في مثل هذه الأيام تقريبا اخبرني الرفيق الخالد عبد الفتاح إسماعيل أن هناك فكره جديه في عودته للوطن.. و كنت قد عايشت تجربه حنينه المذهل إلى ارض الوطن خلال سنوات خمس. كنت, كلما التقينا, استشعر في آهاته هواء اليمن..
و ازدادت لقاءتنا .. و لمست بوضوح أن تغييرا حقيقيا قد اعترى كيانه, لكان شمسا قد اشرقت في عيونه (الى الوطن اخيرا ايها الرفيق ايمن.. لابد أن نلتقى هناك).. و
قبل بضعه ايام من سفره ودعته مع لفيف من الادباء و الشعراء السوفيت, و سلمته هذه القصيده.. قراها..عانقني و قال: كأنك تسكنني فأجبت بل أنت تسكننا جميعا يا أبا صلاح.. تحدث الادباء السوفيت و قرأت الأشعار بالروسيه و العربيه.
و سجل الرفيق عبد الفتاح شريط فيديو كاملا عن الوداع هذه( لا ادري اذا نجا من الحريق..)؟ و بعد ايام ارسلت القصيده الى عدن
في الحقيبه الدبلوماسيه لكن القصيده لم تنشر.. ابدا..!
اوكلما قدمت قلبي شاره تهدى السبيل
للقادمين بلا دليل
ظنوه قنبله, و شرياني الفتيل
يتوغلون بمن أحب لعل أنسى
في قلب قلبي يعبر الدرب فمهما حاولوا
أن يبعدوها عن مرادي
أو غلوها في فؤادي
في كل خطو باعدوها..
باعدوا عني ابتعادي
فتمازجت في العمق أنفاسي
و أفاق لها
هيمات أن تجدوا حدودا في التماهي
بين اهاتي..وهبات النسيم على بلادي
يا وجهها المزروع في ظلي ..و في قلبي الظليل
كيف اختصرت مسافه الاشعار..
بين الحرف و الرؤيا.. و أورقت البديل؟..
وضفائر جدلت من عبق الفصول
قبلت تموز القتيل
فاجتاح أوردتي الصهيل
أضرمت في صدري مواقيت الوصول
قبيل ميلاد الرحيل
.. و يقول لي كهان معبدك الطعين:
عد عن هواك
فالحب ربيه
أطفئ رؤاك
ما أنت أوديب المجير..
و ليس في أبواب طيبه.
..كيف الرجوع عن الخصوبه للبذار؟
أترى أموت بلا احتضار؟_
و هي التي رسمت مساماتي كذرات التراب
فان تشقق في انتظار الغيم
ترتسم الخطوط..
خطوط راحتي البعيده
و هي التي ارتعشت بثغري أن نطقت
و أن صمت ..فكيف تنتحر القصيدة..؟
..أنا لست أوديت الشريد
أنا نزف جرح جففوه أن استطعتم مره
أو ..فأعصروه سيظل منبعه وريده..
كيف الرجوع عن الحنين
كيف الموات بلا احتضار
و تظل تهتف بي حذار
أن هنت , أو في البعد مت على انتظار
سيان قد تلغى النهار
لابد أن تحيا ..توالد.. في غبار الطلع
في دمع الصغار
فالفكر و الإيمان ان تبغ انتحار
وجها صلاه للفرار..!..
..يا وجهها المزروع في ظلي
وفي قلبي الظليل..
إني إليك أعود.. لا عن ضوء عينيك الجليل
يا أنت… يا وجعي الجميل..
يا قبله للممكن المأمول
في شفه الحنين المستحيل..
لفعت بالحب النزيف
و أن تتلفعى .. فعى..
ما كان حبا .. واسمعي.. معي..
صيحات طير الزوبعه
خط النداء على مسارات الجهات
الأربعــه
جسدي رمالك فاغمري ..مري
بالموج قلبي كي يزيل مواجعه
و تقدمي .. دمي
فلعل نزفى توقفي .. قفي .. في ..
شرفه الأعصار
غني الأشرعه
ليكاد قلبي أن يغادر اضلعه..
عبد الفتاح اسماعيل إنسانا
الحلقة الثانية
تكررت لقاءاتي بعبد الفتاح اسماعيل ، وتوطدت الصداقة إلى حد كبير ، وبات يناديني أبو خالد وبت أناديه أبو صلاح ، وازدادت أجواء حزنه بعد أن طال البعاد وتكرست أوضاع راحت تقلص أحلام العودة إلى الوطن ، وذات يوم جئته قبل موعدي معه بحوالي الساعة فاستقبلتني ابنته إصلاح
قالت إصلاح : ان الوالد مشغول الآن في لقاء مع بعض الضيوف
فقلت : حسنا سآتي في وقت آخر
فأجابت على
الفور: لا لقد طلب الوالد ان تنتظره قليلا ..
لفت نظري أن إصلاح متحدثة واعية ومبدأية وجدية جدا ، أحضرت القهوة وسألتني عن دمشق والأهل وبعض الشؤون السياسية ، فبدت في حديثها أكبر من عمرها بكثير ..
قلت لها: تقرأين كثيرا يا إصلاح ..
فأجابت :لا أعتقد ذلك.. مهما يقرأ الإنسان فهو بحاجة للمزيد ، ولكن الوالد يناقشنا ويستمع إلينا ويحاول بشكل غير مباشر إيصال الأفكار لنا عندما يتاح له ذلك …الكتب لا تغني عن دروس الحياة .
قلت في نفسي حقا هذا أفضل من الكتب أحيانا ، وتوصلت إلى قناعة أن فتاح رغم انشغالاته لا يبخل بالوقت على أولاده حين يستطيع ذلك ، وهذه من أهم خصال الإنسان المتجانس مع نفسه .
حضر عبد الفتاح بعد حين وبدأ يعتذر فقلت له على الفور : ولكنني جئت قبل الموعد أنا المخطئ ..
تابع اعتذاره وشكر إصلاح وابتسم قائلا :أرجو ان لا تكوني أتعبت رأسه .. فنظرت إليه معاتبة فضحك وأضاف: إصلاح جدية ومثقفة وأنا أفتخر بها ابتسمت إصلاح وغادرت بهدوء ما يدل كذلك على الاحترام الكبير والتقدير لظروفه .
