الكاتب / بروفيسور قاسم المحبشي ..
الحاجة إلى الغذاء ( الهواء والماء والطعام) حاجة حيوية عند كل الكائنات الحية وقد وضعها عالم النفس الأمريكي، إبراهم ماسلو في قاعدة هرم الحاجات الأساسية الخمسة. حاجة حيوية تتصل بقانون الحياة الأول ( الحفاظ على البقاء ومقاومة الفناء) ورغم أن تلك الحاجة الحياتية هي وحدة عند جميع الناس إلا إنهم يختلفون في تحصيلها بمعنى طرق وأساليب الحصول عليها وذلك الاختلاف هو مجال اهتمام الأنثربولوجيا الاقتصادية تحديدا. فكيف يحصل الناس على أرزاقهم ؟ وكيف يتدبرون لقمة عيشهم؟ وما هي أدواتهم وأساليب إنتاجهم لمعاشهم؟ وغير ذلك من الأسئلة المتصلة بطرق الحصول على الأرزاق ( مصادرها، انتاجها، ادواتها، توزيعها، تبادلها، أساليب طبخها وأكلها وفنونها وتفضيلاتها .الخ تلك هي الاسئلة التي تشغل اهتمام الأنثربولوجيا الاقتصادية كما شغلت كارل ماركس وابن خلدون قبله إذ جاء في مقدمته الفصل الخامس والعشرون: في إن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش” «اعلم أن اختلاف الأجيال في أحوالهم إنما هو باختلاف نحلتهم من المعاش، فإن اجتماعهم إنما هو للتعاون على تحصيله والابتداء بما هو ضروري منه قبل الحاجيّ والكمالي، فإذا كانت الضروريّات في أهل البدو الذين هم في قفرهم أو ريافهم قاصرة على الضروري من القوت والسكن واللباس، كانت أحوالهم في معاشهم مقصورة على الضروري أيضاً.
وإذا اتسعت الحضارة وفسدت النِّحل بالترف وكثرة التأنق في المأكل والملبس والمسكن وسائر أحوال المعاش، خرجوا عن حدّ الضروري إلى الحاجي ثم إلى الكمالي، فتنوعت الأحوال، وتفاوتت المراتب، وكثرت الصنائع، واحتاج كلٌّ إلى الآخر، فكثر التنافس والطلب وغلب الترف والنعيم، ففسدت أخلاق الناس، وتغيّرت طبائعهم” ( ينظر ابن خلدون، المقدمة ، دار الفكر، ص 333–334 بيروت (2004) تحقيق د. خليل شحادة)
البارحة يوم الاثنين 20 اكتوبر 2025 كنا في غرفة ١٩ ندوة مهمة بعنوان ( الأنثروبولوجيا الاقتصادية؛ مقاربة التقاطع بين الاقتصاد، الثقافة، والمجتمع) قدمها الدكتور سعيد عيسى، استاذ الأنثروبولوجيا الاقتصادية في الجامعة اللبنانية وأدارها الأستاذة إخلاص فرانسيس لمدة ساعتين. تابعتها بحماسة واهتمام وشكلتي فيما يشبه التغذية الراجعة في سبق وأن فكرت به وكتبته من أثر الاعتقادات
في سلوك الجماعات والأفراد ومواقفهم وتوجهاتهم من كل شيء في الحياة إذ يسلك الناس وفقا لما يعتقدونه عن الكون والحياة والموت وعن الذات والآخرين وعن الزمن والمكان وعن الحاضر والمستقبل..الخ فاذا أعتقدت جماعة محلية بإن الحياة في هذه الدنيا الفانية لا تستحق الكد والنكد والجهد والتعب وكل ما فيها زائل وباطل وأن الاخرة بعد الموت أجل وابقى وأكثر استحقاقا بالسعي والاجتهاد فمن المؤكد أن موقفهم من الاقتصاد والعمل والإنتاج والمال والتجارة والربح والخسارة يختلف عن الجماعة التي ترى إن الحياة على هذه الأرض تستحق العيش المشبع بالحاجات الضرورية للحياة المادية الكريمية وبهذا المعنى نفهم كتاب ماكس فيبر ( الأخلاق البروتستانتية وروح الرأسمالية) ١٩٠٤م