•• استاذ دكتور / قاسم المحبشي..
كانت السفن الشراعية تمخر عباب مياه البحرين الأحمر والعربي منذ الألف السنين في طريقها إلى الهند أو أفريقيا عبر مضيق باب المندب الشهير الذي يشبه أسمه إذ تروي الأسطورة أن الكلمة تطلق على البحر المحيط بجزيرة ميون اليمنية بمعنى “بحر الموت”، ربما بسبب كثرة الشعاب المرجانية والجزر الصغيرة التي تعترض طريق الملاحة وتعرّض السفن التي تمخر عبابه لكثير من المخاطر وربما بسبب الرياح العاصفة والأمواج العاتية وربما بسبب القرصنة والصراع المميت بين ربابة البحار على التحكم بالمضيق. من هنا جاءت تسمية “باب المندب” أو “بوابة الدموع”، نظرا لما يعانيه البحارة المغامرون بالإبحار في مياهه من اخوف والفزع والموت. وقيل جاءت التسمية من دموع النساء اللاتي يودعن أحبابهن بين ضفتي المندب..
في الأزمنة القديمة لم يكن العابرون يعلمون بما يوجد خلف جبال المندب الشاهقة وبالمثل لا علم لأهل السواحل من الصيادين وسكان الدواخل بمن يمرون في بحرهم ويقال أن الاسكندر المقدوني مر في باب المندب في طريقه إلى الهند. وفي مطلع العصر الحديت بدأت المنافسة بين الدول الأوروبية في سباق محموم لأكتشاف العالم والسيطرة عليه إذ القى الأسباني كولمبس مراسيه في العالم الجديد عام 1492م، والقى البرتغالي فاسكودى جاما مراسيه على ساحل الهند الغربي 1498م واستطاع ماجلان في السفينة فكتوريا ان يدور لأول مـرة حول الأرض(1519-1522), وفي عام 908 هـ (1503م) وصل البرتقاليين الى سواحل عدن ونهبوا سبعة مراكب وقتلوا أهلها ومنذ ذلك الحين والصراع بين القوى الكبرى محتدما في خليج عدن حتى تمكن الانجليزي الكابتن هنس من الاستيلاء عليها في 19 يناير 1839م. حينها كانت بريطانيا في أوج مجدها..
ففي عام 1821 وصفت مجلة كاليدونيان ميركوري الإمبراطورية البريطانية قائلة: «لا تغيب الشمس عن ممالكها أبدًا؛ إذ أن الشمس تشرق على ميناء جاكسون في ذات الوقت الذي تغيب فيه عن أبراج كيبك، وتغطس في مياه بحيرة سوبيريور في ذات الوقت الذي تبزغ فيه من فم نهر الغان”وفى يناير عام 1836، كتب تشارلز داروين عندما شاهد ميناء سيدنى، الذى كان يخضع حينها لسيطرة بريطانيا «إن شعورى الأول أن أهنئ نفسى أننى ولدت إنجليزياً»، متباهياً بنفوذ إمبراطورية بلاده الذى امتد شرقاً وغرباً”هذا يعني أنه يصعب مقاربة أي حدث تاريخي في العصور الحديثة بمعزل عن الحركة الكالونيالية الاستعمارية المباشرة ..
وحين يجعل البشر من تاريخهم موضع تساؤل فإنهم غالبا ما يتساءلون عن مصيرهم، أو عن حاضرهم كمصير، ومهما كانت الإجابات متنوعة في صحتها أو خطئها، فإن وعياً تاريخياً بدا يتشكل يحمل في طياته مستوى وعي البشر العام بكل جوانب حياتهم. وهكذا هو الحال مع ثورة 14 أكتوبر التي تحل بعد أيام ذكراها الثامنة والخمسون، وإذ تتعدد المقاربات تجاه هذه الثورة، فإن ما يهمنا في هذا المقال هو استعراض السياقات الاجتماعية والسياسية والثقافية والاقتصادية التي قامت على إثرها الثورة وكيف تبدلت بعدها..