قال فتاح : أولادي قطعة من كبدي ولكل واحد سمة مميزة ، لكني فخور بأن إيجابياتهم تفوق كثيرا بعض السلبيات ..طبعا لكل إنسان سلبياته أنا أيضا لي سلبياتي .. – وتابع مع آهة حبيسة -.. كم أشتاق لهم كم أشتاق للوطن ، هل تدرك ياصديقي معاناة أن تكون هنا وهناك بآن معا ، هنا بجسدك وهناك بروحك – واستطرد كحالم – لا شك أن لي سلبياتي وإلا لما وصلت الأمور إلى هذه التشنجات ، أود حقا أن تسير الأمور بشكل ديمقراطي ، أن أكون أيضا مع رفاقي وأن نتابع معا الطريق بشكل مبدأي ونقي .. أن أكون في وطني أنا لست بحاجة للاستجمام بل للعمل..
بعد فترة صمت صغيرة قلت له : ولماذا اضطررت إلى المغادرة ولماذ تحمل نفسك المسؤولية ؟
تنهد فتاح وأجاب : يبدو لي أنني لم أكن حازما بما فيه الكفاية في بعض الأحيان.. وكنت حتى أفضل أن يتم اتخاذ القرارات لا نتيجة تصويت الأكثرية، بل لأن القرارات جيدة بمعنى أن يكون التصويت مبدئيا وليس تكتليا، وأن نعتمد الاقناع مهما طال الحوار .. ربما.. ولكنني لم أجبر على المغادرة .. لقد اخترت أن أوافق على هذا الحل حتى لا يحدث صدام دام بين الرفاق وتتمزق التجربة والوطن ، كان هذا الخطر قائما بالفعل.. الحوار قد يقود إلى التفاهم أو الحل الوسط على أقل تقدير أما التناحر فقد يوصل إلى الاحتكام إلى البندقية وهذا يقود إلى خراب وربما إلى حرب أهلية أي إلى الجنون .. لقد قلت في نفسي إذا كان سفري المؤقت سيحول دون هذا الصدام الدامي فليكن ..وسافرت
قلت له : ولكنك قائد هذه التجربة
فأجاب على الفور : لا انا أحد قادتها وهذه التجربة بحاجة ليس فقط إلى قادتها بل إلى جميع الرفاق ، وبحاجة إلى مساهمة الشعب وبالتالي علينا أن نثبت أننا نستحق أن نكون قدوة لكي يمشي الشعب معنا حين يدرك ويحس بأننا نعمل من أجله..لا أن نشتغل ببعضنا ونظهر للناس أننا غير قادرين على التفاهم فيما بيننا وغير قادرين على حل إشكالاتنا .. إذن كيف نحل إشكالات الناس
قلت له : هل المشكلة في من يكون الرئيس ؟
أجاب بحرارة : ياصديقي أروى بنت أحمد حكت اليمن ووحدت مناطقه وقبائله قبل ألف عام ، والمجتمع لا يرحب عادة برؤية امرأة في سدة الرئاسة ..ومع ذلك قدم لها الولاء ، لأنها كانت جديرة وقادرة على تحمل المسؤولية .. المهم إذن لا من يكون رئيسا أو قائدا بل المهم كيف يحكم وبأية حكمة وخبرة وكيف يتعامل مع الآخرين.
سألته فيما إذا كان الخلاف متعلقا بعلي عنتر تحديدا، فأوضح لي أن علي عنتر إنسان نقي ولا بد أن يرجع إلى ضميره ووصفه بأنه إنسان طيب ومخلص مضيفا بأن المشكلة في أن التوتر يتحول إلى تشنج ، والتشنج تبنى عليه مواقف ، وتظهر موسوعات من الشائعات ، والشائعات برأي فتاح أشبه ما تكون بالزيت الذي يصب على النار، ثم أوضح فتاح فكرة هائلة وهامة جدا في تجارب الشعوب وعلم الاجتماع ربما دون أن يقصد حيث أوضح متابعا بحرارة أن البلد الذي لاتوجد فيه متنفسات ثقافية وفنية وسياحية وترفيهية كافية يتسلى الناس فيه بالإشاعات ، ثم سرعان ما يتأثربعضهم بها بل ويتصرف ويتكتل بعض آخر على أساسا أنها واقع حقيقي.. وركز على أن حدوث انعطاف ثوري تقدمي في بلد كاليمن كان أشبه بمعجزة قاد إليها تحديدا النضال ضد الاستعمار وليس الثقافة الثورية الوليدة جدا ، لهذا يحمل القادة اليمنيون أيضا جزءا غير قليل من رواسب التخلف والعصبية وركوب الرأس والتشنج فهم جزء من هذا المجتمع وليسوا من المريخ، لهذا كثيرا ما يظهر تباين في الرأي حول موضوع عابر لا يفسد للود قضية ، وسرعان ما يتحول إلى معضلة معقدة تضاف إلى إشكالات سابقة فتبدو خلافا كبيرا ويتخندق الرفاق هنا وهناك .
كان فتاح يتحدث بحرارة ليس فقط كسياسي وقائد بل كإنسان رائع يتمثل قناعاته .. فأحببت أن أغير الموضوع تماما
قلت له : لا بأس آمل أنها شدة وتمر .. تعال نقرأ بعض الشعر
التقط فتاح الفكرة وقال لي: سأسمعك قصيدة شعبية أقصد كتبتها باللهجة الشعبية العامية – وراح يقرأ متقمصا كل كلمة يقرأها وبحرارة عجيبة – .. .. مخلف صعيب لكن قليبي ما هنش ..
