همس اليراع
غزة . . صراع بين سيكولوجيتين
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ عيدروس نصر
ما يدور في غزة الفلسطينية وفي فلسطين عموماً هو صراع متعدد الأبعاد والخلفيات والوسائل والأهداف، لكنني سأتوقف عن الفارق بين السيكولوجيتين اللتين تتواجهان في الميدان وفي المواقع وحتى في الشوارع والبيوت (أقصد بيوت الإسرائيلين) أما الفلسطينيون فقد أصبح أغلبهم بلا بيوت، ومعظمهم أصبح الشارع المكشوف على القذائف والصواريخ والطيران والقنابل الفوسفورية والحرارية الإسرائيلية المحرقة هو بيتهم المشترك.
سيكولوجية الجندي وحتى الضابط، ومعهما المواطن الإسرائيلي تقف على أرضية الوعود البراقة التي تعهدت لهم بها قيادات الحركة الصهيونية منذ هارتزل في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عند إعلان الحركة الصهيونية حتى بنيامين ناتانياهو وبلغفيروسموتريتش وإيلياهو، أعني الوعود بالرفاهية والحياة المديدة والاستقرار والازدهار في “أرض الميعاد” التي توافد إليها يهود العالم من أقطار الدنيا المختلفة.
إن المقاتل الإسرائيلي الذي يمارس قتل الأطفال والنساء والعجزة وكل المدنيين الفلسطينيين ويعتدي على أملاكهم وأراضيهم ومنازلهم، إنه يفعل كل هذا لكي يضمن عيش حياة الرفاهية التي وعده بها قادته، وحينما يصاب أو يُقتَل يغدو الأمر بالنسبة لأهله وحتى لحكومته كارثةً لا تضاهيها كارثة، وهو لذلك يذهب إلى المعركة مرعوباً خائفاً من الإصابة أو الموت، ولولا الاستقواء بالطيران والمدفعية والمركافا وأسلحة الدمار الشامل لانهزم في أول معركة، وقد انهزم يوم 7 أوكتوبر لأن الأسلحة التي استخدمها الفلسطينيون لم يكن يتوقعها.
أما نفسية المقاتل و(أغلب) القادة وحتى المواطنين الفلسطينيين فقد صنعتها العذابات الممتدة منذ أكثر من ثلاثة أرباع القرن من النكبات والمعانات والتهجير والتنزيح الإجباري والاعتقال والتنكيل والقتل وانتهاك المقدسات والاستيلاء على الممتلكات بدءًا بالمنزل والأملاك الشخصية وانتهاء بالأرض وثمارها وما فوقها وما تحتها.
ولذلك يذهب الفلسطيني إلى المعركة وهو متقبل لإحدى النتيجتين النصر أو الاستشهاد.
الفلسطيني ليس انتحارياً ولا يمقت الحياة ولا يحب الموت، كما يصوره أعداء فلسطين والقضية الفلسطينية، بل على العكس، إنه مثل كل البشر يعشق الحياة ويهيم بها ويستبسل من أجل التمسك بها، لكنه يعشق حياة الحرية والكرامة والعزة أما حياة الذل والامتهان والتبعية والارتهان، فتلك هي الحياة التي يرفضها الفلسطينيون مثل كل شعوب الدنيا وهم لا يرون فرقاً بينها وبين الموت، ولذلك يفضلون الموت مرة واحدة على الموت بالتقسيط، الموت بشرف على الحياة الذليلة المهانة.
من المؤكد أن إسرائيل تتفوق في أدوات البطش والقتل والسحق والتدمير، ولذلك سنكون واهمين إن اعتقدنا بأن الأمر سيسير بسهولة نحو انتصار القضية الفلسطينية، لكن ما لا يعلمه الكثيرون، وهو ما لم يتحث عنه الإعلام العالمي المسيطر عليه من قبل الإعلام والمال الصهيوني وأنصار الحركة الصهيونية هو أن المجتمع الإسرائيلي يعيش حالة من الرعب والهلع وإن الخوف هو الرديف الملازم لحياة الإسرائيليين داخل كل منزل، وأن مطار بنجوريون يكتظ بمئات الآلاف من طالبي السفر ومعظمهم من الشباب والقريبين من أعمارهم، ممن وعدوا بالرفاهية والسكينة والدعة فوجدوا نظراءهم إما قتلى أو أسرى لدى المقاومة الفلسطينية، وهو ما لا يتقبله المواطن الإسرائيلي ولا أهله ومقربوه.
النفسية الإسرائيلية المبنية على ادعاء التفوق العرقي والتميز الديني تغرس في أصحابها نزعة العدوان والرغبة في القتل تنفيذا لتعاليم مترجمي التوراة لكنها بنفس الوقت تكرس ثقافة الاستهلاك والمتعة والاسترخاء وهذا ما لا يتوفر ولن يتوفر على أرض فلسطين في ظل شعب ملاصق لهم يبحث عن أرضه وحقه في الحياة التي يتطفل عليها المستوطنون، ومغظم سكان إسرائيل من المستوطنين، وفي تصوري أنه في المعركة مع الفلسطينيين، لو تعرض ألف جندي للقتل أو الأسر سيرحل ملايين الإسرائيليين إلى بلدان آمنة ومعظمهم سيعودون إلى البلدان التي وفدوا منها أو وفد منها آباؤهم وأجدادهم بعكس الفلسطينيين الذين يقضي عشرات آلاف الأسرى منهم في سجون الاحتلال الإسرائيلي الذين أمضى بعضهم قرابة نصف قرن أسرى وبلا محاكمة، ويفقدون كل يوم المئات من أهاليهم وأطفالهم ونسائهم وأجدادهم ومع ذلك يتشبثون بأرضهم ويمضون على طريق استعادة حقهم التاريخي.
لذلك قد لا يطول الزمن على اليوم الذي ستنقلب فيه المعادلة وتنكسر فيه سطوة المدفعية والقنبلة والطائرة الإسرائيلية وتعلو فيه راية السلام والتعايش بين أهل فلسطين الحقيقيين من المسلمين واليهود والمسيحيين.
فإن يكُ صدر هذا اليوم ولَّى
فإنَّ غداً لــــــــناظره قريبُ