محمد الدحان
يصبح الفنّان واحدًا من الأساطير الوطنية، إن هو اختزل الضمير الجمعي بعمل لا يموت بمرور الوقت. عمل يُشعل روح المجتمع، ويُنشد بلسانه، وقبل ذلك يجسّد مشاعر أبنائه، وتلقائيًّا يتحول العمل الفني إلى أيقونة محفورة بذاكرة أجيال، تمامًا مثل أغنية الفنان الراحل محمد البصير الذي ولد بهذا العمل مع بزوغ الجمهورية العربية اليمنية، وصار أحد عناوينها الفنية رغم بساطته وتواضعه.
في الذكرى الأولى لثورة سبتمبر، كان الفنّان محمد البصير على موعد مع إطلاق رائعته “جمهورية ومن قرح يقرح” بعد نيله شرف المشاركة في إحياء أول احتفالية جماهيرية بالذكرى الأولى للثورة، بثيابه البسيطة، ونظارته السوداء، التي لم تمنحه الجمهورية سواهما. وقف يغني في ساحة ميدان التحرير، بصوت مبحوح ومتحشرج، بعد أن كان يجوب الشوارع وهو يغنيها على إيقاع أوانٍ معدنية بسيطة (علبة حليب فارغة)، فحفظه كل سكان المدينة وأحبوه.
وحينما غنّاها أمام الجماهير من على منصة خشبية متواضعة في الميدان الترابي بمصاحبة آلات موسيقية وكورس، كان أشبه بمن يلقي بيان الثورة الأول، أو كأنه سلطان الجمهورية نفسها.
تقول كلمات الأغنية التي كتب كلماتها الشاعر الشعبي عبدالله خميس عامر عطية، من مديرية حريب، محافظة مأرب:
يا الله يا مَن لنا تفتَح
والرزق مطلوب سَهالةْ
والشعب معجب بأبطاله
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
وأعلن بها من المسرح
وأخرَج من الشعبِ دجّاله
من قارب الظلم ما يربح
لازم نغير بها الحالة
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
ذي ما يبى شعبنا ينجح
قد عجّل الله بزلزاله
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
والبدر ما عاد ذي أصبح
خرج بشرشف وبركالةْ
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
يحرم على البدر لو أفلح
يشوف صنعاء ولا صالة
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
ولو تمسك بابو مشلح
لن نرتضي كل ما قاله
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
شعب اليمن للدول صرَّح
ما يدخل إنسان في إشكاله
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح
يحل نفسه بما رجَّح
يهناه يهناه يهنا له
جمهوريّة مَن قَرَحَ يقرَح.
تميز البصير بصوتٍ حماسيّ، وروح ثورية متقدة بالحرية والتمرد، فلا يفارق الحماس والغضب صوته وهو يغني رائعته، مجسّدًا بصوته سخط الناس من واقع الإمامة، ويبرز مدى تأثير بيئة نشأته في المناطق الوسطى التي خرج منها أبرزُ صنّاع الثورة على تشكيل شخصيته الثورية والحماسية.
قبل أن يستقر بصنعاء، منحته بيئته في مديرية الشعر- محافظة إب، فرصة الحصول على التعليم مبكرًا على يد فقهاء القرية، وكان يحلم بأن يصير فنّانًا معروفًا، فظلّ يبحث عن فرصة، يُبرز من خلالها صوته الغنائي البسيط للساحة الفنية التي بدأت تتشكل قبيل قيام الثورة، فكان يتلمس حافات الرصيف كل صباح من منزله في صنعاء القديمة حتى ميدان شرارة (التحرير لاحقًا)، يستكشف ملامح الطريق إلى إذاعة صنعاء، حيث واظب في العمل ضاربًا للدف ضمن فرقة إنشادية يقودها الفنان يحيى الشلال متجولة بين صنعاء وتعز لإحياء الاحتفالات الوطنية بعد قيام الثورة مباشرة، غير أنّه لم يحظَ بفرصة تسجيل أغانٍ بصوته في الإذاعة أسوة بزملائه الفنانين الآخرين.
لم يتوقف دور البصير على الهتاف والغناء للثورة، بل جسَّد دورًا بطوليًّا جعله واحدًا من الذين تمسكوا بمبادئ الثورة ورفضوا كل المكاسب الشخصية، فيروى أنه أثناء حصار صنعاء، اختطفه الملكيون واقتادوه إلى مكان مجهول، وحاولوا إرغامه على الغناء ضد الثورة والجمهورية، لكنه رفض ذلك، مما أثار غضبهم وسخطهم، فقاموا بتعذيبه لمدة سبعة أيام، ورميه في منطقة مهجورة خارج صنعاء، ليعود بآلامه وأوجاعه إلى منزله.
ما زالت الأغنية تحتفظ بوقعها الثوري على النفس بالرغم من مضي أكثر من ستة عقود على ميلادها الأول، فكلمات الأغنية تولّدت في خيال الشاعر من وحي الواقع، وكتعبير أبداعي ساخر من الناس لقصة فرار الإمام البدر من نيران الثوار وهروبه صبيحة يوم الثورة من قصر البشائر، وهو متخفٍّ بملابس نسائية (الشرشف والبركالة).
واقعية القصة، التي صورتها القصيدة وبساطة كلماتها، لم تُبْهِت الأغنية بل منحتها الديمومة لتبقى محافظة على قيمتها الفنية ورسالتها الثورية، ويعود ذلك إلى ارتباطها بلحظة انتصار شعبي كبير وتلاشي ماضٍ اختزل مأساة الشعب، لتصير مع جريان السنين رمزًا من رموز الثورة السبتمبرية، وتستعاد طرية في كل مناسبة.
تمكّن محمد البصير من جعل الأغنية واحدة من المسموعات الخالدة، العالقة في ذاكرة الناس وآذانهم ببساطة اللحن المستجلب من الأهازيج الشعبية والتراثية القريبة من ذائقة الجميع، وأن الذي ساعد على بقائها متجددة هو إعادة توظيفها شعبيًّا في مواجهة خطاب الإمامة الجديد.
•••
محمد الدحان
المادة خاص بمنصة خيوط