طبعا استمعت إليه حتى النهاية لكنني لم ادرك معاني بعض الكلمات ، ويبدو أنه قرأ ذلك على وجهي فراح يفسر لي بعض الكلمات العامية دون أن أطلب منه ذلك .وهذا أيضا من سمات عبد الفتاح الألمعي والإنسان الكبير ، فهو يود أن يكون التفاعل حقيقيا وليس مجرد تعاطف عابر فيهتم بأن تصل المعاني لمن يصغي إليه مقدرا مفارقة اللهجات . كان الهاجس الأول في لقائنا هذا هو هذه المعاناة في انتظار العودة إلى الوطن حتى أن فتاح راح يتذكر أطفاله من غدا كبيرا ، ومن هو بعد صغير ، والأمكنة الحميمة إلى قلبه البحر والشواطي والأحياء وحتى بعض الحوارات ، وذكريات مع الرفاق الذين يقفون معه وأولئك الذين قلبوا له ظهر المجن ، لكن الشيء الهائل في هذا الإنسان الكبير هو أنني لم أسمعه ولو مرة واحدة يصف هذا الرفيق أو ذاك بأوصاف غير لائقة ، بل يحاول أن يجد لهم الأعذار وأقسى ما كان يعبر عنه هو العتب والأسف ، أو عبارة ما الذي حدث له.. أين التفكير السليم ؟ .
استمر حوارنا حتى وقت متأخر وعدت إلى غرفتي وأنا مسكون تماما بهذه التجربة وبمعاناته فقرأت له في لقائنا اللاحق قصيدة شعبية أيضا كتبتها متقمصا عذابات عبد الفتاح وتتحدث عن تجربته وانتشرت بسرعة بين الشباب اليمنيين ، وسمعت بعد حين أنها لحنت وغناها أحد الفنانين المبدعين، أو انها كانت مشروعا للتلحين والغناء ومطلعها :
إن كنت من صنعا أو كنت من عدن
زرني وخبرني عن بسمة اليمن ..
عبد الفتاح اسماعيل إنسانا
الحلقة الثالثة
من البديهي أنني لن أتذكر الكثير من المواقف والأحاديث التي دارت بيني وبين عبد الفتاح اسماعيل ، وإن تذكرت بعضها فلن أستطيع تناول جميع جوانبها الهامة ، لذا سأجمل بعضها متابعا التركيز على الجانب الإنساني .
صداقتي مع عبد الفتاح وتعاطفي معه كان موضوعيا إلى حد كبير رغم تعمق هذه الصداقة ، وكان يهمني بالدرجة الرئيسية تجربة اليمن والشعب اليمني، وكان فتاح يرتاح لهذا
الموقف خاصة عندما كنت احاول طرح أفكار يمكن أن ترأب التصدعات ، فمهما كان تعاطفي مع الشعب اليمني فإن هذا لا يخولني أن أكون مع طرف دون آخر لذا اخترت أن أكون مع رأب الصدع.
حدث ذات يوم أن اتصل بي السفير اليمني في روسيا إبان زيارة الرئيس علي ناصر إلى موسكو ، وأبلغني أن الرئيس يدعوني لجلسة في مبنى السفارة .. رحب الرئيس علي ناصر بحرارة وبعد حوارات عامة طلب مني أن ألقي بعض مقاطع من الحلم في الزنزانه السابعة وقارع الطبل الزنجي ، فاعتذرت متعللا بضعف ذاكرتي فقال على الفور: هل تريد أن أحضر شريط الكاسيت من السيارة ..ربما قال ذلك كمؤشر على صدق الرغبة لا أكثر .. كان علي ناصر شخصية متميزة أيضا ، وكان وديا وحبورا وكنت آمل في تعميق هذه العلاقة الوليدة علي أستطيع المساهمة ولو بقسط صغير في تقريب وجهات النظر ، ولم يكن الأمر قد وصل إلى حد التناحر الحاسم .. وبعد حين أبلغني السفير اليمني وهو إنسان يساري مثقف وحيوي جدا أن هناك دعوة لي لزيارة اليمن وإقامة بعض الأمسيات وإلقاء بعض المحاضرات رحبت كثيرا، وأبلغت فتاح أنني مسافر إلى اليمن ..
توقعت أن يوصيني عبد الفتاح ببعض الأمور خاصة أن الأوضاع تغلي في قواعد الحزب وكوادره ، أو أن يطلب مني نقل رسائل شفهية كونه من جهة يثق بي ، ومن جهة ثانية كانت قد بدأت بعض التحركات هناك في الحزب لتقرير مصيره ، وفي الحقيقة كنت أخشى ذلك فأنا لا أستطيع لعب دور كهذا لكنه لم يطلب شيئا ..أسمعته قصيدة عصية عدن التي اعددتها للإلقاء في هذه الزيارة وكان تفاعله كبيرا حتى أنه قال لي: رائع حديثك عن القبائل بهذه الطريقة الجميلة أنت يمني بامتياز بغض النظر عن هويتك الوطنية ..
نقلت له مجمل أجواء اللقاء بالرئيس علي ناصر ، وبينت له أنني ارتحت لعلي ناصر وأنني أعتقد أن متابعة المشوار معا سيكون مفيدا جدا ، وفوجئت بأنه أثنى عليه وعلى حيويته ، بل وتحدث بود كبير عن معظم الرفاق الذين باتوا يجافون فتاح مع غصة خفية تحمل تساؤلا روحيا غير معلن ، لماذا تتم هذه المماطلة ، وكانت عيناه تقول أما آن لهذا الفارس أن يترجل ..
قلت لعبد الفتاح : أنا إنسان واضح وأحب اليمن وتجربته بصدق ولذا فإنني لن أدخر جهدا في محاولة رأب الصدع كصديق ، ربما أستطيع أن أجمع بين القلوب ..
أجابني فتاح : لا أعتقد أن ذلك سيكون مجديا رغم نبل المقصد ، وربما يعطي ردود فعل معاكسة ، بل ربما يعتقد البعض أنني طلبت منك ذلك
قلت له : ولكنك لم تطلب مني شيئا
تابع فتاح : أنا أطلب منك شيئا واحدا .. هذه زيارتك الأولى لليمن ولك حضور كبير في أوساط المثقفين ، من المفيد جدا أن تغني تجربتك الإبداعية وأن تتعرف على الشعب اليمني عن قرب ، حاول ألا تقتصر زيارتك على عدن وأن لا تكتفي بالأمسيات في الجامعة والقاعات الكبرى ، من المهم ان ترى الشعب اليمني بطيبته وروعته إنه يستحق أن يكون له مكان لائق في نتاجاتك .. سلم على جميع الرفاق وأتمنى لك التوفيق..
