ضع اعلانك هنا

في إدلب الشامية : محاضرة، عن الدولة المدنية ومقوماتها؛ للدكتور البرقاوي في النادي الثقافي بالمحافظة، عام 2002م

•• بروفيسور / قاسم المحبشي ..

في طريق عودتي من عدن الى بغداد بعد الإجازة حرصت على المرور بدمشق بغرض التزود بما أحتاجه من مصادر ومراجع لإنجاز أطروحتي المسجلة في جامعية بغداد عن فلسفة التاريخ الغربية المعاصرة لاسيما في ظل وضع الحصار الشامل الذي كانت تعيشها بغداد حينها وتلك فرصة لزيارة استاذي؛ الدكتور أحمد نسيم برقاوي، الذي كان يقيم في شقة جميلة على شارع أوستراد الدولي. قريب من كلية الأداب بجامعة دمشق ومزة جبل، وحي الرمانة وحي السفارات ومستشفى المواساة والمدينة الجامعية حيث سكن الطلبة والطالبات ومكتبة (الأسد) الزاخرة بالكتب وبالمراجع في مختلف التخصصات الثقافية والأدبية والعلمية..

كان ذلك في سبتمبر 2002م إذ لم تخني الذاكرة! وتلك كنت المرة الثانية التي ازور دمشق فيها. إذ كانت المرة الأولى في عام 1993م لغرض زيارة مشرفي العلمي في الماجستير عن رسالتي الموسومة ( الوجود والماهية عند جان بول سارتر) سجلتها مع دكتور أحمد برقاوي حينما كان استاذنا زائرا بقسم الفلسفة، كلية التربية العليا بجامعة عدن مع نخبة من الأساتذة العرب من مصر وسوريا والعراق والسودان منهم؛ الأستاذ الدكتور نمير العاني ومحمود أمين العالم والدكتور والطيب تيزيني وجيلي عبدالرحمن والأستاذ مبارك خليفة وعبدالرزاق عيد وخضر زكريا وعبدالشافي صديق وعبدالسلام نور الدين وحامد خليل وغيرهم وذلك عام 1992م..

خلال مدة الماجستير شهدت بلادي؛ اليمن حرب اجتياح عدن وتكفيرها ونهبها في صيف 1994م وانتصار القوى التقليدية وتدمير الوحدة اليمنية. وتلك هي التي قصمت ظهر البعير! وبسببها -اقصد الحرب اللعينة- تم تأخير نقاش رسالتي للماجستير لمدة عامين مع الزملاء والزملاء بوصفنا الدفعة الثانية في البرنامج بعد دفعة المعيدين والمدرسيين في القسم. على مدى عام كامل من السنة التحضيرية بالماجستير للعام الأكاديمي 1991-1992م وكان يفترض مناقشة الرسالة بعد عام أو عامين لكن أزمة الوحدة اليمنية أفسدت البرامج الاكاديمية إذ اضطر الاستاذة العرب إلى مغادرة عدن قبيل اندلاع المعركة مما اضطرنا السفر إلى دمشق لمقابلة المشرفين ذهبت برفقة الزملاء توفيق مجاهد وعبده بن بدر وصالح مدشل لمقابلة المشرفين العلمين في جامعة دمشق. أنا وتوفيق مشرفنا الدكتور أحمد وعبده بن بدر مشرفه حامد خليل وصلاح مدشل مشرفه الطيب تيزيني.كنت قد كتبت فصلين برسالة الماجستير سلمتها للدكتور أحمد في مكتبه الرحيب بكلية الآداب، جامعة دمشق في ديسمبر 1993م. ما علينا من تلك الذكريات المؤلمة…

