ضع اعلانك هنا

سلاح منفلت في إب؛ كابوس وحوادث مرعبة تكلفة عالية للعيش في بيئة خطرة

خيوط

تذهب محاولات المواطنين في محافظة إب، كما في سائر مدن اليمن، للتمسك بأهداب الحياة، في ظل الحرب وانفلات السلاح وتفشي حمله في المجتمع، وما نجم عن ذلك من وضع كارثي ومُعادٍ للحياة، أدراج الرياح.

إذ يتفاقم كل يوم، أعداد المسلحين الذين ينتشرون في شوارع المدينة حتى أن المرء أينما ولى وجهه سيجد أمامه مسلحًا، اثنين، ثلاثة.

تفشي حمل السلاح خارج المؤسستين، العسكرية والأمنية، ليس بظاهرة جديدة في اليمن، لكن الحرب الدائرة منذ سبع سنوات، والأطراف المنخرطة بها، ساهموا بشكل كبير في تحويل حمل السلاح من ظاهرة إلى ثقافة، والدفع بذلك نحو توطينها في الوعي الجمعي للمجتمع.

ومع تفشي هذه الثقافة المميتة بين مختلف شرائح المجتمع، أصبحت ممارسة الناس لحياتهم العادية رهانًا بين الحياة والموت، حيث إن أي خطأ بسيط أو لحظة غضب أو سوء تقدير، قادرة على إنهاء أفراح أسرة بأكملها وتحطيم أحلام أناس لا ناقة لهم ولا جمل فيما حصل وما يحصل الآن، سوى أنهم يعيشون في بلد منفلت.

وفي محافظة إب يتساقط الأبرياء بشكل شبه يومي، وتتحول حياتهم فجأة، بضغطة زناد، إلى مآسٍ تقدحها فوهات البنادق التي أصبحت منتشرة بشكل يثير الرعب؛ إذ تحولت هذه الظاهرة إلى كابوس يقلق سكينة الناس وحكايات مرعبة يتناقلها المواطنون في كل مكان في المحافظة.

كانت السماء صافية والأرض ما تزال مبتلة من مطر البارحة، عندما تكتّف عبود مصطفى العليمي كيسًا مملوءًا بالمناديل الورقية، واتجه، مثل كل يوم، إلى شارع مستشفى الثورة العام الواقع في قلب مدينة إب.

كان عبود، البالغ من العمر 11 ربيعًا، قد فر وعائلته مطلع العام 2015، من محافظة تعز هربًا من نيران الحرب الدائرة هناك. قدموا إلى محافظة إب ناشدين فيها حياة ربما لا تكون أفضل وأرغد، لكنها على الأرجح ستكون أكثر أمنًا، أو هذا على الأقل ما ظنه والده، مصطفى سيف العليمي، الذي افتتح عقب مدة من وصوله إلى مدينة إب، محلًّا لبيع الملابس الجاهزة.

لكن المحل البسيط الواقع في زقاق هامشي، لم يؤمّن متطلبات العائلة المكوّنة من (تسعة أفراد)، ما اضطر عبود للالتحاق بسوق العمل، والانخراط مع أطفال آخرين، في بيع المناديل الورقية أمام هيئة مستشفى الثورة العام.

مثل كثير من الأطفال الذين عاقبتهم الحرب وتردي الأوضاع المعيشية وحكمت بتجريدهم من حقهم بطفولة سوية وآمنة، ألقت الحرب بالطفل عبود العليمي، في وقت مبكّر من عمره، إلى سوق العمل، إذ كان في سن السابعة عندما بدأ بيع المناديل.

وفي صباح الإثنين 9 أغسطس/ آب 2021، حمل عبود كيسه المملوء بالمناديل واتجه إلى شارع مستشفى الثورة، بينما اتجه والده وأخوه الأكبر علوان، إلى محل الملابس الجاهزة.

يقول والد عبود في حديثه لـ”خيوط”: “عند الساعة العاشرة صباحًا وقف طفل ممن يبيعون المناديل مع ولدي عبود، أمام مدخل محل الملابس الذي أملكه، وأخبرنا بأن هناك طفلًا أصيب بطلق ناري قرب هيئة مستشفى الثورة ، وعندما سألناه عن هوية الطفل الذي أصيب ردّ علينا بأنه لا يعرف”.