حدثني فتاح عن المحافظات الأخرى عن الشعب البسيط والمبدع بآن معا دون ان يذكر حرفا عن أي احتمال أو رجاء لمساهمتي في الحديث عن حلول لأجواء الأزمة مكررا : هذه فرصة جميلة للتعرف على أصالة الشعب اليمني والتفاعل معه هذا هو المهم بالنسبة لك كشاعر.. وأتمنى أن تتاح لك الفرصة في المستقبل لزيارة صنعاء ومدن الشمال فاليمن واحد والشعب اليمني واحد، وردد مترنما ( ضفيرة صنعاء ، ضفيرة عدن )
وختم بالقول مبتسما : لاتنس ان الحكمة يمانية
استقبلت في عدن أجمل استقبال وفي أمسية في خور مكسر فوجئت بأعداد هائلة جدا من الناس تملأ القاعة الضخمة ، وبعد انتهاء الأمسية وخروجي من القاعة كان بعض الشبان يقتربون مني ويسألونني عن بعض القصائد وكيفية الحصول عليها ثم يقولون لي بصوت خفيض: كيف الوالد ؟.. هل ترى فتاح ؟.. أنقل له حبنا واننا في انتظاره.. هل كتبت شيئا عن فتاح ؟ ثم يبتعدون بسرعة ليأتي شبان غيرهم ويكررون التساؤلات والأمنيات نفسها ..وكنت أكتفي بالقول وهو يحبكم أيضا ويأمل بأن يعود قريبا .
اختلف الأمر كثيرا في الحوارات عبر الجلسات الخاصة ، وكان مرافقي شاعر مبدع من المؤمنين بفتاح إلى حد القداسة ،وكان هناك الكثيرون جدا ممن يطروحون آراءهم بشجاعة كبيرة ، والكثيرون يتحدثون عن فتاح بحب مذهل وإيمان عميق، وهناك من يرد عليهم منتقدا بحيث بدا أن هناك فريقين تتعمق خنادقهما للمواجهة المؤجلة ، ولكن الرائع هو أن من يقفون موقفا معاكسا وسلبيا كانوا أيضا يتحدثون عن فتاح باحترام كبير وتقدير لدوره ، وكنت أحاول دائما لعب دور المهدئ الموضوعي متذكرا نصائح فتاح بأن لا أزج نفسي في هذه المعمعة ، وكنت أركز على ضرورة رأب الصدع واحترام عطاءات الجميع دون أن أخفي تعاطفي مع فتاح كإنسان متميز يجب الاستفادة من عطاءاته .
اهتم بي الرئيس علي ناصر مشكورا وكان وديا حبورا ومحاورا ذكيا ، وفي مأدبة غذاء في القصر الجمهوري طلبت منه أن أقيم بعض النشاطات في المحافظات الأخرى فأوعز مباشرة لتحقيق ذلك ، وكان على المائدة عدد من كبار المسؤولين وألقيت مقاطع من قصيدة عصية عدن منوها بأن مدير الإذاعة ( جمال )– وهو صديق حميم وحبيب وسريع التأثر الوجداني – يريد الموافقة على بث القصيدة كاملة فهناك مقاطع رمزية سياسية قد تشكل إحراجا .. وبالفعل أوعز الرئيس علي ناصر إلى مدير الإذاعة بأن يبثها كاملة .. ( في مناسبة أخرى عرضت مسرحيتي الأرنب الذئبي في عدن وقمت بإخراجها بنفسي وكان علي ناصر على رأس الذين حضروا ذاك العرض) بمعنى انه كان إلى جانب وديته متفاعلا وعمليا وحريصا على متابعة هذه النتاجات رغم أنني اعتقد انه يعلم بصداقتي مع عبد الفتاح.
حاولت أن أوحي ببعض ما يعتلج في قلبي كصديق يهمه نجاح التجربة ، وكان هناك تجاوب عام ، لكن الأحاديث كانت تتتالى بحيث لم تسمح بالتطرق مباشرة لقضية عودة فتاح .. وفي أحد الحوارات مع أحد أعضاء المكتب السياسي ممن يحبون فتاح ولا يخفي موقفه قال لي: حسنا أنك لم تتطرق إلى هذا الأمر مباشرة فالكلمات الودية والابتسامات قد لا تعني شيئا إبان اتخاذ القرارات الحاسمة ، على أية حال أبلغ فتاح أننا سنفعل كل شيئ حتى يعود لنا ، أكثرية الرفاق والناس يريدون ذلك – وأضاف – فتاح إنسان رائع بكل معنى الكلمة رائع كقائد ورائع كإنسان مفكر ومتواضع .
والحقيقة أن الرئيس علي ناصر بتفاعله وحواراته معي ترك انطباعا جميلا في نفسي الأمر الذي كرس قناعتي بضرورة الوصول إلى رأب هذا الصدع ، فلكي تسير السفينة إلى الأمام لا بد من مجاديف قوية من جانبي السفينة وليس من جانب واحد ، خاصة أن الرفاق الموزعين هنا وهناك لا يخرجون في الجوهر عن لهيب شعلة واحدة، وإن اختلفت الرؤى في سبل دفعها لإضاءة دروب الحياة ..أو هكذا بدا لي.
في المناطق الأخرى كان الوضع أكثر شفافية وتفاعلا، كانت هناك امور عديدة جدا تدفع المرء لحب هذا الشعب فإلى جانب البساطة والأصالة التي حدثني عنهما فتاح شاهدت الجرأة ، وكأنها في دم الإنسان اليمني . ومن المفارقات التي أذكرها جيدا أنني كنت عائدا من إحدى المحافظات في رحلة دعاني إليها وزير الثقافة وهو شاعر معروف ، وحدث أن هطلت أمطار غزيرة وجرى سيل كبير اضطرنا إلى التأخر عدة ساعات، وكنا في السيارة نخزن القات عدا السائق ، وعند مدخل عدن استوقفنا حاجز عسكري فتح السائق النافذة فعرّف وزير الثقافة عن نفسه فقدم له الجندي التحية العسكرية ، وما إن تحركت السيارة حتى استوقفها الجندي من جديد وسأل الوزير بصوت حاسم ملمحا إلى أنه يقوم بواجبه : ماذا أتخزن ؟ واضطر الوزير إلى إزالة ما في فمه .. وتبين لي أن تخزين (مضغ ) القات ممنوع في هذا اليوم . أتخيل ماذا سيحدث لهذا الجندي لو تحدث بهذا الشكل الحاسم مع وزير في إحدى البلدان العربية الأخرى !!.