المهم أنني زرت الدكتور أحمد في المرة الثانية في مكتبه بالجامعة إذ كان حينها رئيسا لقسم الفلسفة بجامعة دمشق وعزمني على وجبة غدا في شقته العامرة بالحياة والكتب المنتقاة بعناية أكاديمي مثقف يعرف الفرق بين الغث والسمين!
كانت مكتبة عامرة بأجود الكتب والمراجع في الفلسفة والعلوم الإنسانية. منحني الدكتور أحمد فرصة كاملة للأطلاع على عناوين الكتب فيها واختيار ما يفيدني في إعداد أطروحتي لكي أستعيرها واعيدها في مرة لاحقة كما أنه اهداني نسخة من كتبه ومنها؛ محاولة في قراءة عصر النهضة 1986 والعرب بين الأيديولوجية والتاريخ 1995 م. دمشق دار الأهالي والعرب والعلمانية 1996 دمشق معد للنشر وأسرى الوهم 1996 دمشق دار الأهالي ودفاعاً عن الأمة والمستقبل 1999 دمشق دار الأهالي. والعرب وعودة الفلسفة 2000 دمشق وربما كتب أخرى لديه أكثر من نسخة منها . يومها أخبرني الدكتور أحمد انه مدعو لالقاء محاضرة عن معنى الدولة المدنية ومقوماتها وذلك في النادي الثقافي بمحافظة إدلب، شمال سوريا على حدود تركيا تبعد عن دمشق ٣٢٠ كم تبعد حلب حولي ٦٠كم السفر اليها من دمشق يحتاج سبع ساعات بالسيارة، تقع على ارتفاع 400م عن سطح البحر ، تقدر مساحتها ٦١٠٠كم وعدد سكانها حوالي مليون ونصف. قال لي الدكتور أحمد ما رأيك تذهب معي إدلب؟ لم أتردد بالموافقة إذ وجدتها فرصة سانحة للتعرف عن كثب على سوريا الفسيحة ورؤية أماكن لم أشاهدها قط بحياتي، وأنا اعشق السفر والترحال والتعرف على كل جديد. وكل جديد بالنسبة للراشد متعة! بحسب علم النفس. فضلا عن مرافقة استاذي الذي كان له الأثر الكبير في تكويني الفكري والثقافي. اتفقنا على أن نلتقي فجر اليوم التالي في محطة الباصات الذاهبة الى إدلب. حزمت أمتعتي وتوكلت على الله ونمت مبكراً…

وعند الفجر التقينا في محطة إدلب وصعدنا الباص الذي انطلق بناء صوب إدلب البعيدة حرصت على الجلوس بمقعد بجانب النافذة لكي استطيع مشاهدة معالم الطريق والأماكن التي نمر بها، مررنا بحلب البيضاء وتناولنا وجبة الغداء وشاهدت قلعة حلب المطلة على المدينة ثم انطلقنا صوب هدفنا البعيد إدلب النائية، كانت الطريق معبدة مررنا بجبال وأودية ومساحات خضراء جميلة وشهدنا رعاة الماشية بجانبي الطريق. وفِي أثناء سيرنا مرننا بمدينة صغيرة عبارة عن واحة خضراء فإذا بالدكتور أحمد يشير لي أنظر هذه هي معرة النعمان! أحد اجدادك جاء من اليمن مع الفتوحات الإسلامية وانشاءها ومنذ ذلك الحين سُميت باسمه وهنا ولد وعاش الشاعر الضرير ابو علا المعري! كنت في غاية السعادة وانّا اشاهد معرة النعمان التي طالما وقد أثارت خيالي من زمن طويل، برمزها الثقافي الأدبي الأبرز ابو علا المعري أديب الفلاسفة كما يسمونه. تمنيت أن يتوقف الباص هناك ولكنه عدى الواحة ولم يوقف. وصلنا محافظة إدلب عصرا؛ مدينة اثرية متواضعة تشبه مدينة الشحر الحضرمية بنمطها المعماري التقليدي وبياض بيوتها المتناسقة مع بيئتها الطبيعية .
اُستقبلنا بحفاوة راقية من مدير وأعضاء النادي الثقافي بإدلب الباردة وفِي الساعة الخامسة بدأت المحاضرة عن (الدولة المدنية المنشودة ) كانت القاعة ممتلئة بالحضور من النوع الاجتماعي. على مدى ساعتين تحدث الدكتور أحمد عن معنى الدولة المدنية وشروط ازدهارها وبدى بالقياس إلى الواقع وكأنه يحلق بنا على أجنحة العلم والحلم والأمل في فضاءات باذخة بالحرية والعدالة والسلام والاستقرار. تداعت تلك الذكرى إلى مخيلتي وأنا أشاهد ما يحدث في سوريا الحبيبة منذ يومين ثورة تحرير وحرية وكرامة وهروب الطاغية الأكثر دموية في تاريخ الأنظمة الاستبدادية. 22 عاما مرت من تاريخ تلك المحاضرة التي لم أنساها أبدا. تحدث المحاضر عن معنى الدولة المدنية بوصفها مؤسسة وطنية جامعة أو كما اسمها (مؤسسة المؤسسات العامة)؟ التي لاتنهض الشعوب ولا تنمو الأوطان ولا تستقر ولا تزدهر الا بها وفِي إطارها. الدولة بوصفة المؤسسة السياسية الوطنية الجامعية الناتجة عن العقد الاجتماعي المبني على أساس مبدأ قوة الحق لا حق القوة إذ أكد برقاوي العلاقة الوثيقة بين المجتمع المدني والدولة المدنية..