أكد فيه العلاقة بين معتقدات الناس وسلوكهم فأخلاق العمل البروتستانتية، بوصفها مجموعة الأفكار والقيم والتوجهات جعلت النشاط الاقتصادي منظمًا، عقلانيًا، ومنفصلًا عن الغايات اللاهية أو الغريزية أسهمت في نشوء الروح الرأسمالية الحديثة، إذ لم تنشأ فقط حين وُجدت أسواق ورؤوس أموال، بل عندما ظهرت عقلية جديدة تجاه العمل والزمن والانضباط والربح، والادخار؛ أي توجهات عقلية تعتبر العمل واجبًا أخلاقيًا ودينيًا لا مجرد وسيلة للعيش والمنافسة. تلك النظرة التي شاعت في المجتمعات الاوروبية الحديثة كانت تعتبرا معيارا عقلانيا للسلوك الاقتصادي للناس في كل مكان غير أن الأنثروبولوجيين الذين رافقوا الاستعمار الأوروبي أو انطلقوا في سياقه لفهم ثقافات وعادات الشعوب المختلفة عنهم كانت صادهم لهم فكيف يتدبر الناس في المجتمعات غير الاوروبية أرزاقهم؟ هذا هو السؤال الذي شكل محور الأنثروبولوجيا الاقتصادية التي ازدهرت منذ مطلع القرن العشرين. ازدهر هذا الفرع من المعرفة مع مدرسة التاريخ الجديد التي فتحت المجال لدراسة النظم الاقتصادية عبر التاريخ إذ جرى تصنيف النشاط الاقتصادي للكائن البشري في ثلاثة مستويات هي:
(١) اقتصاديات الجمع ( جمع الأرزاق مما تجود به الطبيعة) ثمار وفواكه و صيد الحيونات البرية والأسماك البحرية والنهرية) ، ويمكن أن تُسمَّى جميعًا اقتصاديات الجمع.
(٢) اقتصاديات التحويل البسيط التي تضم الزراعة والرعي أوتربية الحيوان. وهذا النمط الاقتصادي ساد كل الحضارات ما قبل الثورة الصناعية الكبرى في أوروبا في القرن السابع عشر الميلادي.
(٣) اقتصاديات التحويل المركب، وتشتمل على الزراعة والرعي والصناعة والسوق والتجارة، والخدمات وهي مرحلة الحضارة الحديثة. وبهذا المعنى قسم اولفين توفلر تاريخ العالم إلى ثلاثة حضارات هي:
اولاً: الموجة الحضارية الأولى:التي كانت ولا تزال، مرتبطة ارتباطاً لا ينفصم بالأرض. و أياً كانت الأشكال المحلية التي تتخذها، أو اللغات التي تتكلمها شعوبها، أو الديانات والمعتقدات التي تؤمن بها، فإنها نتاج الثورة الزراعية. وحتى ايامنا هذه، وما زالت أقوام كثيرة تخربش أديم الأرض بحثاً عن الرزق، كما كان آباؤهم وأجدادهم منذ قرون.
ثانيا: والموجة الصناعية الثانية:التي تضم كل الشعوب والدول التي لا تزال تتدافع وتتزاحم لتبني مصانع صلب وسيارات ونسيج ومواد غذائية، وسكك حديدية، أي كل الدول التي تحتاج إلى التصنيع بغض النظر عن اختلاف قومياتها ولغاتها ودياناتها وثقافاتها.
والموجة الثالثة: تضم مجتمعات ودول التقنية العالية مثل أمريكا واليابان وأوروبا..
ثلاث حضارات متصارعة الأولى التي لا تزال يرمز إليها بالفأس، والثانية بالمصنع والثالثة بالكمبيوتر ومن منظور التكامل الوظيفي بين الحضارات يرى أن قطاع الموجة الأولى يقدم الموارد الزراعية والمنجمية وكل المواد الخام، ويقدم قطاع الموجة الثانية العمالة الرخيصة والإنتاج الجمعي والثقيل. بينما يصعد قطاع الموجة الثالثة الذي يتوسع بسرعة – ليحقق السيادة المؤسسية على الأساليب الجديدة التي يخلق بها المعرفة ويستثمرها.
