المدينة..أو التي كانت كذلك عندما تحدق فيها للوهلة الأولى يُخيل إليك أنك جئتها مباشرة بعد نكبة زلزال ألم بها ولم يمر عليه سوى بضع ساعات ، أو تحدث نفسك أنك تقف الآن على أنقاض حرب مدمرة كانت نتائجها كل هذا الخراب ، حصاد كارثي يحاصرك من كل الجهات لا يحدثه إلا قصف شامل أو زلزال تسلح بأعلى درجات رِيختر قبل أن يزور هذه المدينة ويتركها هكذا .
محاصراً بمليون علامة استفهام ودمار شاهد يحيط بك من كل الجهات ستجد نفسك ، بينما تقف مرتبكاً ومدهوشاً على أطلال كانت ذات يوم قبلة العالم تجد حولك مسرحاً للريح وهو يودي دوره بتوزيع حبيبات الرمل على كل شيء يقف أمامه ، وكأنه يحاول طمر تاريخ كارثي مر من هنا.
المخا..ميناء الأحلام ومدينة الكوابيس
فاروق السامعي
على بعد 94 كيلومتراً غرب مدينة تعز تقع مدينة المخا ، وعلى إحدى الحواف الشرقية للبحر الأحمر نصبت ميناءها التاريخي.
والمخا..المدينة والمديرية..تابعة لمحافظة تعز إدارياً بينما يتبع ميناؤها الحديدة مالياً ، وقد أصبح اسم المدينة “الميناء” اسماً لمديرية كبيرة ، بل وتعد من أكبر المديريات التابعة لمحافظة تعز مساحةً ، يحدها من الشرق موزع ومقبنة وحيس ، ومن الشمال حيس والخوخة ، ومن الجنوب موزع وذوباب وأجزاء من الوازعية ، ومن الغرب البحر الأحمر ، وتعتبر المخا أخر المديريات التعزية المحاددة لمديريات محافظة الحديدة ، وأكثرها ألتصاقاً بالسهل التهامي وبالعادات والتقاليد التهامية.
• المخا.. بين الحقيقة والأسطورة
وعن نشأة المخا ، فقد ذكر المؤرخ اليمني والمهندس المعماري “ضرار عبدالدائم” – يجيد التحدث بست لغات منها العبرية – وجود شقين لتاريخ المخا ، أحدهما تاريخي قديم يعود إلى أرض “مخوان” عام “1340 قبل الميلاد” والآخر أسطوري يتمثل في حكاية الجني “جلجاه” والذي ما يزال أحد جبال منطقة مصوع يحمل اسمه حتى الآن..
والمدينة “الميناء” ذكر اسمها في القرن الرابع الميلادي تحت اسم “مخان” – بعد إضافة ألف ونون التعريف في المسند – كمركز تجاري نشط وميناء لاستقبال السفن في عهد الملك “كرب إيل وتر يهنعم” ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت” وكان له هذا الحضور التاريخي باعتباره الأقرب إلى الحبشة “المملكة التاريخية العظيمة” بلاد حضارة “أكسوم” وأيضاً لتميز الأراضي المجاورة له كأراضي خصبة ، وهي تلك الواقعة ضمن إطار السهل الغربي لجنوب الجزيرة العربية وتنتهي بواحد من أخصب الأودية الزراعية في اليمن “وادي موزع” الذي تتوفر فيه المياه والتربة الجيدة والخصبة ، وهو الأمر الذي أدى إلى تجمع السكان وأختيارهم المكان للاستقرار ، إما للزراعة أو للرعي ، أو التجارة كما حدث بعد ذلك.
*نقش ذي نواس
كما ذُكرت المخا بعد ذلك في نقوش الملك “يوسف أسأر يثأر” ملك كل الشعوب والمشهور بـ”ذي نواس” حيث يذكر النقش أن الملك “يوسف أسأر” قاد جيشه إلى “مخن-م-خ-ن” وقاتل فيها حتى قَتَل كل سكانها واستولى على كنيستها ، ويعرف تاريخياً أن الملك “يوسف أسأر” أو “ذي نواس” كان يهودياً متعصباً لديانته وأن فعله هذا هو امتداد لمحرقة نصارى بخران “نجران” ، ويعود تاريخ هذا النقش إلى قبيل الغزو الحبشي لليمن “525 ميلادية”.