من منظور المجتمع ككل بوصفه عدد من مجالات, متناغمة مع قوى واحتياجات الذات الإنسانية الفردية, قوة الحب والعلاقات الحميمية, في المجال الخاص, مجال الأسرة, مؤسسة القرابة التقليدية الأولى, والقوة العاقلة والعلاقات الضرورية للحياة الاجتماعية المشتركة, المجال العام, مجال السياسة والسلطة, والقوة الغريزية المتعطشة إلى الإشباع المادي, المجال الاقتصادي, وعلاقات السوق حيث المنافسة والربح والاحتكار, وقوى الموهبة والاهتمام, حيث يجد الإفراد فرص التعبير عن مقدراتهم وتطلعاتهم ومواهبهم واهتماماتهم الحرة, مجال العلاقات المهنية والحرفية الإبداعية وغير الإبداعية, المجال المدني, حيث تختفي علاقات القرابة الحميمية, وعلاقات السياسة التسلطية, وعلاقات السوق التنافسية الربحية,هنا يمكن لنا التعرف عن المجتمع المدني في الرحم الحي لتخصيبه, ولكن هل يمكن للمجتمع المدني أن يتخصب وينمو ويولد ويزدهر من ذاته ولذاته وبدون قوى وشروط فاعلة؟ والجواب إن الدولة المدنية هي المعنية بحماية وتنمية المجتمع المدني وذلك بوصفها المعنية باحتكار القوة وادارة السلطة..

واتذكر أن خيالي ليلتها سرح في تشبيه الدولة المدنية الوطنية بالأم الحانية وظيفة الدولة الحقيقية تشبه وظيفة الأم الحانية بوصفها الأرض والوطن والأمن والأمان والغذاء والاشباح والحماية والحب والحنان والرعاية والاهتمام بكل مواطنيها بدون تمييز والفرق بين الأم والدولة يكمن في كون الأولى مفطورة على الأمومة ولها قلب وعيون والثاني مؤسسة مدنية جامعة بحكم الدستور والقانون الذي ليس له قلب أو عيون وهذا ما يؤمن المساواة والعدالة بين مواطنيها. فأن تكون مواطنا في دولة حقيقية فهذا يعني حصولك على جميع الحقوق الآدمية مقابل القيام بواجباتك الوطنية منذ أن تولد حتى تموت؛ حضانة وتربية وتغذية وصحة وتعليم ورياضة وعمل وسكن ومعيشة كريمة وحماية قانونية ومعاش تقاعدي وأشياء كثيرة أخرى لا يعلمها الا الذين خبروا العيش في دول مدنية صحيحة. وبعد سرد تاريخ لتحولات النظم السياسية وخصائصها من جمهورية أفلاطون وأنت طالع حدد دكتور برقاوي معنى الدولة المدنية وخصائصها بالقول إن: الدولة المدنية المستقرة تتميز بعدة خصائص تجعلها مختلفة عن الأنظمة السياسية التقليدية أو الدينية منها:
مبدأ سيادة القانون، حيث يخضع الجميع، بما في ذلك الحاكم والمحكوم، للقانون دون تمييز..

والقوانين تُوضع بشكل ديمقراطي، وتحترم حقوق الأفراد والمجتمع بغض النظر عن هوياتهم الاجتماعية التقليدية (الدين، الجنس، العرق، أو الانتماءات الأخرى ( طوائف ، قبائل ، عشائر) إذ أن المواطنة هي أساس العلاقة بين الفرد والدولة، حيث تتساوى الحقوق والواجبات للجميع وهذا لا يتحقق إلا بالفصل بين السلطات الدينية عن السلطات السياسية إذ يجب على الدولة بوصفها بيت جميع مواطنيها على قدر متساوي من القيمة والجدارة والحقوق والأهلية أن تُحترم جميع الأديان وتُكفل حرية المعتقدات لكل مواطنيها وأن تُدار سياساتها وفق قواعد مدنية وقوانين وضعية وذلك بالديمقراطية التي تجعل من الشعب مصدر سلطتها الوحيد ومن خلال الانتخابات الحرة والنزيهة وتكون ممارسة السلطات عبر مؤسسات دستورية تمثل الإرادة الشعبية ومصالحها العليا..