على مدى 129 عام هيمن الانجليز على جنوب اليمن وفي 14 أكتوبر 1963م انطلقت من ردفان حركة الكفاح المسلح ضد الاستعمار الانجليزي في سياق دولي واقليمي ومحلي شهد ما يعرف بحركة حق الشعوب في تقرير مصيرها وحركات التحرر الوطنية في مصر 23 يوليو 1952 والجزائر والسودان والعراق وسوريا ولبنان وكان لثورة 26 سبتمبر 1962م في صنعاء ضد النظام الإمامي الكهنوتي دورا في اشعال مشاعر النضال الوطني التحرري ضد الاستعمار البريطاني في الجنوب العربي. نعم قامت الثورة حينذاك بوصفها حلما جماعيا بالحرية والسيادة الوطنية والعدالة والاستقرار والازدهار. فماذا يمكننا أن نتذكر منها اليوم من مشارف الذكرى 58 من عمرها واعمارنا..
كنت طفلا صغيرا حينما رحل الأنجليز من عدن في 30 نوفمبر عام 1967م وكانت المشاعر والأحلام الثورية متقدة
وهي تنشد الأغنية
برع يا استعمار برع
من أرض الاحرار برع
برع ولا الليلة يكويك التيار
تيار الحرية تيار القومية
برع برع برع يا استعمار
من أرض الأحرار برع
تيار الجبار خلا شعبي ثأر
خلانا الجنوب يشعل كالجمره
تيار الجبار هو نفس التيار
حطم الاستعمار في مصر الحره
تياري بركان من اجل الانسان
اشعل في ردفان نيران الثورة
كانت أهداف الثورة ثورية أكثر من كونها سياسية لبناء مؤسسة وطنية جامعة للناس المشتين في حوالي 25 كيان سياسي تقليدي: سلطنات وامارات ومشيخات كبيرة وصغيرة. إذ اشملت اهدافها على الأتي:
1. تصفية القواعد وجلاء القوات البريطانية من أرض الجنوب دون قيد أو شرط.
2. إسقاط الحكم السلاطيني والتي يصنف بأنها رجعي.
3. إعادة توحيد الكيانات العربية الجنوبية سيراً نحو الوحدة العربية والإسلامية على أسس شعبية وسلمية.
4. استكمال التحرر الوطني بالتخلص من السيطرة الاستعمارية الاقتصادية والسياسية.
5. إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور.
6. بناء اقتصاد وطني قائم على العدالة الاجتماعية يحقق للشعب السيطرة على مصادر ثرواته.
7. توفير فرص التعليم والعمل لكل المواطنين دون استثناء.
8. إعادة الحقوق الطبيعية للمرأة ومساواتها بالرجل في قيمتها ومسؤولياتها الاجتماعية.
9. بناء جيش وطني شعبي قوي بمتطلباته الحديثة تمكنه من الحماية الكاملة لمكاسب الثورة وأهدافها.
10. انتهاج سياسية الحياد الإيجابي وعدم الانحياز بعيدا عن السياسات والصراعات الدولية.
وهكذا كما جاء في قلب الأهداف كلها
الهدف الخامس (إقامة نظام وطني على أسس ثورية سليمة يغير الواقع المتخلف إلى واقع اجتماعي عادل ومتطور) كانت السياسية هي الغائب الوحيد في أهداف الثورة..
من الأخطاء الفادحة التي وقع فيها ثور الجبهة القومية عدم قدرتهم على التمييز بين الفعل الثوري والعمل السياسي , بين الثورة والسياسة اذ انهم لم يفهموا طبيعة العلاقة لكي يدركوا مابين الثورة والسياسة من اتصال وانفصال وبدلا من البحث في الفروق والاختلافات وقعوا في وهم التشابه والتماثل بين المجالين الذين أفضى الخلط بينهما إلى تلك النتائج الكارثية التي آلت اليها ثورة 14 أكتوبر اليوم. ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة ,اذ ان حضور الأولى يعني غياب الثانية , الثورة حلم جماعي وفعل اجتماعي جماهيري عفوي أو هادف ضد وضع سياسي لا يطاق بينما السياسة وممارستها , على العكس تماما من الثورة وقيمها , انها فن الممكن , السياسة نشاط نخبوي عقلاني تحكمه قواعد لعبة مختلفة عن قواعد لعبة الثورة. الفعل السياسي يعني العيش المشترك للناس في كيان مدني منظم سياسيا بالدستور والقانون سيد الجميع وفق مبدأ قوة الحق لا حق القوة وهذا هو ما تخفيه الثورة والسياسة دائما بحسب روجيس دوبريه في كتاب نقد العقل السياسي. تلك الاختلافات بين المجالين لا تعني غياب أي علاقة ترابطية بين الثورة والسياسة، بل لابد من الاشارة الى ان العلاقة بين السياسة والثورة هي من طبيعة جدلية، بمعنى وحدة وصراع الاضداد، الذي يعني هنا ان الثورة تشترط وجود السياسة بوصفها دافعا وغاية ، اذ ان الثورة لا تقوم إلا ضد وضع سياسي وبتحفيز منه وهي ثانيا سعي دائم من أجل اعادة بناء أو تأسيس المجال السياسي في مكانه الصحيح والثورات ليست من الضرورات الحتمية، بل حالة اضطرارية ، فاذا استطاعت السياسة ضبط الشأن العام بما يؤمن الحياة الكريمة للإنسان ؛ العدالة والحرية وتكافؤ الفرص والعيش الكريم والأمن والأمان والتنمية والسعادة ، فمن المحتمل أن يكف الناس عن الثورات والخروج والعصيان ، ويحل بدلا عنها اتساع الامال والبحث عن الدعة والنماء والأعمار، ولا تدوم الدول الا بعدل صحيح وأمن راسخ وأمل فسيح . كما كتب ابو الحسن الماوردي …
إننا إذ نقف اليوم عند الذكرى السابعة والخمسون لثورة 14 أكتوبر فإننا نقف أمام حقبة فاصلة في تاريخنا وليس لدينا سبيل آخر للتعرف تاريخنا وأزماته وفهم العلل والأمراض التي فتكت بحياتنا وبحث السبل والممكنات الناجعة لتجاوزها غير البحث والدراسة فلا عذر لنا طالما وقد قّدر لنا أن نكون شاهدين على هذه الحقبة الصاخبة بالحروب والعنف والظلم والظلام وبالمآسي والأزمات والإخفاقات , إذ أنه من المهين أن يكون سر أزمة حياتنا والتقييم الدقيق لمصائبنا وأزماتنا وقفاً على أناس لم يولدوا بعد ولا شيء يمكن انتظاره إذ لم نبادر نحن بعمله ولا عذر لنا طالما ونحن موجودون هنا والآن
وهذا هو ما دفعني لكتابة في الحدث والذكرى. ورأيي أن اليمن جنوبه وشماله يعيش منذ أكثر من نصف قرن، أزمات سياسية واجتماعية واقتصادية بنيوية معقدة ؛ إذ رغم مرور قرابة ستة عقود على الثورتين؛ ثورة 26سبتمبر 1962م ضد الحكم الإمامي في صنعاء عاصمة شمال البلاد؛ تلك الثورة التي انتصرت حينها بدعم سخي من الجيش المصري العظيم. وثورة 14أكتوبر 1967م ضد الاستعمار البريطاني في عدن عاصمة الجنوب وما تلى ذالك من حروب بين الجنوب والشمال على مدى عشرين عام ثم إعلان الوحدة الاندماجية بين الجمهوريتين؛ الجمهورية العربية اليمنية في صنعاء وجمهورية اليمن الجنوبية الشعبية في عدن ومسيرتهما إعلان بما يسمى مشروع الوحدة الاندماجية في 22مايو 1990م في إطار كيان سياسي جديد هو (الجمهورية اليمنية) وما تلاها من أزمة وحرب أهلية في صيف 1994م اشتركت فيها القوى الشمالية التقليدية مع حزب الإصلاح اليمني ( حزب اخوان اليمن) لاصدار فتوى تكفيرية ضد الجنوب وشهبة فتوى أباحت القتل والنهب والسلب لكل شيء جنوبي. ومن ثم انتفاضة الحراك السلمي الجنوبي ضد