• النافذة الأولى على العالم
وتعود شهرة مدينة المخا إلى إقامة التجار بها مثلها مثل كثير من المدن التاريخية الساحلية ، إضافة إلى قربها من مملكة الحبشة أو كما يحب بعض المؤرخين تسميتها بـ”مملكة الأكسوم”.
كما لعبت المخا دوراً مهماً في التبادل التجاري وتصدير الفوائض الإنتاجية الزراعية أو السلعية المنتجة محلياً أو القادمة من السهل التهامي وبعض مناطق الجزيرة العربية ، وتكمن أهمية هذا الدور التاريخي الذي لعبته هذه المدينة أو هذا الميناء في تلك العلاقة التبادلية التجارية التي أقامها مع مصر والهند إلى جانب الحبشة ودول القرن الإفريقي ، وتفرده بكونه الميناء الأهم والأول على طول السواحل الشرقية للبحر الأحمر.
• المخا وموزع..تبعية أم احتلال
خلط كثير من المؤرخين بين مدينة المخا و”موزع” أو “موزا” كما كان يطلق عليها تاريخياً ، حيث عمِد بعضهم على إسقاط تسمية “موزا” عند ذكر الميناء التاريخي وعلاقته بالعالم القديم وعن ذلك الدور الذي لعبه ميناء “موزا” في عملية التبادل التجاري وتصدير السلع ، أو حتى في ذكره كمرسى للسفن ، وهو مايناقض الحقيقة وينافيها تماماً كون “موزع” منطقة داخلية ليس لها أمتداد ساحلي يطل على البحر بعكس المخا “المدينة ، الميناء” المطلة على البحر تماماً مثل ذوباب وباب المندب عن جنوبها واللحية والخوخة عن شمالها ، بينما تقبع “موزع” خلف تلك الحدود الساحلية قريباً من الحدود الداخل المقابل لمدينة المخا ، وهو ما يمكن اعتباره إجحافاً تاريخياً مقابل تمييز سواها مع إمكانية حدوث ذلك في حالة احتلال موزع “موزا” للمدينة وميناءها أو تبعية الأخيرة لها.
• البدايات الأولى
يرى بعض المؤرخين ومنهم “ضرار عبدالدائم” أن السبب الأهم في ازدهار مدينة “المخا” وجعلها محط أنظار العالم يعود لتلك الحادثة الشهيرة حينما طلب الشيخ الصوفي أبوالحسن عمر بن إبراهيم بن أبي بكر بن محمد القرشي الصوفي الشاذلي من إحدى السفن التي كانت تخص تاجر بريطاني إنزال بضاعتها في المخا ، وكانت قادمة من “مومباي” أي “بومباي” حالياً وهي العاصمة القديمة للهند ، ثم قيامه بعد ذلك بدعوة القبائل والسكان لشراء ما يحتاجونه من تلك السلع ، وهو الأمر الذي دفع – لاحقاً – بتجار الغرب إلى تسويق وبيع منتجاتهم وسلعهم في مدينة المخا ، وفي مقابل بضائعهم تلك كانوا كانوا يبتاعون الفحم والبن قبل أن يصبح الميناء هو الأشهر في العالم بتصديره أفخر وأجود أنواع البن “بن مُكا” أي بن المخا.
• “MOKA COFFE”..علامة تجارية
“بن مُكا” أو “MOKA COFFE” والذي تعتبره كل الشركات العالمية المنتجة للبن والمصدرة له رمزاً دائماً لها ولجودة سلعتها منذ ذلك التاريخ الذي صدر فيه ميناء المخا أول شحنة بن يمني للعالم .
وهنالك فيلم وثائقي يُقدم في “17 دقيقة” وباللغتين العربية والانجليزية واقع البن في اليمن ، ويحمل في تفاصيله أهم النقاط حول البن اليمني ، كما يتطرق إلى أهم المراحل الزمنية المتعاقبة منذ تصدير أول شحنة بن يمني للعالم وصولاً إلى الوضع الحالي له وأنواع المشاكل والصعوبات التي يواجهها هذا المحصول المهم عالمياً ..والأهم في كل ذلك تقديم الفيلم للبدايات التاريخية للبن اليمني بملازمة تاريخية لميناء المخا الذي يعتبر الأول في تصدير البن اليمني إلى العالم .