ما علينا من فلسفة التاريخ بقدر ما يهمنا علاقة الثقافة بالاقتصاد. في كتابه المهم ( اللغة الصامتة) حدد الأنثربولوجي الأمريكي إدوارد تي هول( 1914 -2009) إذ يرى أن الثقافة ليست مجرد خلفية اجتماعية أو تراث رمزي، بل هي نظام إدراكي يؤثر بعمق في أنماط التفكير، واتخاذ القرار، والتفاعل الاقتصادي فالاقتصاد لا يعمل في فراغ؛ إنه يتجذر في شبكة من القيم والعادات والتقاليد والزمان والمكان والسياق والعلاقات والرموز والمعاني التي تشكلها الثقافة المحلية للجماعة المعنية. يرى هول أن الفشل في فهم الثقافة المحلية يؤدي غالبًا إلى إخفاق المشاريع الاقتصادية الدولية، لأن الشركات تُخطئ حين تفترض أن القيم الاقتصادية عالمية أو “عقلانية” بنفس الطريقة في كل مكان وأكد على أهمية فهم الثقافات وسياقتها. وهذا هو ما فعلته الدكتورة مارينا دي ريجت ، أستاذة مشاركة ومديرة برنامج البكالوريوس والماجستير في قسم الأنثروبولوجيا الاجتماعية والثقافية بجامعة فريجي أمستردام وذلك في كتابها ( رائدات في ظروف غير مواتية)
أوضحت في مقدمته الفرق بين التنمية الاقتصادية والتنمية المستدامة إذ اتضح لي إن أنثروبولوجيا التنمية هي مجال أكاديمي نقدي يدرس عمليات التنمية وتأثيراتها على المجتمعات من منظور أنثروبولوجي وتهتم بتحليل المشاريع التنموية والسياسات والمؤسسات (مثل البنك الدولي والأمم المتحدة) وتأثيراتها على المجتمعات المحلية كما تكشف الاختلالات في عمليات التنمية وآلياتها ، التقليدية المتمثلة بالتعليم والتقنية ، والتفاوت الاقتصادي، وتجاهل الثقافة المحلية. من زاوية نظر نقدية تجاه نماذج التنمية الغربية المفروضة على المجتمعات غير الغربية بينما الأنثروبولوجيا التنموية تهتم بمشروعات التنمية المستدامة من خلال دمج المعرفة الأنثروبولوجية في المشاريع والسياسات التنموية من خلال تصميم وتنفيذ برامج تنموية تأخذ في الاعتبار السياقات الثقافية والاجتماعية للسكان المستهدفين وجعل التنمية أكثر ملاءمة للمجتمعات المحلية وتقليل آثارها السلبية. يشمل العمل في مجالات الأنثربولوجيا التنموية الرعاية الصحة والتعليم والتنمية الريفية. وحينما تكون الصحة والراعية الصحية هي الهادفة والغاية من المشاريع التنموية فاعلم إن التنمية مستدامة وحينما تكون المرأة هي موضع الرعاية الصحية فاعلم إن التنمية مشروع جدير بالاهمية والقيمة ف المرأة هي مصدر ومحور كل تنمية مدنية وثقافية وحضارية ممكنة، ولا تنمية مستدامة بدون تمكين المرأة وإشراكها الفاعل في مختلف فعاليات الحياة الاجتماعية، فالتنمية شراكة مجتمعية، والمرأة هي وطن الأوطان كلها، أول منازل الكينونة المشمول بالأمن والأمان والرعاية والرضاعة والحب والحنان، والحبيبة الحضن الدافئ والسكن الحميم ثاني منازل الحب والإشباع والاستقرار والإنجاب، هذا فضلًا عن مكانتها المحورية في تشكيل العائلة والبيت والمنزل، وما لكل ذلك من دلالات اجتماعية وسيكولوجية.لقد رصدت الدكتورة مارينا لحظة خانقة في تاريخ اليمن الراهن وفهمت الأزمة اليمنية من أعماقها ففي كتابها المكرس لمشروع الرعاية الصحية الرائد في الحديدة وحياة المرشدات بموصفهن رائدات اجتماعيات في ظروف غير مواتية تكشف عن حقيقة اليمن ما ظهر منه وما بطن. وفي علاقة التنمية الاقتصادية بالثقافة المحلية يمكن الاشارة إلى رمزية التنين ففي الصين يرمز التنين إلى القدرة على النمو والتطور والازدهار كلّ أسرة صينية تحلم بأن يكون مصير ولدها كمصير التنين أو ألـ ” لونغ ” أي أن يكون مستقبله زاهراً قادراً بفكره الليّن وجسده المرن على تدجين الصعاب أياً كان مصدرها. في الأنثربولوجيا الاقتصادية اشتهر عدد من الأنثربولوجييين منهم