أرسل مصطفى العليمي، على الفور، ولده علوان للتأكد من هوية الطفل المصاب، ومعرفة قصة إطلاق النار تلك. بعد أقل من نصف ساعة، قضاها الأب متقلبًا بين الرجاء والخوف والشكوك، تلقى اتصالًا من ابنه الكبير أخبره فيه بأن الطفل المصاب هو أخوه عبود، وأنه الآن في طوارئ المستشفى.

يضيف الأب: “ظاهرة حمل السلاح في مدينة إب، كما في بقية أرجاء اليمن، ليست جديدة لكن الحرب سهّلت الوصول إلى السلاح بمختلف أنواعه وأسهمت في تفشي حمله بين شرائح المجتمع المختلفة، كان ولدي عبود هو الذي أصيب، وكان الطفل الذي يبيع المناديل معه على دراية بذلك، لكنه لم يشأ أن يفزعني”.

يتابع: “أغلقت المحل واندفعت راكضًا نحو المستشفى. كانت المخاوف تتنامى في داخلي وتنهش قلبي، لكني ظللت، طيلة الطريق متمسكًا بالأمل وألهج بالدعاء راجيًا من الله أن تكون إصابة عبود بسيطة”.

غير أن الإصابة لم تكن بسيطة، بل خطيرة وقاتلة، إذ أصيب عبود برصاصتين انطلقتا من بندقية مسلح كان يجلس في بوفيه قريب من المكان، واخترقتا شقه الأيمن وسكنتا في عموده الفقري.

يضيف الأب المفجوع: “وصلت إلى قسم الطوارئ وشاهدت ولدي عبود. كان مستلقيًا على أحد الأسِرّة وينزف بشدة. ينزف حتى الموت دون أن يتدخل أحد، من الحاضرين، لإيقاف النزيف وإنقاذه”. كان أطباء الطوارئ في مستشفى الثورة قد زوّدوا عبود بائع المناديل الجوال، منذ وصوله المستشفى في التاسعة و45 دقيقة صباحًا، بالدم عدة مرات، لكنهم لم يقوموا بتدخل جراحي لإيقاف النزيف.

يقول الأب: “غامت الدنيا في وجهي وأنا أشاهد ولدي الصغير وهو على ذلك الحال من السوء والألم، ورحت أصرخ في وجوه الأطباء طالبًا منهم التدخل لإيقاف النزيف وإنقاذ حياته”، أُدخِل عبود، عقب وصول والده إلى المستشفى بقليل، إلى قسم العمليات. كان مقررًا أن تجرى له عملية جراحية لإيقاف النزيف، إلا أنه وأثناء ما كان يتم التحضير للعملية والإعداد لها، فارق الحياة.

أودعت جثة عبود في ثلاجة المستشفى، ومع حلول الظهيرة، كان اسم القاتل وبياناته قد تكشفت وخرجت إلى العلن، لكن سبب إطلاقه للنار، كان حتى تلك الساعة، ما يزال لغزًا مجهولًا.

بعد ساعات من جريمة قتل الطفل عبود، تم القبض على المتهم وأودع السجن، ورفض والد الضحية وساطات قبلية مكثفة لقبول التسوية، لكن بعد وقت قصير من مباشرة النيابة التحقيق، توقف سير القضية وأعلن الأب تنازله كون القتل حدث بالخطأ.

يواصل الأب حديثه: “في الظهر، وعقب أن أودعنا جثمان عبود في ثلاجة الموتى، عرفت اسم مطلق النار وأنه يعمل مرافقًا لدى شيخ قبلي”- (تتحفظ “خيوط” عن ذكر اسمَي المتهم والشيخ لأسباب مهنية). وبحسب الوالد المفجوع، فر الشيخ ومرافقوه، بمن فيهم مطلق النار عقب الجريمة مباشرة، وبدؤوا من بعيد، حيث لا تطالهم يد القانون، البحث عن وساطات لحل القضية قبليًّا وخارج مؤسسات القانون؛ إذ اتصل الشيخ بعاقل حارة الملكة أروى، طالبًا منه التدخل لدى والد الضحية، الذي يسكن في الحارة ذاتها، لحل القضية قبليًّا، لكن الأخير رفض.