إبان زيارتي إلى عدن تعمقت صداقات عديدة مع الكثير من المثقفين اليمنيين وكنا بعد نشاطات ولقاءات النهار نذهب يوميا مع بعض الأدباء والشعراء والفنانين لقضاء السهرة ، وكان الأصدقاء اليمنيون يتفاعلون ويتحدثون وكأنهم يقرأون قلوبهم ويستنطقون عمق أرواحهم ويتمثلون فولكلورهم عبر الأغاني وبعض الرقصات ، ورغم التحفظات الشكلية سرعان ما يقودهم الحديث إلى ذكرعبد الفتاح بمعنى أنه لم يكن لي يد في ذلك بقدر ما كنت أرصد هذه الظاهرة . نعم أستطيع القول بكل صدق أنني كنت أرى عبد الفتاح يتجلى في مشاعر الشعب اليمني وتتردد كلماته في حواراتهم وأدرك من فحواها أن القسم الأكبر يحبه كقائد ويقف معه ومعظم القسم الآخر لا يقف معه لكنه يحترمه كإنسان متميز ونموذج فريد.
على شاطئ الساحل الذهبي كانت لي عدة جلسات تأملية ، وكانت الأمواج الوادعة تنساح برفق على الرمال حتى تتلاشى، وما إن تتلاشى حتى تتوالد من جديد وكأنها ترقص لافة الزبد الأبيض كشال حولها ، فتذكرت الصورة الجميلة التي ذكرها لي فتاح ذات يوم يصف فيها بعاده عن الوطن بأنه يشعر أحيانا بأنه شبيه بالموجة التي تفقد تكوينها بدون البحر..وهو ماجاء في قصيدة لي تحمل عنوان صلاة .. اتكأت على مرتفع صغير من الرمال ورحت أتلو بعض مقاطعها .. أتلوها للبحر مباشرة:
خذوا موجةً واشلعوها من البحرِ
ثم اعرضوها ببركة قصر المحافلِ لن تعرفوها
ولن تمنحوها سوى لوحةٍ عنوَنَتها العبارة
هنا حوضُ ماء همد
إذن فامنعوا الموجَ عن رقصه في البحار
لكي تمنعوا عن فؤادي حنين البلد .
عبد الفتاح اسماعيل إنسانا
الحلقة الرابعة
ازدادت الأمور تعقيدا بحيث بدت أقرب ما تكون إلى عض الأصابع ، ولم يكن عبد الفتاح اسماعيل ريشة في مهب الريح ، فهو رغم كونه مفكرا هادئا كان علميا وعمليا ، ومن خلال بعض حواراتي في هذه المرحلة الصعبة معه بدا لي أنه بات أكثر هما ، وكثيرا ما يستخدم الأمثال الشعبية لتوصيف حالة محددة إمعانا في الاختصار والتجسيد .
وازددت أنا قلقا حيث كان عبد الفتاح لا يخفي خشيته من
أن تتحول الأوضاع إلى مواجهات إن ركب البعض رأسهم. وكان من أقصى أمنياتي أن لا يحدث صدام بين الفرقاء خاصة ان لدي أصدقاء رائعين من الطرفين .. ولفت نظري ان مقر إقامة عبد الفتاح بات مزارا لمعظم القادمين من اليمن وخاصة القياديين الذين ضاقوا ذرعا بحالة التشنج المستمرة وخوفا من الاحتمالات الدامية.
ذات يوم كنت في زيارته..
قال لي : هل تعرف الرفيق ( ز …)
قلت له :نعم وهو صديق أحبه ومثقف ومبدع كبير..
أجاب فتاح: نعم هو كذلك إضافة إلى أنه يفكر بعقل سليم ..
قلت : مالأمر ؟
قال :لي رجاء عندك .. طالما أنك تعرفه سأرسل معك السيارة فهو يود القدوم إلي ولكنه أضاع الطريق كما يبدو .. ولا أستطيع إرسال السيارة إلى الفندق .
قلت له : سأذهب على الفور ولكن إلى أين .
حدد لي المكان الذي وصفه له الرفيق ( ز ) مع اسم المنطقة ، وأدركت أنها مهمة لا يمكن تحقيقها ، وبالفعل عبثا حاولت العثور عليه فمركز موسكو كبير جدا والشارع يمتد لعدة كيلومترات وكان الجو صقيعيا جدا ، وبعد عودتي خالي الوفاض أبلغني فتاح بأن ( ز ) اتصل به قبل قليل وحددا موعدا آخر إذ لم يعد يتحمل الانتظار في الشارع بهذا الصقيع .. لفت نظري أن فتاح كان متأثرا جدا لكون هذا الرفيق وقف طويلا في الصقيع ، كان فتاح يخطو بضعة خطوات ويفرك يديه ويهز رأسه معاتبا نفسه : هذا خطأ مني ..!! حملته مشقة هذا الصقيع .. آمل أن لا يصاب بوعكة .. جسمه ضعيف من يدري ..
كان تعاطفه كأب يخشى أن يمرض ابنه ..
بعد مدة غير قصيرة هدأ فتاح وأوضح لي الموقف مستندا إلى أمرين، الأول انطلق فيه من القانون الميكانيكي لكل فعل رد فعل مساو له في القوة ومعاكس في الاتجاه مضيفا : ولكننا لسنا آلات أو قطع معدنية ، حاولت كثيرا أن يكون هناك تفاهم مبدأي لا فرض آراء وتكتيل للقوى ، وطالما هناك من بدأ بالتحرك بهذا الاتجاه فلابد من التحرك المقابل لا لتكريس هذه الحالة بل لوقف هذا الاتجاه وتحويله إلى طاقة خلاقة.
والأمر الثاني تابع عبد الفتاح : هو أن الرفاق بأعداد كبيرة في القواعد وقسما كبيرا من القياديين يتحركون بشكل مبدأي ويجعلون من عودتي قضية فكيف أخذلهم والأمر في الواقع ليس شخصيا.. لو كان شخصيا بحتا لتحملت كما كنت أتحمل قبل الآن ..كل ما أخشاه هو أن يتم التأثير بشكل غير مبدأي على بعض الرفاق وينزلقون إلى دوامة محرقية ..
