية في قلب النظام الرأسمالي لكن ما حال دون ذلك ببساطة هو أن أجهزة الإعلام بقت في أيدي الرأسماليين وكذلك لم يتم ادخال هؤلاء الى المجال السياسي ونهج النيو ديل لروزفلت فيما بعد ..
بالطبع لم تكن هناك مؤامرة كما يتصور البعض لكن كان هناك خطئ في الحسابات ،فغورباتشوف أراد أن يصلح النظام دفعة واحدة (سياسيا واقتصاديا) وهذا فتح المجال للعناصر الأخرى الرامية الى أمور أكثر جذرية والتي كانت تختمر وتنضج مع سنين الإصلاح في وعيها ورغبتها ،وكمثال كان السياسي السوفيتي ليجاتشيوف الذي كان جزءا من فريق الإصلاح مع غورباتشوف معارضا حادا لألكسندر ياكوفليف الذي تولى مسؤولية الإعلام والدعاية ورأى أنه يغير رؤساء تحرير الصحف بما يخالف التوجه الاشتراكي وأن ذلك كان مقصودا منه لكنه هو نفسه قام بتعيين فيتالي كوروتيتش الذي كان مؤيدا للرأسمالية على رأس صحيفة أوجونيوك ..وفيتالي لم يكن حتى منتصف الثمانينيات يبرح عن الخط الرسمي الايديولوجي للنظام بل كان له بضعة كتب يمكن اعتبارها متزمتة في دفاعها عن النظام ،لكن الأمور تتغير مع تبدل السياسات ومع تبني نهج الغلاسونوست ..الأمر كذلك لياغور غايدار الذي هندس العلاج بالصدمة في عهد ستالين وماسببته الرأسمالية آنذاك من كوارث اجتماعية كان غايدار شيوعيا متزمتا حتى منتصف الثمانينيات وترأس صحف عدة كالبرافدا والجريدة الرسمية للجنة المركزية في الحزب الشيوعي وفي نهاية الثمانينيات كان يقضي وقته في قراءة خطابات تاتشر وكتب ميلتون فريدمان وأعجب بها التأثير الأكبر كان من نصيب الاقتصاديين ففي عام 1990 تم اجراء استطلاع للرأي فيما يتعلق بدور السوق كمنظم رئيسي للاقتصاد في الاتحاد السوفيتي وبريطانيا فكانت النتيجة أن 95 بالمئة من الاقتصاديين الروس يؤديون هذه الفكرة بينما في بريطانيا كانت 66 بالمئة ..مشكلة الايديولوجيا المتزمتة أنها تحمل نقيضها في جوهرها ةهذا حال العقائد الدينية مثلا التي يخرج أصحابها من عباءتها عندما يتعرضون الى رشة من عقيدة متزمتة أخرى ..وليس المقصد أن الماركسية فكر متطرف فميلتون فريدمان مثلا كان من أكبر العقائديين في القرن العشرين والواحد والعشرين ..
هل الجانب الايديولوجي هو كل شيء؟ لا بالطبع هناك جهات مستفيدة وراغبة في تغيير النظام لكن هذه الجهات هي التي كانت تحصل على الامتيازات أكثر من غيرها في ظل النظام السوفيتي ومن الصعب أن تتحرك من تلقاء ذاتها دون دافع من طرف آخر (الانتلجنسيا) ومن الصعب أن تضحي بامتيازاتها الراهنة مقابل شيء مجهول غير متحقق بعد ..هذه الفئة كانت تتمثل في مدراء الشركات والمصانع والبنوك ونخبة الحزب والمنظمات الشيوعية كالمسمول ومن الملفت معرفة مثلا أن أثرى أثرياء روسيا في التسعينيات كان خودوركوفسكي الذي اصطدم مع بوتين فيما بعد وتم سجنه ونفيه هذا الرأسمالي العتيد كان عضوا في منظمة الشباب الشيوعي الئي أسسه لينين (الكمسمول) ! وهناك الكثير من أمثاله من خبة الحزب والدولة ممن أصبحوا أثرياء في ظل الرأسمالية فيما بعد ..ولم يكن لكل هذا أن يتحقق لولا سياسة غورباتشوف بالإصلاح وهو كان راغبا منذ البداية بإزاحة الحزب الشيوعي عن هيمنته على الدولة والاقتصاد وأن يجعله حزب يتنافس مع أحزاب أخرى ..وغورباتشوف ليس عميلا أو خائنا كما يصور البعض بل هو أحد أفراد الانتلجنسيا التي تم خداعها بالنظام الديمقراطي (الغربي) بدليل أنه بقي يدافع عن الاشتراكية حتى آخر فترة رئاسته للسلطة السوفيتية وهو رفض خطة الخصخصة وتحرير الأسعار في 1990 (في فترة 500 يوم مقترح العلاج بالصدمة) ولم يحصل على أي شيء بعد تفكك الاتحاد السوفيتي على عكس يلتسن مثلا ..