يقول والد عبود مؤكدًا: “رفضت كل الوساطات التي أرسلها الشيخ وآخرون لحل القضية قبليًّا وبعيدًا عن مؤسسات الدولة. ما كنت لأبيع ولدي عبود وأخذله ميتًا”. وعقب ساعات من وقوع الجريمة، تمكنت الجهات الأمنية من القبض على الجاني وإيداعه سجن البحث الجنائي، وبعد جمع الاستدلالات والقرائن، أحيلت القضية إلى النيابة والمتهم إلى السجن الاحتياطي في المحافظة. بعد ذلك باشرت النيابة في التحقيق وإعداد ملف عن القضية تمهيدًا لإحالتها إلى المحكمة، لكن القضية أُقفلت فجأة وتم حفظ ملفها في أدراج النيابة، إذ أعلن والد الضحية تنازله عنها.

يقول مصطفى العليمي: “لم أتنازل عن القضية بسبب الضغوط أو طمعًا بعروض قدمت لي؛ ما كنت لأبيع دم ولدي بكنوز الأرض. تنازلت عن القضية بعد أن تأكد لي بالدليل القاطع أن القتل حدث بالخطأ، وأن القاتل لم يكن في الأساس ينوي إطلاق النار”.

كان الدليل الذي تحدث عنه والد الضحية، ودفعه للتنازل عن القضية، عبارة عن فيديو سجلته إحدى كاميرات المراقبة، القريبة من مكان الواقعة، ووثقت فيه لحظة إطلاق النار.

في الفيديو يظهر مرافق الشيخ، وهو جالس على أحد كراسي الكافتيريا منتظرًا خروج الشيخ ليرافقه. كانت بندقيته من نوع كلاشنكوف، موضوعة على فخذيه، وهي معمّرة ومفتوحة الأمان في وضع الجاهزية للإطلاق السريع. عندما خرج الشيخ نهض المرافق المسلح ليلاقيه ويرافقه، لكن أصبعه، أثناء ما كان يرفع البندقية ليتكتفها، ضغطت بالخطأ على الزناد.

وبالتزامن مع انطلاق الرصاصتين، كان الطفل عبود يمر في المكان، مناديًا على المارة لترويج بضاعته الصغيرة: “ثلاثة فاين بألف”.

في إب، محافظة السلام، كما يقال ويروج عنها، ستجد مراهقين يحملون السلاح، ويجولون به متباهين في الشوارع، كما لو كان زينة. ليس هذا فقط، بل هناك كثيرون يعدون السلاح جزءًا أصيلًا من رجولة الفرد وكماله.

العروس التي عادت بكفنين بدل الفستان

قبل عام على مقتل الطفل عبود العليمي، تحديدًا في 4 يونيو/ حزيران 2020، ألفت الشابة مشيرة بشير طه الجعفري نفسها، وهي تحمل بين يديها كفنين، بدلًا عن فستان عرسها الذي غادرت قريتها، في ذلك الصباح، لكي تشتريه.

كانت الساعة الـ11 ظهرًا، عندما تعالى فجأة، في أجواء شارع المعاين -وهو شارع حيوي يقع شمال مدينة إب، ويربطها بعدة محافظات أخرى- دوي رشقة سريعة من الرصاص. دبّ الخوف والفزع في أوساط الناس المتواجدين في الشارع المزدحم على الدوام، بالمواطنين والمسافرين الذين يتوقفون هناك عادة للاستراحة وتناول الطعام.

وسط حمى الهلع من رشقة الرصاص مجهولة المصدر، شاهد بعض المارة رجلًا خمسينيًّا مرميًا على الأرض، ينزف ويتلوى من شدة الألم. لم يتبادر إلى ذهن أحد من المتواجدين في المكان أن مأساة إطلاق النار لم تكتمل بعد، وأن فصلها الأكثر حزنًا وإيلامًا قد كتبته، بالفعل، زخة الرصاص تلك، وكان كل ما عليهم للتعرف عليه هو أن يرهفوا السمع للأنين المكتوم الذي يعلن بفزع عنه. فعلى مقربة من المكان الذي سقط فيه أحمد نايف الإدريسي، أثناء استعداده لركوب دراجة نارية، جريحًا، كانت الشابة مشيرة تصارع، على متن أحد باصات الأجرة، الفاجعة التي لحقت بها وبعائلتها.