كما يوجد فيلم أخر يحكي تاريخ البن اليمني وتاريخ مدينة المخا باللغة اليابانية قام بإنتاجه فريق ياباني متخصص في أبحاث البن خاصة “بن مُكا” ومدة هذا الفيلم “26 دقيقة” .
• ما الذي حدث هنا..؟!
الزائر لمدينة المخا اليوم لن يجدها إلا أطلال مدينة طمر الرمل أنقاضها بينما أكتفت بعض المباني بالاحتفاظ بهياكل مدمرة أو نصف مدمرة وجدران أكلتها أو تكاد الرطوبة وعوامل التعرية ، مع وجود بعض الأمتيازات لبعض المقامات والمزارات والمنارات المنتصبة صوفي وتاريخي.
• طفرة اقتصادية وقنصليات
يجمع كل المؤرخين على حدوث طفرة اقتصادية – لهذه المدينة الأنقاض – كانت قائمة وناتجة عن استقرار التجار وحصول وفرة في الإيرادات التي كانت تحصدها جراء التبادل التجاري مع العالم قبل وقوع الكارثة بها ، وأن الأزدهار الاقتصادي الذي شهدته المدينة دفع بالكثير من التجار ذوي الأصول والجنسيات الأجنبية إلى اختيار الاستقرار والسكن فيها ، حتى أن بعض المؤرخين ذكروا أن المدينة كانت تقسم إلى عدة أحياء هي : الأمريكي ، الصومالي ، اليهودي ، البهري ، العفري ، الهندي ، الفارسي ، التركي ، البينيان “الهنود” ، كما أنها كانت تحوي أكثر من عشر قنصليات أجنبية وأكثر من سبعة مراكز تجارية .
احتفظت الذاكرة الشعبية بتفاصيل عامة – اتفقت معها بعض الروايات التاريخية أو نقضتها – عن الحياة التي كانت عليها المدينة ووصول سكانها حينذاك إلى أقصى مراحل الترف والتبذير الذي وفر لهم طابع الحياة الرغيدة والازدهار الاقتصادي والتجاري.
• عصر ذهبي ذهب مع الريح
يتندر البعض أو يستدل ببعض تلك الممارسات التي صاحبت تلك الفترة الذهبية من عمر المدينة مثل طقوسهم في تناول وشرب الكوز – نوع من أنواع المداعة والشيشة التهامية – حيث يصل طول القصبة – التي تبدأ بفم الكوز وتنتهي بفم الشارب – إلى عشرات الأمتار وأحياناً يتعدى المائة متر ، وهي مشغولة ومطرزة بخيوط الذهب أو بالذهب والفضة ، ويتداول القصبة الواحدة مجموعة من السكان عبر تناولها من بيت إلى بيت ، كما أن الماء الذي كان يوضع داخل الكوز كان يؤخذ من ماء الورد دون سواه .
وتتحدث الذاكرة الشعبية أيضاً – دون تأكيد من قبل المؤرخين وكتب التاريخ – عن وصول تعداد سكان مدينة المخا في تلك الفترة إلى ما بين سقفين أدناهما أكثر من مليون فيما يتعدى السقف الآخر ثلاثة ملايين نسمة.
• تعددت الروايات والكارثة واحدة
يتحدث المؤرخون عن كارثة الطوفان العظيم التي جرفت أكثر من مليون ونصف مليون نخلة كانت موجودة في إطار مدينة المخا مع جرف شبه كامل للسكان والمساكن ، وهو ما جعل المدينة تعيش تحت وطأة الجثث التي تسببت في خلق بيئة خصبة للأمراض والأوبئة المستعصية والتي كان منها الطاعون الذي تكفل بإفناء من تبقى من سكان المدينة .
ويتفق المؤرخون والمجتمع المحلي على قصة الطوفان العظيم والطاعون ، إلا أن المجتمع المحلي يطلق على ذلك الطوفان تسمية “سيل الثلوث” نسبة إلى يوم الثلاثاء التي بدأت فيه الكارثة .
