تداعي حول النسيان
هناك علاقة وطيدة بين الحرب وفقداني لأسماء الناس، لكن هذه المعضلة النفسية لم تكن وليدة السنوات الأخيرة. هنا زاوية جديدة لمعالجة هذا الأمر، بعيدا عن علة استقراء الأوجه المتشابهة، الذي عالجته أدبيا في نص “اسامينا”.
لدي، أي في رأسي، سجل اسماء مرتبك ومتشكك وخجول، إلى الدرجة التي أفقد فيها لوهلة اسم صغيرتي. كنت مرة عند الطبيب، محمد الزوع، وهو طبيب أطفال مشهور، عندما سألني: ما اسم ابنتك؟
تمعنت لوهلة فيه، ثم نظرت إلى طفلتي، بارتباك، فبدا لي أن التي في حضني طفلة لا أعرفها، أو بالأحرى أعرفها لكن لا أدري من هي. شيء مثل ومضة فلاش الكاميرا، حين يوجه إلى عينيك مباشرة. لكنها على سرعتها، لحظة يمكن القبض عليها بسهولة، من الآخر، الذي أمامك.
عاد الطبيب، للسؤال لكن هذه المرة، بنصف ضحكة: هل نسيت اسم ابنتك؟ لا، لم أنس اسم ابنتي، بل نسيت من أكون. النسيان ليس لحظة انقطاع طويلة عن الوجود، بالضرورة. يأتي أحيانا في لحظة صحو، على سريرك، حين تحتاج إلى فلاش الكاميرا ذاك، لإعادتك إلى الواقع، أما قبلها فأنت غارق، في خليج فقدانك للاتجاهات، ولذاكرة المكان، وأين أنا، وماذا أفعل هنا.
في العادة، لا أنشغل بتصفح الهاتف وأنا على ظهر حافلة عامة. نعم، لأن هناك علاقة تكاملية بين انتباهي لسياق الشوارع ووصولي.
في الأوقات التي تقرر فيها الحافلة الالتفاف على الطريق المقرر للسير، لتدخل في أخرى فرعية، أفقد طريقي. تعود الحافلة للسير في طريقها المعتاد، فيما أكون أنا قد فقدت البوصلة كليا. أشاهد اللافتات وأتعرف عليها، لكن كما لو أنها في طرق أسلكها لأول مرة. هناك قالب جاهز من المشاهد، يحضر لي الأماكن، لكن دون اسمائها. حتى أصل أحيانا إلى طلب المساعدة من الراكب الذب بجانبي: أيش من شارع هذا؟
لكن لا يعني هذا نكرانا كاملا لملامح الناس، مهما كان طول غيابهم. ذات مرة، وبعد انتهاء العمل، كنت أقعد في الفناء الخارجي للمحل. جاء رجل في حوالي الستينيات من عمره. طلب شايا وقعد بالمقابل مني. نظرت إلى ملامحه، فاستدعيت أكثر من 18 سنة من الذكريات. أي إلى ذاكرة طفولتي، في بداية التسعينات. سألته: أنت فلان؟ قال: نعم؟ من أنت.
(أ.ع) بناء، واستعان به جدي في بداية التسعينات، في (تسميت) دار العائلة القديم. بادر الرجل إلى إدخال أول حمام بصحن السيراميك إلى منازل القرية، كما أنجز عمله بإنقان من عاش حياته وفاء لمهنته. عاش الرجل، أفراحنا وأتراحنا، ثم اختفى فجأة قبل أن يكمل عمله، مخلفا ورائه أدوات لم يعد لها إلى اليوم. أتذكره جيدا؛ شاربه الكبير، وربطة رأسه، ومقطبه القصير، وحس المرح لديه، لكنه في تلك العصرية التعزية، بعد 18 سنة من الغياب كان شخصا مختلفا.
بدا وجهه برونزي، ودائري أكثر مما عرفته، وجسده ممتليء، وعينيه حزينتين، وشعره رمادي، مع ذلك هناك جهاز في مكان ما من رأسي، قام بمطابقة الملامح، واستدعائها، ليجمعني مرة أخرى بالصديق القديم للعائلة.
عالجت حياة (أ. غ)، والذي كنت أطلق عليه (الخال) في نص البائع. ثم ها أنا اكتشف أن حيلة الكتابة، هي محاولة أخرى من قبلي لمقاومة النسيان. يقول روبن وليامز، في فيلمه الحزين “ون أور فوتو”: الصور هي دفاعنا الصغير في وجه تقدم الزمن. يقودني لهذا القول، موقف جديد، يمكن الاستدلال به على ذاكرتي الانتقائية.
كنت مرة، في تدريب عن إخلاقيات البحث العلمي، يقدمه دكتور علم الاجتماع في جامعة صنعاء، عادل الشرجبي، عندما عرض على المكبر الضوئي، صورة له من زيارة ميدانية مع أحدهم، التقطت في بداية ثمانينيات القرن المنصرم، وسأل: هل تعرفون من الذي بجواري. تلفت الجميع إلا أنا، كنت قد عثرت على الملامح: شاب في حوالي الثلاثينات بشعر متدرج، وملابس بها مسحة من ترف السبعينات؛ قلت له: أنا أعرفه، إنه أحمد ناجي أحمد.
ريان الشيباني