تقدم بعض الحاضرين من الباص المتوقف وسط الشارع، وتمكنوا من معاينة الجريمة بأعينهم؛ مشيرة، العروس التي وأد الرصاص فرحها، تتهدج بالبكاء وإلى جوارها، على ذات الكرسي، كان والداها وجدتها يجلسان، ولكن كجثتين هامدتين، وغارقتين بالدم.

“قتلوهم، قتلوهم”. كان هذا فقط كل ما قالته مشيرة وظلت تردده، ليس في تلك اللحظة وحسب، بل طيلة اليوم. عجزت مشيرة، من هول الصدمة، عن الإجابة عن أسئلة مندوب البحث الجنائي في هيئة مستشفى الثورة، للتعرف على هوية الضحيتين، الأمر الذي حدا به لأن يقوم بفتح تلفون الضحية بشير الجعفري، والاتصال بآخر رقم في قائمة الاتصالات، وإخباره بأن مالك الهاتف وامرأة عجوز إلى جواره قد قُتلا.

يقول برهان الجعفري، عم مشيرة، في حديثه لـ”خيوط”: “عندما رأيت اسم أخي على شاشة الهاتف ظننت أنه اتصل ليعتذر عن القدوم إلى منزلي، وأنه سيعود إلى قريتنا، لكن فوجئت بصوت غريب، يخبرني أن أخي ووالدتي قد قُتلا، وأن علي الحضور إلى مستشفى الثورة للتعرف عليهما”.

كانت كلمات المتصل حاسمة وجادة ولا تحتمل أي لبس. استجمع برهان قواه وغادر منزله الكائن في منطقة السحول، التابعة لمديرية ريف إب، قاصدًا مستشفى الثورة الذي نقل إليه ضحايا الحادثة.

بينما أودعت جثة الضحيتين بشير الجعفري ووالدته مليحة الجعفري، ثلاجة الموتى في المستشفى ذاتها، اتخذت قضية مقتلهما، برصاص مسلح يتبع حركة أنصار الله (الحوثيين)، منحىً قبليًّا، سيؤول على الأغلب إلى نفاذ القاتل من العقابخلال الطريق، الذي طال وبدا أنه بلا نهاية، داهمت برهان أسئلة واحتمالات كثيرة، حول حقيقة الحادثة التي تسببت بمقتل أخوه الأكبر بشير، ووالدته، المرأة الستينية، مليحة قاسم الجعفري.

يضيف برهان: “استبعدت أن يكون بشيرًا قد تورط في شجارٍ ما، فلطالما كان رجلًا مسالمًا كل همه توفير لقمة العيش لأطفاله الستة والأدوية لوالدنا المريض منذ سنوات. كنت، بين حين وآخر، خلال الطريق، أُمنّي نفسي أن يكون المتصل كاذبًا وأن أفراد عائلتي ما يزالون بخير وأنهم الآن، كما أخبرني أخي، في الطريق إلى منزلي، لتناول الغداء”.

في وقت مبكّر من ذلك الصباح، غادرت مشيرة ووالدها وجدتها منزلهم، الكائن في قرية الضباري التابعة لمديرية حُبيش، قاصدين مركز المحافظة لشراء مستلزمات عرسها الذي كان مقررًا أن يقام في منتصف يونيو/ حزيران 2020. إلا أنه وبعد أن فرغوا من شراء متطلبات الزفاف، وأثناء ما كانوا متوجهين إلى منزل العم، لتناول وجبة الغداء وأخذ قسط من الراحة، أطلق مسلح، وسط شارع المعاين، النار من بندقيته قالِبًا حياة الأسرة رأسًا على عقب، ومحيلًا الفرح إلى عزاء طويل.

يقول أحمد نايف الإدريسي، الذي سقط جريحًا في الواقعة نفسها: “سمعت صوت إطلاق النار. كانت زخة رصاص سريعة. وعندما أدركت أني جرحت وأصبت في فخذي الأيمن، كانت الفوضى قد عمت الشارع، لكني، رغم الضجيج والألم، تمكنت من تمييز صوت محرك سيارة انطلق بسرعة.كانت سيارة عسكرية. صوت محركات سيارات الجيش مميز ومن السهل معرفتها. نعم، من أطلق النار كان يستقل تلك السيارة العسكرية التي لاذت بالفرار. أنا متأكد من هذا”.