قلت لفتاح : يبدو أنك تزداد حزما رغم أنك قلت لي سابقا أن من بين سلبياتك أنك لم تكن حازما مافيه الكفاية في بعض الأحيان ..
أجاب فتاح : لم أكن حازما في بعض الأحيان لأنني كنت أود أن لا تحسم بعض الأمور الهامة بمجرد التصويت ، بل بوعي ومسؤولية وحين تكون هناك ضرورة مبدأية لا بد من الحزم .
وحدثني عن قصة قرار مداهمة السفارة العراقية بعد اغتيال أحد المناضلين العراقين في عدن ، وأن بعض الرفاق كانوا مترددين ، ولكنه أصر باعتبار أن الحادثة تحمل إهانة إلى سيادة وكرامة الوطن خاصة أنه سبق وحذر السفير العراقي من ارتكاب أي حمقاقات من هذا النوع …
بعد حين اتصلت بفتاح وعرفت من صوته أنه متوعك صحيا ، أخبرته بأن صديقنا السفير الفلسطيني محمد الشاعر قد توفي إثر عمل جراحي في بلغاريا إن لم تخني الذاكرة ، وقد أحضروا جثمانه وأنني أتحدث من منزل هذا الصديق الراحل .. وكنت قد عرفته على فتاح قبل أشهر فهو من أصدقائي القدامى في دمشق (وكان أول من زارني مع الشاعر محمود درويش إثر حادث الاعتداء علي إبان أمسية شعرية..)، أصر فتاح على الذهاب إلى التعزية رغم أنني أوضحت له أن التعزية في يومها الأول ، وربما نذهب غدا أو بعد غد ، لكنه أصر على الذهاب مضيفا بأن هذا من واجبات الوفاء لذكراه ومواساة أسرته .. كان فتاح مريضا حقا فعاتبته عندما خرجنا منوها بأنه كان يمكن الانتظار ليومين إلا أنه نظر إلي معاتبا -هو هذه المرة- مشددا على أن الإنسان تركيبة عجيبة لكنها تبدأ من مشاعر الوفاء وخاصة للراحلين ..وسرعان ما شدتنا الأجواء إلى حوار فلسفي عن الموت والحياة.. وكان فتاح مقتنعا تماما بأن الأجساد لا تعني شيئا في نهاية المطاف ، والمهم هو ما يتركه الإنسان من ذكرى.
بعد أيام زارني أحد القادة اليساريين السوريين المناضلين وهو الدكتور نبيه رشيدات ، وإبان الحديث تطرقنا إلى الوضع في اليمن وإلى عبد الفتاح اسماعيل فسألني: وهل أستطيع لقاءه ؟
ذهبت على الفور واتصلت بفتاح الذي قال لي : أنا أعرف هذا المناضل – وأردف على الفور- سآتي إليكم..
لم يصدق الدكتور نبيه ما سمعه ..وقال : – كأنه لم يسمع جيدا- هو سيأتي إلينا ؟
بعد مدة غير قصيرة وصل عبد الفتاح مع مرافقه ودون أية حراسة إلى بيت طلبة الدراسات العليا ، وأثناء السهرة وعبر أحاديث عن مرحلة النضال ضد الإنكليز قال الدكتور نبيه رشيدات : أنا أرفع القبعة وأحيي عبد الفتاح اسماعيل الذي حرر باب المندب .
وبشكل فوري ودون تردد أجاب فتاح : الشعب اليمني هو الذي حرر باب المندب .
هز الدكتور نبيه رأسه وقال : نعم أنت محق .. وأنا مع ذلك أحيي الإنسان الكبير بتواضعه وإنصافه ، الإنسان الذي يمعن في إنكار ذاته لتقديس نضال شعبه .
قدوم فتاح إلى مبنى الطلبة أغضب الرفيق عبد الغني كثيرا من زاوية الحرص على حياة فتاح ، وأعتقد انه كان محقا تماما في ذلك ، فحتى إن أبدى الإنسان الكبير تواضعا كبيرا علينا أن نكون أكثر حرصا وروية ، رغم أنني رتبت أمور دخوله بسرعة إلي دون أي وقوف في المدخل .
انشغالات عبد الفتاح ازدادت وبات حديثنا على الهاتف أكثر من لقاءاتنا وذات يوم اتصل بي فتاح طالبا مني الحضور بسرعة ..
قلت له :ولكنني أعددت مأدبة متواضعة لبعض الأدباء السوفييت وقد بدأوا يتوافدون إلي ..
قال فتاح : ضيوفك ضيوفي أحضرهم معك بكل سرور من الضروري أن أودعك .!!
شغلتني هذه العبارة كثيرا ، ومع ذلك شرحت الموقف لأصدقائي الذين سبق أن حدثتهم كثيرا عن عبد الفتاح فرحبوا جدا بالفكرة وانطلقنا إلى الغابة الفضية.
وأثناء الطريق تذكرت جانبا من حوار سابق معه حين ذكرت له أن بعض الرفاق يتهمونه بأنه يضيع الوقت في لقاءاته مع الأدباء ..
آنذاك ابتسم وأوضح باقتضاب قائلا : انا كنت أقوم بواجبي على أكمل وجه سواء في اتخاذ القرارات ومتابعة تنفيذها ، أو من خلال اللقاءات مع الكوادر والناس والاجتماعات التي كثيرا ما كانت تطول عبر نقاشات متعبة ، ولكل مسؤول في نهاية المطاف أوقاته الخاصة الضنينة ، كل يقضيها على هواه أما أنا فكنت أرى ان اللقاء مع الأدباء والشعراء يغني الفكر والروح ، وهو أفضل بكثير من السهرات غير المجدية ، فكل أديب تجربة حياتية مكثفة غنية ، ولكن عندما لم يجد البعض ما يمكن أن يعتبرونه انتقادا جديا لجأوا إلى هذه الطرفة مع مبالغات مذهلة وصلني معظمها .. – وضحك فتاح مضيفا- اللقاء مع الأدباء تهمة !!
تحلق الجميع حول فتاح.. الشاعر ايغور اساييف رئيس اتحاد الكتاب والشاعر الكاتب أناتولي سافرونوف رئيس تحرير مجلة أغانيوك والشاعر إيغر لابن والمسرحي فلاديمير كاسماتشوفسكي والشاعرة الجورجية مزيا خيتاغوري ..