واكد على ضرورة أحترام الحريات العامة والفردية، حرية التفكير والتعبير، وحرية الاعتقاد والعبادة، وحرية التنقل والعمل من خلال مؤسسات قضائية مستقلة للعدالة الاجتماعية إذ يفترض أن تعمل الدولة المدنية على تحقيق العدالة الاجتماعية من خلال سياسات تهدف إلى تقليل الفجوة بين الطبقات وتوفير فرص العيش الكريم متساوية لجميع المواطنين لاسيما التعليم والصحة العمل باعتبارها حقوقًا أساسية للإنسان حيثما كان..

وغير ذلك من الأفكار التي ربما يتذكرها الدكتور أحمد أكثر مني.تلك فقط ما علقت بالذاكرة من تلك المحاضرة التي شدت اهتمام الحاضرين واثارت كوامن وعيهم وحفزتهم على طرح الأسئلة والمناقشة مع المحاضر. واتذكر بإنني ليلتها -وأنا الكائن الغريب الوحيد في تلك المحاضرة – قد طلبت التداخل وتسألت بشأن سبب عجز النخب السياسية عن تأسيس الدولة المدنية العادلة؟ إذ قلت أن العقل العربي لازال ينظر الى السلطة بمنظور خلدوني بوصفها غنيمة وليست تقنية اجتماعية لإدارة الشأن العام بالقانون والعدل والنظام، وطالما وثمة كائنات بشرية تعتقد ذاتها فوق القانون فمن الصعب مأسسة السياسة على أسس سليمة وقابلة للاستمرار والدوام مثل شعوب العالم التي سبقتنا في هذا المضمار. وقد كانت السلطة السياسية ولا زلت مشكلة عويصة في كل مكان وزمان ولا توجد غير ثلاثة خيارات مجربة لضبطها وتداولها بحسب عالم الاجتماع الفرنسي ماكس فيبر وهي : الوراثة كما هو حال الممالك والسلطنات التي تتوارث الملك والحكم بين الأجيال بوصفها حقا طبيعيا . والقوة بالقهر والإخضاع كما هو حال الغزاة والطغيان والاستبداد بمعنى الحكم بقوة السيف والساعد والثالثة هو الديمقراطية العلمانية وهي افضل الطرق المجربة أو التقنيات المبتكرة لحل معضلة السلطة بالتداول السلمي في معظم الدول المستقرة..

وانا أتأمل في حال مجتمعنا العربي لاحظت ظاهرة غريبة جدا إلا وهي إن مشكلة السلطة وأدارة الشأن العام هي اخطر المشكلات التي تحتدم حولها المعارك منذ اقدم العصور (وأعظم خلاف بين الأمة خلاف الإمامة إذا ما سُلَّ سيف في الإسلام على قاعدة دينية مثل ما سُلَّ على الإمامة في كل زمان)) ومع ذلك لازلنا نتعامل معها بلا جدية ولا اهتمام ولا مسوولية حقيقية. حتى المعايير الشكلية البسيطة التي ممكن أن تخفف من حدة الصراع على السلطة وتفننها – اقصد المساواة في توزيع الفرص بين الفعاليات والحساسيات الاجتماعية القائمة بحسب الحجم والقوة والوزن والمكانة وبحسب الشهادات العلمية والتخصص والكفاءة والخبرة والسمعة النجاح المهني وغيرها من المؤشرات والمعايير الشكلية حتى هذه يتم تدميرها بغباء لا مثيل له يقود الجميع إلى التهلكة دئما في دورات متكررة من الحروب والنزاعات والتمردات والثورات المرهقة..

