هشام السقاف / خيوط
من أعلى غرفة في قصر سيئون التاريخي، صدح لأول مرة صوت المذيع الجهوري أبوبكر محسن الحامد -الله يرحمه- معلنًا: “هنا سيئون؛ إذاعة الشعب المحلية”، كان ذلك ظهيرة يوم 26 سبتمبر عام 1973م، لتنطلق تجربة إعلامية ومجتمعية فريدة ليس لها سابق بتأسيس هذه الإذاعة ذات الشعبية الكبيرة التي تحتفل العام الحالي باليوبيل الذهبي، 50 عامًا على بثها الهوائي.
قد لا يصدق البعض أنّ هذه الإذاعة المحلية تأسست واستمرت لمدة 27 عامًا من عمرها معتمدة في كل شيء على العمل الطوعي الخالص لكل أفرادها، فنييّن وإعلاميين، حتى ضُمّت عام 2000م للمؤسسة العامة اليمنية للإذاعة والتلفزيون، لتصبح (إذاعة الجمهورية اليمنية من سيئون) ومنذئذٍ صار لها موظفون رسميون وإدارة حكومية… إلخ.
كانت الإذاعة تبث إرسالها اليومي لساعات محدودة بجهاز إرسال كولنس مخصص للتلغراف قوته 50 واطًا، يغطي مساحة صغيرة في وادي حضرموت، إلى عام 2002م عندما حظيت بمحطة بث راديو وأريلات حديثة بمنحة يابانية تعمل بالموجة المتوسطة (MW) بقوة 25 كيلو واطًا، ليغطي إرسالها الوادي والصحراء ومناطق بعيدة في حضرموت الساحل بوضوح تام، وكان ذلك بمثابة قفزة نوعية وتقنية كبرى، كما أضيفت لها في سنواتها القريبة الماضية أجهزة بث على موجات الإف إم (FM)، إلى جانب أجهزة إستُديو رقمية حديثة تعمل بها، فكانت من أوائل الإذاعات اليمنية التي تعمل بالكمبيوتر في إرسالها وبرامجها اليومية منذ عام 2007م، وهي اليوم تبث إرسالها من السابعة صباحًا حتى الثامنة مساء. وتبث برامج معادة بعد الثامنة حتى الصباح التالي على موقعها الإلكتروني بالنت وتطبيقات الموبايل.
سر السنوات الـ27 الأولى!
عَودٌ على بدء تأسيس إذاعة سيئون عام 1973م؛ فقد انبرى لها مجموعة متآلفة من قيادات اتحاد النقابات واتحاد الطلبة في سيئون ليكون للإعلام في هذه المنطقة جهازٌ مسموع يصل إلى الناس في ظل غياب وسائل الإعلام الوطنية التي لا تصل إلى هنا. فكانت هذه الإذاعة التي لم تؤسسها السلطة الحاكمة آنذاك -وطبعًا تمت بمباركتها المعنوية فقط- بل أسستها منظمات جماهيرية وأهلية واستقطبت حماس الشباب الذين عملوا بتطوع تام، ولا أبالغ إن قلت إنهم في كثير من الحالات يدفعون من جيوبهم، كما حظيت بتجاوب المواطنين الذين تبرع بعضهم لها بأجهزة تسجيل وأشرطة ولوازم أخرى… وكان لي شخصيًّا شرف المشاركة في تأسيس هذه الإذاعة منذ أن كنت طالبًا في الصف الأول ثانوي مع الزملاء والأصدقاء الكرام: سالم عوض العامري (أول المؤسسين وقائدهم)، وأبوبكر محسن الحامد، ومحمد عمر جواس، والأب الفاضل جعفر محمد السقاف، وهادي عبد هود، وعبدالحافظ باحشوان، وسبيت الصيعري، وآخرين. وكانت الإذاعة كسكة قطار يركبه الشبان الهواة في محطة ويغادره البعض في محطة. وصارت الإذاعة مدرسة يمارسون فيها هوايتهم وشغفهم بالإعلام كرسالة يخدمون بها المجتمع.
وللبحث عن تمويل لسد حاجات الإذاعة من أجهزة صوت وتسجيل ولوازم أخرى، فقد استضافت الإذاعة عددًا من كبار الفنانين من عدن لتنظيم حفلات غنائية بسيئون (كان ذلك قبل ظهور التلفزيون في حضرموت) يعود ريعها للإذاعة. ومن هؤلاء الفنانون: محمد سعد عبدالله، ومحمد محسن عطروش، وعوض أحمد، ومحمد صالح عزاني.
ليس هذا وحسب، بل واستضافت الإذاعة أيضًا فريق نادي التلال لكرة القدم عام 87م (الذي كان يعج بالنجوم الكبار) لإجراء ثلاث مباريات مع أندية وادي حضرموت، كحدث تاريخي يتذكره الرياضيّون إلى اليوم، إلى جانب نشاطات وفعاليات أخرى للهدف نفسه.
الحاضر.. ونشوة اليوبيل!
لا أحد كان يصدق أنّ هذه الإذاعة (الجماهيرية) ستبقى كل هذه السنين الخمسين صامدة، وحيوية في سنوات التطوع وما بعدها في سنوات الإعلام الحكومي، بل ظلت متميزة ومبدعة ومتحدية ومنافسة في ظل طوفان وسائل الإعلام العالمية ووسائط التواصل الاجتماعي في عالمنا اليوم؛ فإذاعة سيئون اليوم بمهارات شبابها وكهولها صارت تُسمع في كل أنحاء العالم بواسطة الإنترنت، ولها موقع إلكتروني حديث، ومنصات في مختلف مواقع التواصل العالمية.
ويكفي أن أشير إلى آخر استبيان عام حول الإذاعة وبرامجها، أجراه العام الماضي (بمعزل عن إدارة الإذاعة) مركز الدراسات والإعلام الاقتصادي، بتمويل من إحدى المنظمات الدولية المختصة بالإعلام، وشمل عينات في 10 مديريات بوادي وساحل حضرموت، جاءت نتائجه أن 74% من المبحوثين يستمعون إلى إذاعة سيئون بانتظام (الانتشار)، وأن 76% منهم يثقون بالأخبار والبرامج التي تقدمها (المصداقية).
كلمتان لا بدّ منهما!
قال الأولى مستمعٌ: “يكفي هذه الإذاعة أنها أخذت من وقتنا ما لم تأخذه أعرق الإذاعات”.
وقال مستمعٌ آخر: “صارت إذاعة سيئون واحدة من أفراد الأسرة، تشاركنا الغداء وجلسات الشاي كل يوم في صبحنا والظهيرة”.
ترد (أيقونة) الإذاعة:
“الكلام كلامكم، الفنون فنونكم، إذاعة سيئون أنتم”.
•••هشام السقاف كاتب صحفي
المادة خاص بمنصة خيوط