• الصراع فرنسي بريطاني
شهدت المخا منذ نهاية القرن السادس عشر وحتى نهاية القرن الثامن عشر نمواً اقتصادياً متسارعاً وننهضة عمرانية واسعة ساعد في وجودهما ازدهار التجارة وانتشار المركز التجارية الدولية فيها واستقرار عدد من التجار بها قبل أن يؤدى الصراع العالمي الفرنسي البريطاني لاحتلال مناطق العالم الهامة إلى الإسهام في تدمير تلك البنية وذلك الإشعاع الحضاري والتجاري بهذه المدينة .
• المخا تحت وطأة المدافع البريطانية وحرائق الأتراك
ذهب المهندس “ضرار عبدالدائم” إلى اعتبار فناء مدينة المخا إنما يعود لأمر سياسي قام به الأتراك أثناء خروجهم من اليمن عموماً والمخا خصوصاً حينما قاموا بإحراق المدينة وترك النيران مضطرمة بها لمدة خمسة عشر يوماً ، مستشهداً بوجود بعض الأدلة على ذلك في المتحف البريطاني..مشيراً – في نفس الوقت – إلى أن المدينة القديمة ما تزال مدفونة تحت التراب ، وهو الأمر الذي يؤكده كثير من الباحثين ويعتقد به سكان المدينة ، مع وجود كثير من الشواهد على ذلك .
ويرجع البعض انهيار المدينة إلى شراسة الأساطيل والسفن الحربية الإنجليزية التي ضربت المدينة بمدافعها سنة “1120 ميلادية ” واحتلالها بعد ذلك قبل أن تعاود الانسحاب مجدداً تحت زعم نهب سكانها المحليين لإحدى السفن التابعة لها ورغبة في تأديب حاكمها السابق “الحاج فُتيح” .
• رصد بعض الأحداث المهمة للمخا حتى تاريخ ضربها بالمدافع الإنجليزية :
التاريخ الحدث
1612م زيارة “كابتن جون ساريس” للمخا ، وسماح الباشا في اليمن لهم ولجميع الأجانب بممارسة التجارة فيها .
1616م زيارة “فان دن بروكه” المخا وطلب إنشاء مركز تجاري لهولندا.
1618م وصول “كابتن شلنغ” والسماح للإنجليز بإقامة مركز تجاري .
1708م توقيع اتفاقية اقتصادية بين فرنسا وحاكم المخا .
1711م بعثة فرنسية ثانية للمخا تحت قيادة “دي لالين” و”بريكولين” .
1738م صراع وحرب بين حاكم المخا وشركة الهند الشرقية الفرنسية .
1762م ملك الدانمارك يرسل بعثة مكونة من علماء وأدباء ورسامين للمخا .
1770م اعتبار المخا أعظم مواني المنطقة ازدهاراً .
20 أغسطس 1803م طلب إنجليزي لحاكم المخا بعدم مساعدة السفن الفرنسية .
16 يونيو 1809م تقرير “كابتن ردلاند” عن الأحوال السياسية والاقتصادية للمخا .
21 يوليو 1817م محاصرة ميناء المخا تحت أمر الطراد “برنس أوف ويلز” .
سبتمبر 1817م رسالة إمام اليمن إلى حاكم بومباي .
1818م سجن بطل المخا وحاكمها الحاج فتح الله “فُتيح” من قبل إمام اليمن.
1819م طلب حكومة بومباي الحاج فتيح لتربيته وتأديبه .
6 يونيو 1820م حكومة الهند تقرر تجهيز أسطول قوي لضرب ميناء المخا .
أكتوبر 1820م خروج أول سفينتين حربيتين ملكيتين من الهند .
9 أغسطس 1820م حصار ميناء المخا .
12 ديسمبر 1820م تجار المخا يتوسلون قائد الحملة تمديد الهدنة .
30 ديسمبر 1820م بدأ الإنجليز قصف ميناء المخا .
20 يناير 1821م وقف ضرب المخا والانسحاب بعد الاتفاق المجحف .
