ضع اعلانك هنا

الشيخ علي جميل في الذكرى الثلاثين لاغتياله..

كتب / سام أبواصبع ..

حين يُذكر اسم الشيخ علي جميل، يتجسد في الذاكرة اليمنية نموذجٌ نادر لزعيمٍ سياسي تحدّى بيئةً قبليةً متجذرة، مسلحاً برؤية حداثية للدولة والمجتمع. لم يكن مجرد سياسي تقليدي، بل كان مشروعاً وطنياً يسعى لاختراق بنية السلطة القائمة على الولاءات القبلية، في مواجهة نظام لم يكن مستعدًا للتغيير.

في العاشر من فبراير 1995، اغتيل علي جميل في صنعاء، بعد أقل من عام على حرب ١٩٩٤م التي أخرجت الحزب الاشتراكي من المشهد بالقوة، و كانت حملة التنكيل ضد الاشتراكي شاملة، طالت كوادره، ومصالحه الاقتصادية، وحتى رموزه الاجتماعية. كان علي جميل من بين المستهدفين.

لم تكن تصفيته حدثاً عابراً، بل جزءً من سلسلة اغتيالات استهدفت رموز المشروع الوطني والدولة الحديثة. كانت رسالته واضحة: لا مكان للأصوات التي تتحدى مراكز القوى التقليدية.

قبل اغتياله بعامين، خاض الشيخ علي جميل واحدة من أكثر المعارك الانتخابية دلالةً في تاريخ اليمن الحديث، حين ترشح لمجلس النواب عن مديرية ظليمة – حاشد، معقل القوى القبلية. كان منافسه حميد الأحمر، نجل الزعيم القبلي عبد الله بن حسين الأحمر، ورغم فوزه بفارق 131 صوتًا، إلا أن النتائج زُورت كما قيل بصفقة سياسية بين الأحزاب حينها.

لم يكن التزوير مجرد انتهاك انتخابي، بل كان تأكيداً على أن الديمقراطية في اليمن ليست سوى لعبة تُدار داخل دوائر النفوذ. لم يكن ممكنًا، وفق معادلات السلطة السائدة، السماح لمثقفٍ تقدمي من قلب القبيلة أن يكسر احتكارها، أو أن يفتح نافذةً للأفكار الحداثية في مجتمع محكوم بقواعد الولاء التقليدي.

لم تكن الرصاصات التي استهدفت علي جميل تهدف فقط إلى إسكات رجل، بل إلى وأد مشروعه بالكامل. فقد كان يحمل رؤية لدولةٍ مدنية تقوم على حكم القانون، لا على هيمنة المشيخات والولاءات الطائفية. لكن المفارقة أن الفكرة التي قُتل من أجلها لم تمت، بل أصبحت أكثر وضوحًا مع مرور الزمن.

اليوم، يقف اليمن عند مفترق طرق جديد، حيث عادت الإمامة بوجهٍ أكثر حدة، مستغلةً الانقسامات المذهبية والمناطقية لتمزيق النسيج الاجتماعي، وإعادة إنتاج السلطة بمنطق ما قبل الدولة. لكن ما تغير هو وعي الجيل الجديد، الذي لم يعد يرى في القوى التقليدية مستقبلًا، بل عقبةً أمام تحقيق دولة المواطنة والمساواة.

لم يكن مشروع بناء الدولة في اليمن ترفاً سياسياً، بل كان ضرورةً تاريخية أُجهضت مراراً بفعل مراكز النفوذ التي أدمنت العيش في ظل الفوضى المنظمة. هذه القوى لم تكن مجرد عائق أمام الديمقراطية، بل كانت -وما تزال- تقاوم وجود كيانٍ حديث ينهي سلطتها المستندة إلى موروث اجتماعي إمامي.

ورغم أن اليمن شهد محاولات متعددة لكسر هذا الواقع، من ثورة سبتمبر وأكتوبر وصولا ثورة فبراير 2011، إلا أن كل محاولة قُوبلت برد فعل عنيف يعيد إنتاج نفس المنظومة. اليوم، في ظل الحرب والتشظي، يبدو أن الحاجة لمشروع وطني كبير وكتلة تاريخية لبناء الدولة لم تعد مجرد خيار، بل باتت السبيل الوحيد للخروج من دوامة الانهيار.

كان علي جميل سابقاً لعصره، لكن حركة التاريخ لا تتوقف، وإن تأخرت. وما كان يبدو مستحيلًا في زمنه، أصبح اليوم ضرورةً لا يمكن الالتفاف عليها. فالرهان على استمرار سلطة الماضي لم يعد ممكنًا، والدولة الحديثة لم تعد حلمًا مؤجلاً، بل هي المستقبل الحتمي لليمن.

ضع اعلانك هنا