دولة الحصباني / خيوط
بعيون ملؤها الرعب تحاول السيدة البكماء “مزن” -اسم مستعار- أن تصف كيف وصلت وأسرتها إلى بادية تحكمها الشمس الحارقة نهارًا، والبرد القارس ليلًا، وبينهما الرمل والريح كمتلازمة تكمل مشهد المأساة لأكثر من 20 ألف نازح ونازحة قدموا إلى مخيم “النقيعاء” بمأرب من إجمالي 93.378 نازح ونازحة توزعوا في 19 مخيمًا جديدًا ليبلغ عدد المخيمات 161 مخيمًا بحسب تقرير صادر عن الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بمأرب في نوفمبر/ تشرين الثاني المنصرم.
“تساقطت القذائف على القرى المحاذية، تبادلت الأطراف إطلاق النار، انحسرت رقعة الأمان شيئًا فشيئًا، لذلك اضطررنا للفرار، آخذين ما توافر من المال معنا”، خلاصة حديث طويل قالته “مزن” إيماء وإشارة لتصف هول الحرب والنزوح الذي أفضى بهم إلى الغراء.
نزوح ثالث قبل الفاجعة
من مديرية صرواح إلى وادي ذنة ثم إلى الروضة التابعة لمديرية الجوبة، وأخيرًا إلى مخيم “النقيعاء” المستحدث، والذي يضم قرابة 4000 أسرة بمديرية الوادي معقل النزوح الأخير التي استقبلت إلى جانب مديرية مأرب المدينة حوالي 12.185 أسرة نازحة جديدة.
سلسلة نزوح وتهجير توالت على “مزن” وأكثر من مليونين وثلاث مئة ألف نازح ونازحة، وصلوا الحد الأقصى من مشوار البحث عن مأوى آمن يستقرون فيه.
في سياق متصل، اشتدت المواجهات على تخوم المديريات الجنوبية لمحافظة مأرب (رحبة، حريب، الجوبة، جبل مراد، العبدية وصرواح) منذ سبتمبر/ أيلول وحتى اللحظة؛ مؤشر ينذر بحدة الخطر إن استمر الصراع وامتد ليشمل مديريتي مأرب المدينة ومديرية الوادي، اللتين يتكتل فيهما ما نسبته 62% من إجمالي النازحين في الجمهورية اليمنية ككل.
أزمة إضافية
يتسكع “أمادي” -اسم مستعار- في أحد شوارع مأرب المدينة، على أمل أن يتحقق حلمه ويصل للسعودية. ينحدر “أمادي” من إحدى قبائل “الأورمو” الأثيوبية، هاجرَ برفقة سبعة من أصدقائه هربًا من شظف العيش في مناطقهم سنة 2017، لكنهم علقوا في اليمن، ما دفعه للعيش في العاصمة صنعاء جامعًا لقناني المياه المعدنية الفارغة، ومنظفًا لزجاج السيارات التي تعينه على كسب قوت يومه.
التحذير من كارثة وشيكة قد تذهب بالوضع الإنساني لأبعاد مأساوية، نتيجة ضعف الاستجابة من قبل المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية التي لا تغطي حتى 20% من الاحتياجات الأساسية للنازحين مؤخرًا، اضطر “أمادي” لمغادرة صنعاء بعد حادثة حريق 64 مهاجرًا إثيوبيًّا، وإصابة نحو 200 آخرين في مركز احتجاز بمبنى جوازات صنعاء في 7 مارس/ آذار من السنة الحالية.
يتذكر أمادي الرحلة الصعبة التي قطعها ورفاقه من أثيوبيا، إلى جيبوتي، ثم إلى رأس العارة بمحافظة لحج اليمنية التي مكث فيها ما يقارب الشهر في مركز احتجاز تابع لمهربين يمنيين، فيتعاظم حلم الوصول إلى السعودية بداخله.
الجدير بالذكر أن اليمن كانت قد استضافت -حسب آخر إحصائية للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين سنة 2020- حوالي 177.600 لاجئ وطالب لجوء، وهو ما شكّل عبئًا إضافيًّا على بلد يعاني من موجات نزوح داخلية كبيرة لا تتحمله الإمكانيات القائمة لدى الجهات والمنظمات المعنية.
الهُوية مقابل الطعام
لا يكترث اليمنيون -تحديدًا- في الأرياف لضرورة استصدار بطائق تثبت هوياتهم، إلا أن الحرب والنزوح أجبرت العديد ممن دفعهم الوضع إلى النزوح، على البحث عن يمنيتهم المهملة لتلقي بعض المساعدات المقدمة من قبل المنظمات الإنسانية العاملة في اليمن.
نور محجب -نازحة وناشطة اجتماعية- تتحدث عن هذه الإشكالات قائلة: “يبقى العديد من النازحين خارج كشوفات المساعدات حتى يثبتوا هوياتهم، في حين أن استخراج الهوية، يستغرق جهدًا ووقتًا طويلًا، خاصة أن معظم هؤلاء بسطاء وأميّون لا يعرفون من أين يبدؤون!”.
وتضيف: “حاولت مع نشطاء آخرين بذل قصارى طاقاتنا لتقليل معاناتهم ومساعدتهم، لكن هذا الأمر تطلب أن يظل هؤلاء دون غذاء أو مأوى فترات طويلة”.