• رسالتي أمام اليمن وحكومة بومباي قبل ضرب المدينة
“من الضروري تقوية الروابط ، وربما يكون معلوماً لسعادتكم أنه بين شعبي الذي يعيش في مدينة المخا وبين الأمم الأخرى كالفرنسيين والبرتغاليين والهولنديين قواعد وأعراف مستقرة تم التقيد بها على الدوام”
• رسالة أمام اليمن لحاكم بومباي سبتمبر 1817م
“أعتقد أنه يتحتم علينا أن نعيد السمعة الوطنية في الجزيرة العربية ، وذلك بتوجيه قصف مدفعي إلى مدينة المخا إلى أن يتم تسوية المباني الحكومية بالأرض”
• مذكرة حكومة بومباي لأمام اليمن سبتمبر 1817م
• أنماط معمارية
من الملاحظات التي يمكن أن تسترعي انتباه الزائر للمدينة أو الواقف على أطلالها طبيعة نمط البناء المعماري فيها والذي ينقسم إلى ثلاثة أنماط هي :
*أحجار ومكعبات طوبية ومنازل مدنية متعددة الطوابق تميل بطابعها إلى القصور ، وتمتد من لسان الساحل حتى جامع الشاذلي وإن كان معظمها أنقاضاً أو نصف مدمر أو متهالك.
*أحجار ومكعبات “بُلُك” حديثة تشكل سوراً لمجموعة عُشش داخلية تبدأمن ضريح الشاذلي وتنتهي بمحاذاة نهاية المدينة أو المجمع الحكومي – شرقها تحديداً- .
*عُشش تهامية صِرفة تعم بقية المناطق التابعة لمديرية المخا.
• مدينة تقبل القسمة على أكثر من اثنين
المخا.. تاريخ حافل من التعايش المدني بين الاديان والمذاهب والأعراف والجنسيات ، ورغم اندثار كل ذلك ما عدا نهج التعايش القائم على القبول بالآخر ، وقد سن هذا النهج أجيال لرجال تركوا بعض آثارهم على أرض هذه المدينة المتسامحة كدليل لا يقبل النقض ، بل واصبحوا جزءاً من ذاكرة المكان الذي كان وما زال يقبل القسمة على اثنين ، وثلاثة ، وأربعة ، ومائة دون تطرف أو أو انحياز أو تمييز أو اقصاء وإلغاء الآخر.. وقد استطاعت هذه المدينة دمج الجميع وصهرهم في بوتقة الانتماء لها وحدها دون سواها ، وإن وصل ذلك إلى حد إنكار الذات والأصل..
وبعيداً عن الفرز العرقي وإنما من باب الاستدلال والتوثيق لهذا التعايش قمت برصد بعض الأسر ذات الأصول المختلفة محلية كانت أو أجنبية كدليل على ذلك وليس من باب الحصر ، وعلى النحو التالي :
*أصول هندية : وهي أكثر الأصول الباقية ضمن الأسر الموجودة في هذه المدينة ومن تلك الأسر : “القواريري ، الدابولي ، زاغو ، حضاية ، سيدة ، شاكر ، الشاذلي ، البكري ، جبالة” .
*أصول تركية : معظمها فضل الهجرة إلى المدن الكبيرة تعز وصنعاء وعدن والحديدة ، إلا أن هنالك البعض منها ما زال باقي فيها مثل : آغا ، الأفندي ، الباشا ، شكري ، زيوار .
* أصول فارسية : مثل عبدالرسول ، القوح .
*أصول بينيان : مثل رحلو .
*أصول يهودية : مثل بيت الشيخ إسماعيل ، المسلماني .
*أصول مكية : مثل النصاري ومكي .
*أصول شامية : مثل الدمشقي والحلبي والشامي .
*أصول حضرمية : مثل المحجب .
*أصول مخاوية : مثل طنة وحدوم والعيدروس .
ونتيجة لهذا الاختلاط والتعايش والتجانس فقد ظهر جلياً مدى الاحترام بينهم خصوصاً في المسائل المتعلقة بالمعتقدات والعادات الدينية ، فقد وجدت – على سبيل المثال – مقبرة خاصة للنصارى ، وآخرى لليهود وتسمى مقبرة الشيخ إسماعيل ، كما يطلق هذا الاسم على حارة تخصهم .