ما اسماه الفيلسوف أبوبكر السقاف بالاستعمار الداخلي وظهور ما يسمى بحركة الشباب المؤمن (أنصار الله) المليشيات الحوثية المدعومة من إيران في محافظة صعده باقصى الشمال وما تلاها من الحروب الستة في شمال اليمن. ثم قيام ثورة شباب التغيير في فبراير 2011م في صنعاء. والمبادرة الخليجية ومؤتمر الحوار الوطني برعاية مندوب هيئة الأمم المتحدة جمال بن عمر مرورا بصعود الحركة الحوثية الطائفية التي تسعى إلى اعادة النظام الإمامي الكهنوتي التي قامت ثورة 26 سبتمبر 1962 للإطاحة به؛ الحوثية كقوة عسكرية وإعلانها البيان الدستوري في 6فبراير 2015 ووضع الرئيس الشرعي تحت الإقامة الجبرية ثم هروبه إلى عدن ومنها إلى الرياض مرورًا بمسقط. ونشوب الحرب الطائفية الأخيرة ودخول القوى الانقلابية الحوثية إلى عدن في 25مارس 2015م واجتياحها بالقوة العسكرية بعد حرب ضروس دمرت كل مقومات الحياة المدنية وبداية عاصفة الحزم من تحالف الدول العربية بقيادة المملكة السعودية في 26مارس 2015م، و”مؤتمر الحوار اليمني الوطني الشامل في الرياض في إبريل 2015م “وصعود قوة المقاومة الجنوبية المسلحة وإعلان عدن عاصمة مؤقتة للشرعية، وتشكيل المجلس الانتقالي الجنوبي والجمعية الوطنية بدعم من دول التحالف العربي ورعاية مباشرة من الامارات العربية المتحدة وأزمة حكومة الشرعية في إدارة المناطق المحررة، وما صاحبها من نزاع عنيف في عدن مؤخرا بين المجلس الجنوبي الانتقالي وبين الحكومة الشرعية ومفاوضات السلام برعاية عربية في الكويت، ومؤتمر جنيف 16 يونيو 2015م وما تلاه من مشاورات ولقاءات متعددة بين الأطراف المتنازعة كان أخرها اتفاقية المصالحة بين المجلس الانتقالي الجنوبي والحكومة الشرعية اليمنية في الرياض بتاريخ 5/11/2019. بحضور دولة التحالف العربي وتمثيل أممي وبإشراف مباشر من المملكة العربية السعودية التي استلمت إدارة المناطق الجنوبية المحررة بعد مغادرة الامارات. ولإزالت الاتفاقية الأخير قيد التنفيذ. وربما تأخر البدء بتنفيذها بحسب مواعيدها المحددة بالإعلان. كل تلك الاحداث تجعل من سردية الثورة حديث خرافة. فما الذي بقي من ثورة اكتوبر وثورة سبتمبر اليوم؟ سؤال يثير الحسرة والإحباط للأسف الشديد…
احد وستين عاما تنقضي من عمرها وعمرنا، ربما رحل معظم أفراد الجيل الذين عاشوا احداثها وشاركوا في إنجاهزها إذ من المؤكد أن أنهم قد حلموا بعكس ماجرى! فما أجمل الحلم وما أصعب الواقع. كان الواقع الاجتماعي والثقافي شديد التخلف والقسوة في معظم بلاد اليمن شماله وجنوبه. وحدها عدن التي كانت أشبه بوردة في الصحراء ولكنها مستعمرة بريطانية للأسف الشديد إذ شهد ميناءها ازدهارًا ملاحيا وتجاريا بحيث غدا ثاني ميناء في العالم وفي سياقه ازهرت مظاهر الحياة المدنية الحديثة على مختلف الأصعدة ففيها تأسست أول وكالات التجارة فضلا عن خدمات البنية التحية الكهرباء والماء والمدارس والمستشفيات والمطارات والتخطيط العمراني الحديث والموصلات والاتصالات والبريد والبرق والهاتف والإذاعة والتلفزيون والصحافة وغير ذلك..
وهذا ما جعلها سيدة الأحلام عند أناس ذلك الزمان:
عدن عدن يا ليت عدن مسير يوم
شاسير به ليلة مشرقد النوم.