قلت لفتاح : ها أنت ترتكب الإثم من جديد وهذه المرة ..أدباء سوفييت ..
ابتسم فتاح فاهما ما قصدته ولم يعلق بل رحب بالحضور معاتبا إياي لأنني لم اعرفه على هؤلاء المبدعين من قبل وأضاف : يسعدني أن أرحب بكم ويؤسفني أن يكون لقاؤنا هذا توديعا أيضا لكن ما يطمئنني هو أننا لا شك سنلتقي في المستقبل ..
قلت لفتاح : مسافر إذن ؟
قال : نعم أخيرا إلى الوطن
قلت له : فرح لأجلك وخائف عليك قد لا تكون العودة الآن في وقتها
قال فتاح : لم أعد أطيق الفراق .. ثم إن الأمر تنفيذ لقرار حزبي
اهتم فتاح بضيوفه واستمع إليهم بشغف .. ولأول مرة كنت أرى فتاح يضحك من قلبه وعيونه تشع بريقا أسطوريا عجيبا ، قرأ قليلا من أشعاره وكنت اترجمها مباشرة ، كانت مقاطع أقرب ما تكون إلى الصوفية في عشقه للوطن وذوبانه فيه ، واستطاعت جفونه أن تحبس دمعة أو أن تحتضنها فظلت مترقرقة وكأنها مجهر للرؤى، كنت شبه واثق أنه بات وهو بيننا يرى الكثير من مناطق اليمن وأناسه عبرها لا حزنا بل كأنه يغسلهم بمطهرها فهي دمعة الفرح باللقاء بعد ألم الفراق المديد.
غادر الأدباء السوفييت وبقيت مع فتاح وأعطيته قصيدة فتقدمي دمي وفيها الكثير من شجونه فقرأها بصوته وكرر بعض مقاطعها مرتين أو ثلاث ونظر إلى بامتنان عميق وقال لي كأنك تسكن في أعماقي ..
فقلت له: أنت الآن هناك أليس كذلك ؟
فكرر آخر عبارة في القصيدة وهو يهز رأسه تعبيرا عما لا يوصف :
ليكاد قلبي أن يغادر أضلعه.
عبد الفتاح اسماعيل .. إنسانا
الحلقة الخامسة والأخيرة
سافر فتاح إلى الوطن وبدأت مرحلة جديدة في تاريخ هذه الشخصية حيث عاد إلى العمل الحزبي بقوة ووصل إلى المكتب السياسي من جديد ، وأرسل لي عدة مرات رسائل شفهية مع بعض القياديين اليمنيين القادمين إلى موسكو وخاصة مع رفيق اسمه عبد الأله .. طمأنني عن احواله وسألني فيما إذا كنت سأوافق على العمل في اليمن – من الواضح انه يقصد في المجالات الثقافية – فهناك ا
لعديد من المثقفين والمبدعين العرب الذين يعملون هناك ، لكني أجبته بأن الوقت مازال مبكرا لمثل هذا المقترح.. ورغم انني ارتحت من حيث المبدأ لما اعتبرته عودة للتفاهم بين الرفاق إلا أن بعض القادمين نقلوا لي أن الأوضاع ازدادت سخونة بل هي تكاد تغلي .. وبت مشغول البال ليس فقط على عبد الفتاح اسماعيل ، بل على اليمن الديمقراطي كله وعلى مصير الرفاق من الطرفين وانعكاسات ذلك على الشعب اليمني بأكمله.وكانت رسائل عبد الفتاح لي مؤشرا جميلا على أن هذا الإنسان الكبير كبير بوفائه لأصدقائه أيضا ، فهو لم ينس هذه الصداقة الجميلة رغم الظروف الصعبة والإنشغالات الكثيرة والهموم الكبيرة .
بعد حين وصلت الأمور إلى منعطف بالغ الخطورة وحدث ما لم يكن يتمناه أي إنسان عاقل ، وحلت المأساة عمليا إذ احتكم رفاق الدرب إلى البندقية والرصاص ، وكانت شرارة واحدة تكفي لانفجار برميل البارود المحتقن ، من هنا يكون من أشعل هذه الشرارة الأولى في هذه الظروف مسؤولا عن حرائقها اللاحقة بغض النظر عن التبيريرات والنوايا ، فالطريق إلى جهنم مفروشة بالنوايا الطيبة .. وعدت بالذاكرة إلى حوارات مع فتاح عن هذه المخاوف فقد سبق أن طرحت على فتاح تساؤلات عن مدى احتمال مثل هذه الخواتيم المرعبة ، ومما أذكره في هذا السياق أنه كان شبه واثق من حكمة اليمانيين ، وكان يردد على أن لا يركب البعض رأسهم .. وحين تعمقنا قليلا في مفهوم السلطة والثورة وبناء الغد الأفضل وأي الأثمان مشروعة وأي الأثمان ممنوعة ، أذكر أنه لخص رأيه في أن جميع الأثمان مشروعة حين يكون النضال الثوري في سبيل الخلاص من المستعمر ، ويكون من يسقط في سبيل تحقيق هذا الهدف شهيدا ومشعلا ونبراسا للآخرين . وتكون ممنوعة ومحرمة حين تكون في سبيل تحقيق مكاسب شخصية عبر شعارات مغامرة وبهدف الحصول على السلطة او التمسك بها ، ومن يسقطون في صراع كهذا هم ضحايا ويتسببون في سقوط ضحايا أخرى وهذا خطير ومؤسف تماما ، وعلى السياسي حتى في مثل هذه الظروف أن يسعى لتحويل هذا الفوران إلى طاقة خلاقة
سألته : وكيف يمكن ذلك في حالة فوران ؟
أجاب : بجعل الأهداف الكبيرة النقية ساطعة وواضحة ، فمن يختلف معك اليوم قد يتفق معك غدا او العكس في الشؤون التكتيكية .
قلت : بمعنى أو أن يغدو ضدك من كان معك
قال فتاح : أو أن تقتنع أنت بما يطرحه الطرف الآخر – وأضاف –
وحين يكون الأمر متعلقا بالسلطة لا بالنهج الاستراتيجي فالسلطة وسيلة لتحقيق أهداف الثورة وليست غاية بحد ذاتها..