يمكن القول أن غورباتشوف كان عديم الخبرة في طريقته للإصلاح فو أراد أن يزيح الحزب الشيوعي عن توجيه الاقتصاد ،وكان هناك كوادر من الحزب الشيوعي في كل مؤسسة اقتصادية تتولى التنسيق بين المؤسسات والاشراف على تنفيذ الخطة ..غورباتشوف أراد أن يحول الاقتصاد السوفيتي من نظام اشتراكي ممركز الى نظام اشتراكي لامركزي وبذلك قام بإلغاء طلبيات الدولة من الشركات الحكومية دفعة واحدة! وهذا ما عارضه رئيس الوزراء في فترة حكمه نيقولاي ريجكوف فذلك أدى الى الى زيادة كمية المال في أيدي الموظفين والعمال بعد أن وجهت الشركات أجور أكثر لهم في مقابل انخفاض ما توفره للانتاج وبذلك خلقت ضغوط تضخمية في نهاية الثمانينيات ..وفي عام 1989 ألغى غورباتشوف هيئة gosplan المسؤولة عن التنسيق بين القطاعات وعن تحديد كميات الانتاج في كل وحدة انتاجية وذلك سبب الانكماش في عام 1990 (وليس الاقتصاد المخطط) والطوابير ظهرت بعد أن حررت الدولة سيطرتها على الشركات بصورة فجائية ودفعة واحدة مما أدى الى انكماش انتاجها في مقابل زيادة الاستهلاك ..لكن أي من هذا الانكماش في الانتاج والاستهلاك بعد عام 1990 لم يكن في مستوى ما أفرزه النظام الرأسمالي من كوارث في التسعينيات ..نخبة الحزب والدولة سيطرت على مفاصل الدولة بعد أن أفسح لها المجال بفعل انتخاب مجالس السوفيتات والناس طبعا كانت تريد الإصلاح لكنها لم تكن تعرف ماسيؤول اليه الوضع بفعل المصلحيين الأمر مشابه لحالة بعض الشعوب العربية مع المعارضات بعد الربيع العربي (في ليبيا مثلا) لم يكن لدى يلتسن وفريقه أجندات واضحة حتى عام 1990 ..بل حتى نهاية الاتحاد السوفيتي فكان هناك كلام عن اصلاحات سوق لكن لم يكن يعني ذلك التخلي عن الاشتراكية بدليل أن قبل نهاية الاتحاد السوفيتي ب 9 أشهر تم اجراء تصويت على مشروعيته وصوت اكثر من 76 بالمئة من المشاركين بالرغبة على إبقاءه ..كان هناك انقلاب أبيض هذا كل مافي الأمر بدليل أن نخبة الحزب والدولة بقت في روسيا والدول السوفيتية الاخرى بعد تفكك الاتحاد وفي أي ثورة يحدث أن تهاجر النخبة المسيطرة الى الخارج لكن هذا لم يحدث في الاتحاد السوفيتي !
