لسبب في نفس ممدوح!
ياسر الزيات
من حسن حظي أنني أمتلك ثروة كبيرة من الأصدقاء. في كل مراحل حياتي، وفي كل بلد زرته، كان لي من الأصدقاء ما يجعلني ممتنا للحياة، لأنها تمنحني من المحبة ما لم أتوقع، ومن الحظ بالصداقة ما لم أكن أحلم به. لسبب ما لا أعرفه، تمنحني الحياة- أحيانا- ما أعتقد أنني لا أستحق، وتفيض عليّ من عطاءاتها، وكانت الصداقة دائمة من أجمل فيوضها وأقواها. ما مررت بضائقة في الدنيا إلا وجدت صديقا أو صديقة، وما عشت فرحة إلا شاركني فيها صديق أو صديقة، وهذه من النعم التي أتمنى دائما ألا تزول.
في مرحلة من مراحل حياتي، ظهر صديقي ممدوح راشد. كنت وقتها لا أزال أعاني في بداياتي في القاهرة، بلا سكن أو مصدر عيش، وكانت القاهرة قاسية قسوة غير مبررة على الشاب الصعيدي الذي كنته. تخرجت لتوي في الجامعة، والتحقت بالخدمة الوطنية، وعشت حياة متخبطة، لم يكن مستقرا فيها إلا كتابتي للشعر وإيماني به، وبي شاعرا. في تلك الفترة المتخبطة، عرفت ممدوح، وكان يكتب القصة القصيرة بشكل مدهش، لكنه لم يكن صعلوكا مثلي وأصدقائي، إذ كان يعمل محاسبا قانونيا، ويحرص كثيرا على مظهره الشيك، وعلى تعامله الراقي مع الآخرين، بما يحفظ له مكانة يريدها لنفسه، ويستحقها بالطبع.
لسبب في نفس ممدوح، قرر أن يدعمني ويساندني في مواجهة القاهرة وقسوتها، ولم يكن يفعل ذلك معي وحدي، بل مع أصدقاء آخرين أيضا يحتاجون إلى المساعدة. وكانت لممدوح طرقه المتنوعة في مساعدة الآخرين، فهو لا يفعل ذلك مباشرة، ولا يشعرك على الإطلاق بأنه يسدي لك معروفا. يتحجج ممدوح غالبا بأنه لا يحب أن يأكل وحده، ليدعوك على الغداء أو العشاء عندما يشعر بأنك لم تأكل من يومين أو يزيد. وهو يشتري لك السجائر، من النوع المستورد الفاخر نفسه الذي يشتريه لنفسه، والحقيقة أنه يشتري السجائر لنفسه لأنه يريد أن يشتري لك سجائر تكفيك حتى لقائكما التالي. وهو يعطيك نقودا طالبا منك أن تعيدها إليه عندما تحصل على نقود من أي مكان، رغم أنه لا ينوي استعادتها، ويعرف حق المعرفة أنك لن تعيدها. كما أنه يفتح حسابا في المقهى، ويخبر القهوجي بأن هذا حسابه هو وأنت، ويوافق القهوجي لأنه يعرف أن ممدوح سيعطيه ضعف الحساب عندما يأتي في مراته النادرة إلى المقهى. لكن أغرب ما فعله ممدوح عندما عرف أنني، وأحد أصدقائي، بلا سكن، أنه أقنعنا بحاجته إلى مكان يرتاح فيه ساعة أو ساعتين بعد عناء العمل، وقبل أن يعود إلى البيت، وأقنعنا بان نستأجر شقة معا، وهذا ما كان، لكنه لم يدخل هذه الشقة مطلقا، وبقي شهورا يدفع إيجارها، ويخبرنا بأنه سيأتي، لكنه لا يأتي أبدا، متعللا بانشغاله.
لم يكن ممدوح يمنحني الفرصة لشكره، أو إبداء الامتنان تجاهه بأي شكل من الأشكال. وفي المرة الوحيدة التي قلت له: “مش عارف أشكرك إزاي؟”، أجابني: “عندما تجد شخصا يحتاج إلى المساعدة، وتجد لديك القدرة، ساعده. هكذا تشكرني”. وهذا ما حدث: في كل مرة كنت أستطيع أن أساعد فيها أحدا، كنت في الحقيقة أقول: “شكرا” لصديقي ممدوح راشد، الذي أثق في أنه كان يشكر شخصا آخر، لا أعرفه.
أقول كما قال محمود درويش: “على هذه الأرض ما يستحق الحياة”، أصدقاء مثل ممدوح راشد، وهم كثيرون بالمناسبة، يجعلون الحياة محتملة، بل جميلة.