وأذكر جيدا أنه وصف السلطة رمزيا بحصان جامح قوي عليك أن تقوده نحو أهداف سامية لا أن يقودك نحو التهلكة ..
وأردف: هذا جنون لا يمكن أن يفكر به أحد .. – وأضاف على الفور- أحد عاقل .
نعم يا أبا صلاح لا يمكن أن أنسى تمثلك لهذه المبادئ كإنسان كبير حقا وعاشق لتراب اليمن حتى وأنت ماض إلى طريق محفوف بالمخاطر بعد أن ضاع لجام ذلك الحصان الجامح .. وأنك كنت تؤكد دائما على ضرورة الاحتكام للعقل والديمقراطية وقولك : ليكن من يكون في قمة السلطة إن كان يقودها حزب متماسك واع يحبه الشعب..( وتذكرت حديثنا عن أروى )
ولكن حدث ما حدث .. وكنت أحس بجراح اليمن تنزف في قلبي .. استمر الصراع أياما عصيبة دامية ، وسقط الكثيرون ( ضحايا ) .. شرعت الثورة تأكل أبناءها .. ورغم ان رفاق عبد الفتاح هم الذين انتصروا في زوبعة الدم هذه إلا أن الجراح كانت أكبر من ان تحتمل ، واستشهد عبد الفتاح وقيل إنه احترق في مصفحة بعد ان تمكن وبعض الرفاق من النجاة من فخ اجتماع المكتب السياسي .. وحين أقيم حفل تأبين كبير له في موسكو ألقيت قصيدتي للعشق حدائق لا تروى إلا بنزيف يا أروى .. وقلت في مقدمتها ( ويزداد موقفي أسى وبعدا دراميا كون العديد من الرموز ممن تورطوا في زوبعة الدم في عدن كانوا من الرفاق الحميمين إلى قلبي وكم كنت أتمنى أن يتابعوا المشوار مع البطل الخالد عبد الفتاح اسماعيل لا أن تتلطخ أيديهم بدماء رفاق الدرب ..) ..وكان حفل التأبين حاشدا جدا من اليمنيين والعرب الذين يعيشون في موسكو يعكس مدى التقدير لهذا الرجل .
زرت عدن بعد ذلك وقد بدأت تستعيد عافيتها من جديد ولكني افتقدت الكثير الكثير من الرفاق والأصدقاء والأحبة ، وخاصة عبد الفتاح اسماعيل الذي كان يقول لي ستأتينا إن شاء الله إلى اليمن وستزورني في المنزل منزلي الحقيقي وليس في موسكو المضيفة ..
زرت منزل عبد الفتاح في عدن وكان مخربا وقد أتت الحرائق على بعض جوانبه نتيجة قصفه من البحرية ( ما أغباها كيف ستغرق بحرا هذي السفن ) وعانقني ناصر مرافقه الدائم في موسكودامع العينين وقال لي : كان الوالد يتمنى أن تزوره هنا ، وكان يستعد لإرسال الصور التي التقطناها عندما زرتنا مع الأدباء السوفييت .. ولكن احترق كل شيء ..
رجوت رئيس اتحاد الشبيبة وهو رفيق فعال مخلص من محبي فتاح أن يقدم لي خدمة بأن تسير فرقة موسيقية من الشبيبة من منزل فتاح باتجاه البحر ( كان المنزل على هضبة غير بعيد عن البحر ).. وأن يرموا باقات الزهور إلى مياه البحر فقد كان فتاح يحب البحر كثيرا ويعتبره رمزا للحرية ، وكرمز آخر وهو أن القذائف جاءت من البحر على منزله ومن منزله نحو البحر تقدم الورود .. وبالفعل لبى الشباب هذا الرجاء .
في هذه الزيارة التقيت العديد من الأدباء والقياديين بمن فيهم الرئيس علي سالم البيض الذي دعاني إلى مأدبة عشاء وسهرة ( قات ) وكان فيها عدد كبير من المسؤولين حيث تناول الحديث ذكرى عبد الفتاح وقص علي باختصار مجريات الهجوم على المكتب السياسي وأذكر أن من بين ما ذكره لي أنه قال لفتاح في اللحظات الحرجة بعد بدء إطلاق النار على المكتب السياسي وتكشف الموقف بما معناه : أما زلت مؤمنا بالحوار الديمقراطي يا أبا صلاح ..
وكان الجميع يذكرون مناقب فتاح كرجل مبدأي وإنسان حكيم .. كذلك كان الأمر على مائدة الغذاء عند حيدر أبو بكر العطاس في منزله ، فالجميع يركز على السمات الرئيسية لعبد الفتاح وخاصة انه انسان مبدأي متواضع حكيم وديمقراطي أصيل ، ويتناسون تماما خلافات المراحل السابقة.
وتراءى لي عبد الفتاح بين وجوه من أجالسهم ، وبت أسمع صوته بين أصوات المتكلمين وهو يحدثني عن الخلافات العابرة بين الرفاق ، وأن من يكون ضدك اليوم قد يغدو معك غدا والعكس كذلك ، وأن المهم هو الاحتكام إلى الشرعية والديمقراطية والعمل في إطار الحوار المبدأي ..وكان الكثير من اليمنيين يقولون لي فتاح لم يمت إنه باق بأفكاره فينا ، باق كنموذج وإنسان كبير في حياته ونضاله وعشقه للوطن إننا لن ننساه .
فكرت كثيرا وانا انظر من كوة الطائرة مغادر عدن .. فكرت في عمق هذه التجربة ودراميتها .. بصدقها وأخطائها ، برموزها وتحولاتهم ، بمفهوم السلطة ومخاطر إغرءاتها ، وضرورة أن يكون العنان دائما في أيد حكيمة ..وخامرني شعور مرير بأن إناء الثورة قد تصدع على أية حال ، ويحتاج إلى حاضن شعبي أوسع مدى ، ويحتاج إلى نسغ جديد مؤمن بالمستقبل ..وآلمني جدا إدراكي بأنني سأصل موسكو ولن ألتقي بعد الفتاح اسماعيل الإنسان الكبير حقا.
سلاما على روحك الطاهر يافتاح ، وورود وفاء لا تذبل لذكراك يا أبا صلاح. وحبا صادقا لن يخفت وجيبه للشعب اليمني الشقيق .