البند السابع.. إدارة حرب
يشكل الأطفال 40% من إجمالي نسبة النزوح الكلي في محافظة مأرب اليمنية، فيما تقدر نسبة النساء فوق سن 18 سنة بـ35%، بحسب الدكتور خالد الشجني، نائب مدير الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين بمأرب.
تنتشر هذه الفئات المستضعفة في مخيمات نظامية وخارج المخيمات (أحياء، حارات، وبين أوساط المجتمع المضيف)؛ ما يثقل كاهل السلطة المحلية في المحافظة، والوحدة التنفيذية على وجه الخصوص، التي تواجه تحديات جمة على أكثر من صعيد، فيما ما تزال موجات النزوح تتصاعد بكثافة على المحافظة بالتزامن مع اشتداد المواجهات بين الحكومة المعترف بها دوليًّا المسنودة بطيران التحالف بقيادة السعودية، وبين جماعة أنصار الله “الحوثيين” الذين كثفوا هجماتهم في محاولة للسيطرة على المحافظة النفطية.”
المياه، الغذاء، الصحة، المأوى، الحماية، وغيرها” متطلبات تقع على عاتق المجتمع الدولي، الذي أدرج اليمن تحت سياط البند السابع، وظل ملتزمًا البقاء في مقاعد المتفرجين، ومديرًا للحرب عن بعد، متنصلًا عن دور حازم وجادّ في الضغط على اللاعبين المحليين والإقليميين المنخرطين في الصراع الدائر لتحييد المدنيين وحفظ حياتهم”- يحتج الشجني مكملًا حديثه.
كان ديفيد غرسلي، منسق الشؤون الإنسانية في اليمن، قد ذكر في مؤتمر صحفي عقده أوائل ديسمبر/ كانون الأول الجاري؛ أن إجمالي الدعم الذي تقدمه المفوضية للنازحين بلغ 40 مليون دولار، عززت بـ٣ ملايين دولار أخرى، خصصت للمساعدات العاجلة عقب تطورات الصراع مؤخرًا؛ مخصصات تبدو متواضعة مقارنة بحجم التدفق المستمر للنازحين، وبالنظر للمخاطر التي تواجه المركبات التابعة للمفوضية المعنية بنقل المساعدات إلى أماكن الاحتياج، التي تكررت وكان آخرها استهداف مركبة تابعة لبرنامج الغذاء العالمي في 11 من أكتوبر/ تشرين الأول في مديرية العبدية.
ملامح كارثة تلوح
يحذر أيمن عطاء، المسؤول الإعلامي في الوحدة التنفيذية لإدارة مخيمات النازحين، من كارثة وشيكة قد تذهب بالوضع الإنساني لأبعاد مأساوية، نتيجة ضعف الاستجابة من قبل المنظمات الإنسانية الدولية والمحلية التي قال إنها لا تغطي حتى 20% من الاحتياجات الأساسية للنازحين. مضيفًا: “حذرنا كثيرًا من اقتراب الكارثة، لكن للآن تقابل التحذيرات بتراخٍ دولي غير مبرر”.
وقال عطاء: “إن تصعيد جماعة أنصار الله “الحوثيين” الأخير تسبّب في نزوح أعداد هائلة من قراهم، بسبب احتماء المقاتلين “الحوثيين” بالمواطنين المدنيين، واتخاذهم كدروع بشرية”، حد تعبيره.
مؤكدًا في السياق ذاته، أن السلطات المحلية في مأرب، عملت على تخصيص أراضٍ للنازحين، ومواد إيوائية وغذائية بصورة عاجلة، لكنه يعقب أن حجم النزوح يفوق قدرة السلطة المحلية وكل المخصصات المتاحة.
معاناة وصدمات
على جانب إحدى الطرق في مديرية الوادي، تبدو إنتصار (11 سنة) مهزومة تمامًا، فيما يجثم جالون ماء سعة 15 لترًا فوق رأسها الصغير تنقله مسافة تستغرق نحو ساعة مشيًا على الأقدام، إذ تحتاج لثلاثة جالونات؛ ما يعني أنها تنقل الماء بمتوسط ثلاث ساعات يوميًّا؛ تقول إنتصار، إنها تعيش مع أسرتها في منزل أحد أقربائهم بعد نزوحهم من مديرية (مدغل) التي سيطرت عليها جماعة أنصار الله “الحوثيين”؛ وإلى جانب إنتصار التي تتحدث باستغراق، تقف أختها سعاد (7 سنوات) -ابنة الحرب- غير قادرة على الحديث بشكل طبيعي نتيجة تعرضها لصدمة نفسية إثر سقوط القذائف بالقرب من قراهم.
عشرات الأطفال يعانون المشكلة ذاتها، إضافة لحالات من الرهاب الشديد والتبول اللاإرادي بسبب تبعات الصراع والمواجهات، أكدها الدكتور الشجني.
تحت أزيز الرصاص، لا تبدو أوجاع النزوح واضحة بما يكفي لتنتهي الحرب، لكن عقودًا قادمة لا تكفي لإقناع مشرّدٍ أن للوطن سقف أمان بإمكانه وضع رأسه تحته.
•••دولة الحصباني
صحفية يمنية وكاتبة. تكتب في عدد من الصحف والمواقع العربية واليمنية، وهي معيدة في كلية الإعلام جامعة صنعاء.
المادة خاص بمنصة خيوط