ربما كانت حداثة ومدنيتها وبالا عليها إذ لم يشهد التاريخ حالة مماثلة لمدينة دفعت ثمن تقدمها وازدهارها من دمها ولحمها.وحينما رحل الاستعمار البريطاني منها في 30 نوفمبر 1967م تسلم أمرها ثوار الجبهة القومية وجبهة التحرير بهدف تحرير السيادة الوطنية وبناء دولة المواطنين الأحرار فكان الواقع التاريخ أصعب بكثير مما توقعه الثوار وهذا من طبيعة الثورات التي استلهمت نموذج الثورة الفرنسية والثورة الاشتراكية وصف زعيم الثورة الفرنسية روسبير :«هذا التيار المهيب للحمم البركانية التي تقذفها الثورة، والذي لا يوفر شيئاً، وما من أحد يمكنه إيقافه» وهكذا حملت الثورة بوصفها أحداثا نادرة الوقوع ـ نسبياً، ولكنها هامة من الناحية التاريخية، يتم خلالها قلب النظام السياسي والاجتماعي كلية. وذلك باستخدام وسائل عنيفة عادة، ثم يتم إعادة بناءه أسس جديدة بقيادة جديدة – حملت ثقافتها الايديولوجية العابرة للتاريخ ومن ذلك الطبقات والصراع الطبقي والعنف الثوري المنظم و «الحتمية التاريخية ومزبلة التاريخ وغير ذلك من ثمار شجرة الارمول التي تم غرسها بلا جذور في اراضي لم يتم تمهيدها للزرع والثمر . كان الحماس الثوري بما يشيعه من سحر رومانسي هو الغالب في لحظة التي كان يجب أن يختفي؛ لحظة تحويل الثورة إلى مؤسسة جامعة للكيان الوطني مؤسسة المؤسسات الحامية والضامنة للناس والسيادة. ثمة فرق كبير بين الثورة والسياسة ,اذ ان حضور الأولى يعني غياب الثانية وحتى لا نظلمها فمن الحق الاعتراف بأنها غيرت المجتمع تغييرا إجتماعيا وثقافيا جذريا لاسيما في الأرياف التي كانت تعيش في كيانات سياسية تقليدية منعزلة. مع الثورة وبعدها تغير كل شيء في الجنوب بعكس ما جرى في الشمال التي احتفظت بمؤسساتها التقليدية ولم تتحول إلى دولة نظام وقانون للمواطنين بوصفهم جمهورا أو شعبا. وربما كان الانجليزي بول دريش في دراسته (اليمن: الإئمة والقبائل.. كتابة وتمثيل التاريخ في اليمن الأعلى) قد استطاع القبض على جذر مشكلة السلطة وعصبيتها التقليدية في اليمن الشمالية إذ كتب قائلاً: ” أن منطق التطور التاريخي والعلم الاجتماعي أثبتا بأن القبيلة هي حلقة أدنى في سلم التطور الاجتماعي وهذا لا ينطبق على اليمن (الشمالي).. فإذا كانت القبائل تنتهي بطريقة ما إلى دولة، فإن الدولة غالباً ما تتحول هنا إلى قبائل وقد تتعايشان معاً على مدى مراحل طويلة إن الأفراد الذين يتكون منهم الشعب يشكلون بطريقة ما جمهوراً لم يكن ولن يكون بمقدور القبائل تشكيله” ومن المؤسف أن القوى التقليدية اليمنية والحديثة تشاركت في تدمير مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة الوحيدة في جنوب الجزيرة العربية في عدن بوعي أو بدونه ولكنها بذلك مهدت السبيل لعودة المؤسسة التقليدية الطائفية في صنعاء…وهكذا هو التاريخ دائما يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدا…
واليوم، ونحن نستعيد ذكرى ثورة 14 أكتوبر، وبعد أكثر من نصف قرن، من الطبيعي أن تكون هناك آراء ووجهات نظر متباينة حول كل ما حدث طيلة هذه العقود العاصفة. على أنه، ومهما يكن عليه الأمر، فهذا هو التاريخ الذي تم وانقضى ولا يجدي الثأر أو السخرية منه بقدر ما يهمنا نقده والكشف عن جوانبه المختلفة، وحقائقه المتعددة، ونتائجه الملتبسة، والبحث في فرصه وممكناته. ولسنا في أوله ولا في آخره، بل نحن الآن في خضمه وعلينا التعلم من تاريخنا أن الدولة المدنية الديمقراطية العادلة والمستقرة التي تسودها قواعد التنافس السلمي يجب أن تكون هدف وغاية كل ثورة سياسية ممكنة. نعم اشتملت بنية ثورة 14أكتوبر 1963 على عناصر الثورة الأساسية: الجدّة، والتغيير، والحداثة، ولكنها للأسف الشديد عجزت عن إنجاز هدفها الأخير وغايتها القصوى المتمثل في الدولة المدنية الديمقراطية المفترضة وهذا هو ما جعلنا نتذكرها بحسرة وحنين ولو إنها أنجزت وظيفتها المؤسسية لتذكرناها ولعشنا نتائجها بطريقة أخرى والحنين وجع الذاكرة!..والثورة التي عجزت أن تتحول إلى دولة لا قيمة لها ولا فائدة!..