وصل برهان إلى مستشفى الثورة وهناك وجد مشيرة، ابنة أخيه، العروس التي اغتال المسلح فرحتها وأحال حياتها إلى جحيم، منهارة وغارقة في الدموع، وتحاول جاهدة استيعاب ما حدث.

يضيف برهان: “لم تتعرف مشيرة علي. كانت تنظر إلى الفراغ، إلى بقعة غير مرئيّة هناك، وتردد طوال الوقت، وكأنما تحفر ما حدث في ذاكرتها: “قتلوهم”. رغم طبقات الدم، المتيبسة على الوجه والرأس، تمكن برهان، من التعرف على جثة والدته وأخيه. كانت تلك اللحظة، كما قال، أسوأ وأصعب ما مر به في حياته، وهي كذلك بالفعل، ليس بالنسبة له فقط، بل وبالنسبة لكل شخص يحتمل أن يضعه السلاح المنفلت في مكانه أو مكان مشيرة ابنة أخيه.

عقب أخذ البحث الجنائي لأقوال برهان، أخبره أحد الجنود الذين حضروا التحقيق، أن السلطات ألقت القبض على الجاني وأودعته السجن.

وأمام استمرار هذه الظاهرة وسقوط المزيد من الضحايا، كل ما يمكن أن يقال سيبدو هشًا ومتداعيًا وبلا قيمة، طالما والقتلة طلقاء والعدالة بعيدة المنال، شأنها شأن الحلم بوطن آمن وخال من السلاح.

يقول برهان: “المسلح الذي أطلق النار وتسبب في مقتل والدتي وأخي كان يستقل سيارة عسكرية تابعة لقيادي في جماعة أنصار الله (الحوثيين)”. عقب إطلاق النار لاذ المسلحون بالفرار من المكان على الفور غير آبهين بما خلفوه من مآسٍ دامية وجروح لا تبرأ ولا تندمل.

كان أحمد الإدريسي مصابًا بطلقة في الفخذ، نتج عنها ثلاثة كسور في العظم، وكان ملقى على الأرض وينزف بشدة. يقول: “كنت مستلقيًا على الأسفلت وأنزف. طلبت من الناس المتواجدين إسعافي، لكن لم يتجرأ أحد منهم على نقلي إلى المستشفى، مخافة أن تلصق تهمة إطلاق النار به. عندها طلبت منهم إبلاغ النقطة الأمنية القريبة من المكان عما حدث، وهذا ما حصل. حضر طقم عسكري وقام أفراده بنقلي للمستشفى. لولا ذلك ربما كنت سأموت جراء النزيف”.

وبينما أودعت جثة الضحيتين بشير الجعفري ووالدته مليحة الجعفري ثلاجة الموتى في المستشفى ذاتها، اتخذت قضية مقتلهما، برصاص مسلح يتبع حركة أنصار الله (الحوثيين)، منحىً قبليًّا، سيؤول على الأغلب، إلى نفاذ القاتل من العقاب الذي يتناسب وحجم ما ارتكب من فظاعة.

قصة أخرى.. وجع جديد

حبيب عبدالوهاب الشرعبي، فتى في مقتبل العمر، خرج ليلعب مع زملائه في الصف كرة القدم، اللعبة التي يحبها منذ طفولته، فتلقفه الموت وضمه إلى قوائم ضحايا السلاح المنفلت.

كان فجر يوم الأحد 21 مارس/ آذار 2021، طلع من عيني حبيب الذي قضى شطرًا لا بأس به من الليل حالمًا بالمباراة التي سيخوضها في الغد. وفي بواكير الصباح الأولى، استقل هو و19 طالبًا آخرَ، حافلة أقلّتهم من مدينة القاعدة إلى مركز محافظة إب للمشاركة في الدوري الذي يقيمه مكتب التربية والتعليم بين طلاب الثانوية العامة في مديريات المحافظة.

وصل الفريق، ودخل إلى أرضية الملعب، واتخذ كل لاعب منهم مكانه المحدد في التشكيلة. صفّر الحكم معلنًا بداية المباراة، وتدحرجت الكرة بين أقدام اللاعبين واختارت المهارة والحظ، على حد سواء، الفريق الفائز. عقب انتهاء المباراة استقل حبيب وفريقه الحافلة من جديد واستداروا سالكين الطريق ذاته الذي قدموا منه في الصباح، لكن الطريق، هذه المرة، لن يكون سالكًا، والمرور فيه لن يكون دون خسائر.