• ميناء للمهربين.. ونسيان وإهمال متعمد
تاريخ المخا مشرق وحافل كمدينة وميناء ، وخفوته – حاضراً – حتى الانطفاء والموات يجبرنا الغوص في ثنايا الأسباب الحقيقية التي سأهمت في إطفاء جذوته الماضية وحولته من أشهر ميناء حي ونشط في ذاكرة العالم إلى مجرد شبح ساحلي ميت ، فقد جاذبيته وغدا غير قادر على استيعاب ما يحدث حوله ، مكتفياً – فقط – بعطر سيرته والمرويات الاسطورية عنه والتي أبهرت العالم ذات ماضي منها “بن مًكا” العلامة التجارية العالمية ، وأيضاً بخليط الأجناس البشرية التي استقرت به ورأت فيه ميناء لمدينة الاحلام التي يصعب تجاوزها أو التفكير بغيرها .
التطرق للاسباب – وإن كانت موجعة بعض الشيء – إنما يأتي بدافع المساهمة في إخراج من حالته وانتشاله ليعود كما كان وجه اليمن لحاضرة المواني اليمنية ، ومصدراً اقتصادياً رافداً للتنمية في هذا البلد .
ولا أحد يستطيع أنكار رسمية المعوقات والاهمال والاجحاف التي طألت هذا الميناء والمدينة وارتباطها بالقوى النافذة والحاكمة والقريبة والمقربة لها منذ عقود والتي حولته إلى البوابة غير الشرعية للاتجار والإرتزاق ، وجعل اسمه ملازماً للتهريب بكل اشكاله وأنواعه .
خلال الثلاثة العقود الأخيرة لم يعد الميناء يستقبل السفن ، ولا تربطه علاقة بعملية تصدير واستيراد السلع والبضائع التجارية ، ماعدا السفن الصغيرة التي تحمل المواشي والنفط والغاز فقط ، فيما على مقربة منه وعلى بعد مئات الأمتار منه جنوباً ينصب المهربون ميناءاً خاصاً بهم يتم فيه تهريب المشتقات النفطية اليمنية للخارج وبعلم رسمي ويستوردون مختلف أنواع البضائع والسلع المهربة والممنوعة والبشر القادمون من جحيم الضفة الأخرى.
كما أن الأمر الأكثر غرابة هو ذهاب غلة الميناء المالية إلى محافظة الحديدة بينما تكتفي تعز بفخر الإلحاق الاداري ، كما لعبت الكلفة المرتفعة للقيم الجمركية للشحن الداخلي والخارجي داخل هذا الميناء دوراً في شل حركته وتحويلها إلى مواني أخرى..!!
وكان من أهم افرازات هذه الازدواجية أن معظم تجار تعز فضلوا تحمل زيادة تكاليف النقل والانتقال للموانئ الأخرى ، وهو ما يعني ذهاب إيرادات الجمارك إلى سلة محافظات أخرى تجنباً لتحمل الزيادة الجمركية للمخا .
والغريب في أمن ميناء المخاء أن قواربه الامنية الحديثة تشغل أرصفة الميناء والأرصفة القريبة منه ، وترفض أن تبتل بالماء ، فمنذ أن صرفت تلك القوارب الأمنية لم تمارس دورها المفروض بل يكتفي طواقمها وأبنائهم بتحصيل مخصصاتهم الشهرية مع مخصصات صيانة وزيت ونفط وبدلات ، ويتشابه أمر قوارب الميناء مع أمر القوارب التابعة للمؤسسة العامة للأسماك تماماً .
• مسئولين قراصنة ومعسكرات نهب ووزارات فيد
كما يمارس كثير من المسئولين دور القراصنة ولكن بوجوه وقوارب مستعارة معظمها قادمة من مصر يقومون بالإغارة على الثروة السمكية وجرفها في المياه الإقليمية بل وعلى حواف الميناء وبوجود شبه موافقة من المؤسسة العامة للأسماك .
إذا استثنيناء البحر تبدو المخا مدينة محاصرة بالمعسكرات من كل جهاتها ، وتمارس ألويتها مع بعض الوجاهات والتجار عملية السطو على أرضي الدولة والأوقاف وأراضي المواطنين ، كما أن بعض قيادتها والمسئولين الأعلى منهم يقومون بتقاسم فوائد التهريب مع المهربين والحصول على نسبهم في كل عملية وتوفر لهم الحماية اللازمة لنجاح عملياتهم .
.