الخلاصة أن ما حدث في الاتحاد السوفيتي كان انقلابا من النخبة الحاكمة وليس ثورة شعبية (بل ثورة ملونة) بدعم من النخبة المثقفة السوفيتية وهذه كانت أكثر الفئات خسارة بعد تفكك الاتحاد السوفيتي فمستوى أجور العلماء مثلا كان في عام 1989 أكثر بثلث ما كان عليه في عام 1994 واضطر الكثير من هؤلاء أن يمارسوا أنشطة أخرى كالتعليم الخصوصي للطلاب الأجانب (خصوصا الأمريكان) أو الدخول في المجال وهو المجال الأكثر انتعاشا بعد زوال الاشتراكية (ليس لمصلحة توجيه الاقتصاد الانتاجي بل لمصلحة مدراء البنوك) وحال الكتاب والمثقفين كان أسوأ فبعضهم اضطر الى التسول أو أن يبيع كتبه على قارعة الطريق ..بل حتى الشركات الانتاجية كانوضعها كارثيا لإنه كان هناك انكماشا في الانتاج طيلة فترة العلاج بالصدمة ومدراء المصانع أرادوا بعد ذلك أن يتوقف برنامج العلاج بالصدمة الذي تولاه صندوق النقد والبنك الدولي والحكومة الأمريكية ..حتى البنوك (أكثر القطاعات انتعاشا بعد الاشتراكية) تعرضت الى التهديد من المافيا الروسية فكان أكثر من 90 بالمئة من البنوك تدفع ما مقدراه 10 الى 20 بالمئة كهبات لهذه المافيات والعصابات وتم قتل العشرات من موظفي البنوك في تلك الفترة ! هذا نتاج لتوصيات الاقتصاديين المؤدلجة والتي لايربطها اي علاقة مع الواقع ..في الصين مثلا لم تجري أي خصخصة حتى منتصف التسعينيات رغم أن الإصلاح تم الشروع به في عام 1978 والخصخصة جزئية وشملت بعض الشركات المتوسطة والصغرى لكن الطبقة البرجوازية في الصين لم تتأسس على الخصخصة بل نبعت من الأرض (أو الأساس) بمعنى من جهودها الذاتية وبقيت شركات الدولة في يدها على عكس روسيا حيث ظهرت الطبقة الرأسمالية من نتاج سياسات الخصخصة مباشرة والعلاقات الطفيلية في جهاز الدولة السوفيتي ..والأهم أن الصين في ظل اقتصادها السوق الاشتراكي حافظت على ملكية الدولة وتوجيهها للاقتصاد والتنسيق بين قطاعات وهذا ما تم الغاءه ابتداءاً من سياسة غورباتشوف في الغاء الغوزبلان في عام 1989 ..كان هناك حاجة للإصلاح في الاقتصاد السوفيتي لكن ذلك كان ينبغي أساسا أن ينطلق من واقع النظام السوفيتي وليس من تصورات نظرية لاقتصاديين هم أساسا منعزلين عن واقع اقتصاداتهم في دولهم الأصل (الدول الغربية) ..الاشتراكية السوفيتية كان ينبغي أن تنتقل لتناسب حاجة مستوى معيشي معين يختلف عما كان عليه في فترة لينين أو ستالين ..وهذا يتطلب سياسات جديدة وأجهزة تنفيذ جديدة لكن ليس الرأسمالية اطلاقا وبالمناسبة بقي الاقتصاد الروسي دون مستوى ما كان عليه الحال في 1990 (حجم الناتج المحلي ) ل 17 عام أي ل 2007 في 2008 كان النمو يرتكز أساسا على ارتفاع أسعار النفط ثم ما لبث أن انكمش الناتج المحلي في 2009 في تداعيات الأزمة المالية وهكذا حال الاقتصاد الروسي الريعي بعد أن كان متنوعا وانتاجيا في ظل الاتحاد السوفيتي! كما يقول ديفيد كوتز أصبحت روسية دول تشبه الكويت لكن على نطاق أكبر!