يقول بدر الدين الشرعبي، شقيق الضحية: “في الطريق حدثت مشادّة كلامية بين سائق الحافلة التي تقِلّ أخي وزملاءه في الفريق، وبين شاب يافع يقود دراجة نارية. وسرعان ما تطور ذلك الخلاف من سباب وشتائم إلى عراك بالأيدي. دام العراك قرابة دقيقة، قبل أن يتدخل جندي مرور كان يمر بالمكان وهو يقود مركبة عسكريّةً، وينهيه. فضّ جندي المرور الاشتباك بين السائقين وأمرهما بمواصلة الطريق. استقلّ الشاب دراجته النارية، لكنه وقبيل أن ينطلق بها ويختفي في الزحام، التفت إلى سائق الحافلة وأخبره بأن الأمر لم ينتهِ بعد، وأنه سينتظره في الطريق”.

يضيف بدر الدين: “كان جندي المرور موجودًا حينما هددهم سائق الدراجة النارية وتوعدهم بأنه سينتظرهم أمام النقطة الأمنية الواقعة في سائلة جبلة، وأنهم لو كانوا رجالًا فليواصلوا التقدم. مرة أخرى تدخل جندي المرور، وهوّن من تهديد الشاب وطمأن الجميع، بمن فيهم حبيب، الذي كان يجلس على الكرسي المجاور للسائق، بأن مكروهًا لن يمسهم. ولأجل التأكيد على مصداقيته، وضمانًا لسلامتهم، قرر مرافقتهم حتى يتجاوزوا نقطة التفتيش التي توعدهم فيها الشاب، صاحب الدراجة النارية، بأنه سينتظرهم هناك”.

بقي حبيب في العناية المركزة وجهاز التنفس ينوب عن رئتيه في مهمة مد دماغه وأنحاء جسمه بالأكسجين اللازم لإبقائه على قيد الحياة. وفي مساء يوم الجمعة ٩ أبريل/ نيسان 2021، فارق الحياة .

واصلت الحافلة التقدم، مخفورة بالسيارة العسكرية. كان الهدوء قد عم بين اللاعبين بسبب الطريق وارتفاع درجة الحرارة، لكن الحذر، بين لحظة وأخرى، كان يستعاد كلما اقتربت درجة نارية من الحافلة. بدأت حركة السير بالتباطؤ مع اقترابهم من سائلة جبلة، حيث تُخضع نقطة أمنية تتبع شرطة مديرية المشنّة، السيارات للتفتيش.

يقول الأخ: “عند حوالي الساعة الحادية عشرة ظهرًا، توقفت الحافلة بسبب الزحام الذي تسببت به نقطة التفتيش. كان سائق الدراجة النارية، كما توعدهم، موجودًا هناك، وكان ينتظرهم، ولكن ليس لوحده بل مع ما يقارب 20 من سائقي الدراجات النارية. تقدم سائق الدراجة من الحافلة واعتدى على السائق بالضرب، وعلى الفور انضم إليه سائقو الدراجات الآخرون، وصعدوا إلى الحافلة، وباشروا في ضرب اللاعبين. خلال الاعتداء، ودون أي مقدمات، قام أحد أفراد النقطة الأمنية التابعة للأمن العام في مديرية المشنة، بإطلاق النار”.

اخترقت رصاصة جندي الأمن العمود المعدني للحافلة ومرت بمحاذاة رأس السائق دون أن تصيبه، لكنها أصابت حبيب الذي كان يجلس على الكرسي المجاور. دخلت الرصاصة من كتفه الأيسر واخترقت صدره ورئتيه مرورًا بعموده الفقري ونخاعه الشوكي قبل أن تستقر أخيرًا وتسكن في ضلعه الأيمن.

توقف العراك. وقام جندي المرور، الذي كان خلف الحافلة مباشرة، بنقل حبيب، على متن سيارته العسكرية، إلى هيئة مستشفى الثورة العام، لتلقي العلاج.