الفرنسي مارسيل موس (1872–1950) وهو وابن أخت إميل دوركهايم. نشر دراسته الشهيرة «مقال في الهبة: شكل التبادل في المجتمعات البدائية»١٩٢٥م اكد أن التبادل في المجتمعات القديمة له طابع اجتماعي وثقافي وأخلاقي أكثر منه اقتصادي بحت كتب موس في مستهل مقالته : “تتم التبادلات والتعاقدات داخل الحضارة الإسكندنافية وعدد هام من الحضارات على شكل هدايا، نظريا بطريقة اختيارية، ولكنها في حقيقة الأمر إلزامية”( ينظر، خليل السعداني ، كتاب الهبة لمارسيل موس، ٢٠٢٠)
وحتى يجعل من الهبة صنفا سوسيولوجيا عاما، اعتمد موس على أعمال فرانز بواس،(Franz Boaz) أب الأنثروبولوجية الأمريكية ورائد المدرسة الانتشارية، حول هنود شمال غرب أمريكا، وأبحاث برونسلاف مالينوفسكي (Bronislav Manilowski) والمتعلقة بمجتمعات غينيا الجديدة بالمحيط الهادي. وقد وقف بواس عند ظاهرة البوتلاتش حيث يلجأ الزعيم إلى إتلاف كل ممتلكاته الثمينة، فيحرق منازله ويرمي بالآلاف الأغطية في المياه أمام عموم الحاضرين ليؤكد رفعته وتفوقه على بقية خصومه. ما يعني أن الشخص يعطي لكي يحطم ويدمر منافسه، ويجعله في وضعية يصعب أو يستحيل عليه فيها أن يرد بشكل مماثل، أو بحجم يفوق ما أخذ. فالبوتلاتش لا يعدو أن يكون منافسة حادة تؤول في نهاية المطاف إلى التدمير التفاخري للثروات.ويعد كتاب الأنثربولوجيا الاقتصادية ؛ التاريخ والانثوغرافيا والنقد للكتابين ؛ كريس هان وكيث هارت ، ترجمة عبدالله فاضل، الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات في الدوحة ٢٠١٤م كتابا مرجعيا في هذا المجال. بدأت الأنثروبولوجيا الاقتصادية في القرن التاسع عشر على أنها العلم المختص بدراسة السلوك الاقتصادي للإنسان البدائي، ثم تطور هذا العلم في القرن العشرين، ليربط مكتشفات النيوكلاسيكية الاقتصادية بنتائج دراسة المجتمعات البدائية، وبدراسة فلاحي العالم والقبائل أيضًا. ويعد كتاب العالم المجري، كارل بولاني توفى ١٩٦٤ التحول العظيم» ١٩٤٤ أهم عمل في الأنثربولوجيا الاقتصادية النقدية. حلل فيه، التغيّرات الاقتصادية والاجتماعية التي جلبها “التحوّل الكبير” بعد الثورة الصناعية. ولا يكتفي تحليله بشرح نواقص السوق المنظَّمة ذاتياً، بل يشمل، أيضاً، النتائج الاجتماعية الأليمة الممكنة لرأسمالية السوق الجامحة. وإن ما يستجدّ في عصر العولمة والتجارة الحرّة يُسند لتحليل بولانيي أهمية متجددة.
وخلاصة الفكرة التي اكدها بولاني تكمن في أن جوهر الأزمة الرأسمالية الحديثة يكمن في أن الاقتصاد تحرّر من القيم والمجتمع، فتحوّل من وسيلة لخدمة الإنسان إلى قوة تهيمن عليه والحلّ، في نظره، هو إعادة إدماج الاقتصاد ضمن النسيج الاجتماعي والأخلاقي، بحيث تعود السوق إلى كونها أداة لا غاية.
كانت ندوة رائعة ومهمة وملهمة…