عزام دبوان / خيوط
عندما أبدأ حديثي بكلماتٍ عاطفية، غالبًا، لا يكون الهدف منها لفت نظر القارئ إلى ما سأقول، بقدر ما يكون الهدف منها إيقاظ تلك المشاعر الكامنة في صدري واستفزازها، لتخرج إلى العلن على هيئة مقالٍ، لا يضيق به صدر القارئ، لكن اليوم الأمر مختلف قليلًا ، كيف؟
أن يكتب أحدنا عن الإنسان اليمني المسحوق في ماضيه وحاضره ومستقبله المنظور، لا يحتاج لأن يحتال على مشاعرهِ ليكتب، لأنه فقط وبمجرد أن يقول: “الإنسان اليمني” بكل تأكيد تأتي إليه الكلمات مطاوعة وسهلة، فيها من الدهشة المؤلمة، ما لا يضيق به صدر أحد.
سُئِلتُ كثيرًا بعد أن غادرت الوطن، ولم أزل أُسئَل: من أي بلدٍ أنت؟ فأجيب: أنا من اليمن… وفي الحقيقة إنَّ هذا السؤال يزعجني كثيرًا، ألا يرون في وجهي ملامح الإنسان اليمني المقهور، ألا يلمحون صنعاء في عيوني وتعز في جبيني وعدن في أنفاسي اللاهثة؟! وماذا عن تلك الخيبات التي تتكلّلُ بها ابتساماتي، ألا يرونها أيضًا؟! لهذا هم يسألونني من أنا ومن أيّ البلاد. المشتتُ والمهاجِر والمهجَّر في شتّى بقاع الأرض أنا، وأنا المنفي في، ومن وطنه في آن، المجْبَر على العيش في عالمٍ لا يُشبه عالمهُ الحقيقي الذي وُلد فيه في طقس لا يشبه سوى هذه البلاد.
حكاية اليمنيّين مع الهجرة والترحال لا تنتهي، فلا يبلغ أحدهم العشرين عامًا، إلا ويُقذَفُ به إلى خارج أسوار البلد (إما حلمًا أو حقيقة) وكأنه ما وُلد إلا ليغادرها، تاركًا وراءه الأهل والصحاب وقبل ذلك الوطن الذي ظلّ يقدسه حتى وهو بعيدٌ عنه. الملايين من اليمنيين على هذا النحو، يُقذفون بعيدًا جدًّا عن وطنهم حتى قبل أن يبلغوا العشرين عامًا، ومع مرور الزمن غدا جميعهم -أقصد أولئك المبعدون عن وطنهم طوعًا وكرهًا- غرباء حالمين بأن يسلك وطنهم الذي وُلدوا فيه، الطريقَ ذاته الذي سلكتهُ تلك البلدان التي هاجروا إليها، وطن يتخلى عن زمن القبائل والحروب المقدسة والمدنسة.
أتساءل مرارًا: لماذا كُتِب على اليمني الاغتراب الدائم منذُ أوَّل فردٍ من سُلالته؟ ولماذا يجب على أبنائه أيضًا أن يَرِثوا هذه الحمولة؟ ما الذي اقترفناه ليكون هذا مصيرنا؟ ولا أجد سوى جوابٍ واحد، وهو أنّ من يحكمونا على الدوام لصوص بارعون في سرقة قُوت يومنا، وبارعون في التخفي كذلك، لهذا لا نقدر على كشفهم إلا بعد أن نقع جميعًا في المصيدة.
الحنين الدائم للوطن، يُبْطِل إلى حدٍّ ما، قدرة المرء على التفكير في كثيرٍ من أموره المعيشية. فهنا -في السعودية- حيث يعيش الملايين من اليمنيين، جميعهم يتشاركون حلمًا واحدًا يتعلق بوطنهم الأم، وليس هو بالحلم الكبير، إنه بسيط وعادي بالنسبة للشعوب الأخرى، فهم يريدون وطنًا آمنًا مستقرًّا خاليًا من فساد العصابات وبنادق القتلة، حلم بسيط يشعرون بواسطته بوجودهم الإنساني وكينونتهم كبشر يعيشون على هذا الكوكب.
حنين الإنسان لوطنه لا ينتهي، لأنّ مشاعر الفرد حيال الأرض التي غادرها ليست عابرة وخفيفة أبدًا. أشياء كثيرة تجبر الإنسان على مغادرة وطنه وأرضه، كالقمع والخوف والفقر وغياب الأفق. هنالك أقارب نلوم أنفسنا لأننا غادرناهم، ومنزلًا ترعرعنا في جنباته، والكثير الكثير من ذكريات الطفولة السعيدة… هذا ما يقوله أمين معلوف في كتابه الهوايات القاتلة، وهو بالمناسبة أديب ومفكر لبناني/ فرنسي، وهو قبل أن يُعبِّر عن مأساته ومأساة وطنه، عبَّرَ عن مأساة الإنسان اليمني وغير اليمني كما استوعبتها.
لو علمَ اليمني أنه سيولد في الفراغ ويرمى فيه أيضًا، وكان الأمر بيده، لَرَفَض الولادة في الأصل، كيف لا وهو يعيش في شتاتٍ مستمر وفي مكابدة من أجل الحياة، باحثًا عن أحلامه البسيطة في بلدان غيره. حين يولد يقولون: فلانٌ خرج إلى النور، مدونين تاريخ ولادته، وهذا خطأ فادح يُرتكب، فمن الطبيعي القول: إن فلانًا خرج إلى الظلمة مع ذكر تاريخ ميلاده، نعم، فأي نورٍ هذا الذي يتحدثون عنه؟ أيقصدون نور الشمس الذي يلفح وجوه غالبية اليمنيين، وهم يكابدون من أجل قوت يومهم ويستخرجونه من صخور الجبال وطين الحقول ومفترقات الطرق وعريها.
لم يعد وضع المغترب اليمني كما كان قبل عقود، لقد اكتسب اليوم -بفعل كثير من المتغيرات- قيم أخرى أقلها أنه وُجد في سياق التساؤل أين هو وطنه الحقيقي؟ حيث وُلد أم حيث يعيش ويقتات؟ ومن هنا يظهر مفهوم الخيانة الرمزي؛ فأيّ الوطنين سيخون حين يختار أحدهما بديلًا للآخر؟! حلم اليمني بسيط جدًّا، لكنه صعب المنال، هذا حال الألسن هنا.
يدركون جيدًا كيف أنهم إن ابتعدوا عن وطنهم أحرقوا، وإن اقتربوا منه احترقوا أيضًا، فلا سبيل أمامه سوى الاحتراق.
•••عزام دبوان.
كاتب مهتم بالشأن الاجتماعي والإنساني والسياسي