يقول بدر الدين: “الجندي الذي أطلق النار وأصاب برصاصته أخي، هو أحد أفراد النقطة الأمنية، التابعة لإدارة أمن المشنة. نقل أخي حبيب إلى مستشفى الثورة العام، وظل ينزف هناك طيلة ثماني ساعات، حيث رفض الأطباء التدخل بحجة أن حالته خطيرة وتستوجب نقله، على الفور، إلى العاصمة صنعاء، إذ إن الرصاصة تسببت في تمزقات في الأوعية والشرايين”.

تعذر نقل حبيب إلى العاصمة صنعاء بسبب سوء حالته الصحية، لكن عائلته، ورغم تردي ظروفها المادية الصعبة، قامت بنقله إلى مستشفى خاص. أدخل حبيب، فور وصوله للمستشفى، إلى قسم العناية المركزة، وعقب أربع ساعات من مكوثه في العناية نقل إلى غرفة العمليات حيث أجريت له عملية لتثبيت العظم المتفتت وربط الشرايين والأوردة الممزقة كما تم إخراج الرصاصة من ضلعه الأيمن.

أُخرج حبيب من غرفة العمليات إلى غرفة العناية المركزة، حيث أسندت إلى أجهزة دعم الحياة، مهمة إبقائه على قيد الحياة.

يتابع بدر الدين: “تقدمنا بعدة شكاوى، لكن دون فائدة. بقي القاتل طليقًا، بينما قبض الأمن على السائقين اللذين تعاركا وتسبّبا بالجريمة، لكن مطلق النار ما يزال حرًّا. لا أعرف ما الذي عليّ فعله؟ أيهما أهمّ وأوجب؛ متابعة الجهات الأمنية للقبض على القاتل، أم مرافقة أخي ومتابعة حالته الصحية!”.

كان محافظ المحافظة المعيّن من قبل سلطة صنعاء، وخلال زيارة قام بها إلى المستشفى، وعد بدر الدين، بأن السلطة المحلية في المحافظة ستتحمل كافة تكاليف العلاج، لكن شيئًا من الدعم الموعود، لم يصل.

يضيف الأخ الحائر: “قام المحافظ بزيارة أخي إلى سريره في العناية المركزة، وخلال زيارته اتصل بمدير أمن المحافظة وأمره بسرعة القبض على الجاني، كما وعدنا أيضًا بتحمل كافة تكاليف العلاج. لكن القاتل ما يزال طليقًا حتى الآن ولم يصلنا أي دعم لمواجهة تكاليف العلاج، إلا 100 ألف ريال قدمها مكتب التربية والتعليم بالمحافظة، ولا شيء آخر”.

ويواصل حديثه قائلًا: “زارنا في المستشفى أيضًا، أبو علي المتوكل، مدير أمن مديرية المشنة، وأخبرني أن مطلق النار أحد أفراده، وأن عليّ أن أطمئن، فلا شيء يستوجب القلق. قال لي ذلك وانصرف، ولم أرَه منذ ذلك الحين وحتى الآن”.

بقي حبيب في العناية المركزة وجهاز التنفس ينوب عن رئتيه في مهمة مد دماغه وأنحاء جسمه بالأكسجين اللازم لإبقائه على قيد الحياة. وفي مساء يوم الجمعة ٩ أبريل/ نيسان 2021، فارق الحياة.

رحل حبيب عن الدنيا مبكرًا، وأبكر منه الطفل عبود، وتحول عرس مشيرة إلى مأتم على إثر مقتل أبيها وجدتها؛ وهؤلاء ليسوا سوى نموذج مصغر لضحايا السلاح المنفلت في “مدينة السلام” التي لم يعد سكانها ومرتادوها يأمنون على أرواحهم من حاملي السلاح وتصاعد نزعة استسهال إطلاق النار وسط الشوارع المزدحمة بالبشر.

وأمام استمرار هذه الظاهرة وسقوط المزيد من الضحايا، كل ما يمكن أن يقال سيبدو هشًّا ومتداعيًا وبلا قيمة، طالما والقتلة طلقاء والعدالة بعيدة المنال، شأنها شأن الحلم بوطن آمن وخالٍ من السلاح

.•••خيوط هي منصة الكترونية مستقلة تقدّم محتوى إعلاميًّا ومعرفيًّا عن اليمن في سياقه المحلي، وارتباطاته في السياق الإقليمي والدولي.

المادة خاص بمنصة خيوط

ضع اعلانك هنا