ختاما اعترف لكم وللدكتور أحمد برقاوي هنا بان تلك المحاضرة بالنسبة لي كانت بمثابة رنة الجرس الذي نبهني لخطورة السياسية وأهمية ضبطها والبحث في الفلسفة السياسية والفكر السياسي والتفكير في الوضع السياسي اليمني تحديدا والعربي عامة ولكنه الشديد القتامة والخراب! لقد كانت السلطة السياسية والتحكم بادارتها بحنكة وبراعة ولازالت هي قطب الرحى في تاريخ الحضارة البشرية كلها. ولا شيءٍ ابسط ولا اعقد واخطر منها ابدا. انها الضرورة الحاضرة الفورية المباشرة في كل زمان ومكان يوجد في الإنسان إذ ظلت السياسة على مر الأزمان هي الزمن الذي لا يمر بمعنى أن الوجود السياسي للناس في المجتمع هو وجود شبه ثابت في بنية المجتمع الأساسية، مثله مثل بنية التزاوج والتدين والقرابة. وكل لحظة من لحظات التاريخ السياسي والديني للمجتمعات تمثل الدرجة الصفر؛ وكل جيل يمسك بالخيط من أوله، ويردد في الوقت ذاته أنه يبتدع هيستيريات تحقيق الذات، والهلوسات الجماعية، والفصامات الطائفية، والهذيانات الدفاعية، والأخرى التفسيرية…

وكما أن المراهق يتعلم المضاجعة دون أن يعلِّمه إياها أحد، ولكن دون أن يمارسها أفضل مما مارسها جدوده، فإن كل حقبة اجتماعية تعاود اختراع السياسة، وكأنها لم تكن قط، هي هي سياسة كل زمن، الإشكالية بصورة جوهرية. ويرى رجيس دوبريه أن هذه “القرابة المزدوجة بين السلطان السياسي والميثولوجيا والشبق الجنسي نابعة بالتحديد من أن زمن الخرافة، وزمن غريزة الحب شريكان في البنية ذاتها، بنية التكرار” وهكذا نفهم الصلة الدائمة بين السياسة والدين والمجتمع بوصفها صلة راسخة الجذور في الكينونة الأولى للكائن الاجتماعي الديني السياسي بالطبع والتطبع ! وهكذا يمكن القول إن علاقة الإنسان بالإنسان ظلت راسخة النسيج ثابتة النسق وكل ما طرى عليها طوال ملايين السنيين لا يعدو بان يكون أكثر من ديكور اسمه الحضارة والتحضر تم اكتسابه اكتسابا بقوة السلطة والتربية والقانون وحينما تنهار السلطة والقانون في مكان من مجتمعات الإنسان يعود الناس إلى سجيتهم الحيوانية الطبيعية الأنانية الفطرية في حالة حرب الجميع ضد الجميع! فأول الحضارة هو الإحساس بالخوف من عاقبة الاعتداء على الآخرين ومن الضرر الذي يصيب الإنسان من اعتداء الآخرين عليه وهو الخوف الذي نعبر عنه بالضمير والوازع ومخافة الأذى والضرر جراء القيام بالذي صار اسمه بعدما لا يحصى من الزمن والخبرات والتجارب حراما وعيبا وممنوعا ولا يجوز. والسياسة هي الزمن الذي لايمر! بمعنى أنها المجال الوحيد الذي ليس بمقدور أحد تجاوز استحقاقها أبدا، والسياسة تؤثر في حياة الناس بأشد مما تؤثر فيهم تقلبات الظروف الطبيعية: (المناخ والحر والبرد والخصب والجدب والعواصف والفيضانات والزلازل والبراكين …إلخ) حسب فاليري…

أدهشني الدكتور أحمد بقوة طرحه وجرأته في بسط الفكرة البالغة الحساسية في ظل نظام حكم بوليسي شديد الخطر. أمضينا ليلة جميلة في ضيافة النادي الثقافي وفِي صباح اليوم التالي شاهدنا المدينة في جولة سريعة مدينة أفقية هادئة شوارعها الداخلية مرصوفة بالأحجار ومنازلها بيضاء وهناك شاهدت سيارات قديمة جدا كانت في عدن بزمن الاستعمار الانجليزي منها البيكاب ولاندروفر وفكس ويجن واشياء أخرى تتميز بها إدلب المحادة للواء الإسكندرونة. ثم عدنا الى دمشق الحانية. وبعد ثلاثة أيام من تلك الزيارة ذهبت الى بغداد لغرض دراسة الدكتوراه في فلسفة التاريخ بعد أن أخذت ما أحتاجه من مراجع وكتب تفيدني في العراق المحاصرة آنذاك!…

ضع اعلانك هنا