ضع اعلانك هنا

الغناء لغزة… شذرات صوتية ضد النسيان

الغناء لغزة… شذرات صوتية ضد النسيان

جمال حسن (العربي الجديد)

 

حدّت حرب الإبادة على غزة من تدفق المشهد الغنائي العربي السائد؛ إذ أعلن عدد من الفنانين إلغاء حفلاتهم. وفرض العدوان توقفاً في عجلة الإنتاج الموسيقي بدافع التضامن، أو لحسابات مرتبطة بالسوق، لتحضر أغانٍ موضوعها فلسطين والمقاومة. كل عدوان إسرائيلي على الشعب الفلسطيني، يمثّل حرباً على الذاكرة. حرب تسعى إلى محو الكلمات والأسماء والوجوه. في هذا السياق، نتساءل: هل جاء الغناء العربي، بحجم اللحظة الراهنة، ليُمثل القضية الفلسطينية؟

 

جعل الاحتلال الإسرائيلي من غزة أكبر “سجن مفتوح” في العالم، فارضاً على أكثر من مليوني مدني عقوبة الموت، أو الانتظار المروع له. تُرى، ماذا قالت الأغاني الصادرة؟ هل حاولت أن تكون صوتاً ضد النسيان؟ سواء كانت هذه الأغاني دعماً للمقاومة وحرية فلسطين، أو لتصوير ذاكرة الجريمة، أو لإطلاق صوت ألم الأطفال والمواطنين الأبرياء.

 

كان السؤال الأول: أين هو ضمير العالم؟ وكيف غابت الخطابات المتشدقة بحقوق الإنسان، لتُهدِر الإنسان في فلسطين؟ أكثر من أغنية حاولت طرح هذا السؤال. من أبرز هذه الأغاني “يا ضمير العالم”، للشابّتين عاليا صبحي ووعد. ليس للأغنية أهمية تُذكر سوى أنها من ألحان المصري عزيز شافعي. عدا ذلك، لم يحضر في الأغنية أي عمق فني، أو تعبير شعري؛ فجاءت بكلام سطحي وألحان مستهلكة.

 

وتكاد تكون أغنية “راجعين” هي العمل الأبرز والأكثر رواجاً، بين الأعمال الغنائية الصادرة دعماً لغزة؛ إذ لاقى استماعاً جماهيرياً كبيراً. تمثل الأغنية الأصوات الجديدة، بمشاركة 25 فناناً عربياً، أبرزهم أمير عيد ومروان بابلو وغالية شاكر ونوردو. اللافت أن الجميع يمثلون معظم الخارطة العربية، من الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، ومن المغرب العربي مروراً بمصر والسودان وبلدان الشام والخليج.

 

حاولت الأغنية التعبير بكلام مباشر، وبمضامين عادية، شملت مواضيع مختلفة حول القضية الفلسطينية والحدث الراهن. يشمل الكلام أكثر من مضمون، يستهلها موضوع المعاناة والقتل والتهجير.

 

يُستهل الغناء بتوظيف إلكتروني، ومؤثرات صوتية، ليبتدئ بصوت مخنوق، ليس أكثر من اندماج تام بغناء مصطنع مؤتمت، لتتضح الأصوات التي لم تستغنِ عن المؤثرات. فيكون دور المؤثرات بديلاً للتعبير اللحني في بعض المسارات.

يحتوي الأوبريت لهجات مختلفة من العالم العربي، مع فقرات من الغناء الفصيح. وهناك أكثر من بيان سياسي، سواء انتقاد الموقف الغربي وعنصريته، وكذلك انتقاد مباشر للقادة العرب لخذلانهم قطاع غزة.

 

فيما الغناء يشمل اتجاهات الشباب المشاركين، مع أشكال متنوعة من الغناء البديل والسائد. فنرى البوب والراب، والفولكلور والشعبي، والترنيمي المُشبع بالحزن، وحدية الأصوات الرافضة، وكذلك اللحني يجاور الإلقائي. يبدو العمل أشبه بكوكتيل، يجمع فقرات لحنية مختلفة، كتلك التي تُقدم في حفلة. فيتخلّق أكثر من مزاج؛ بطيء وسريع، وهارد وسموث. وتلك الشذرات السريعة والوامضة يوحدها الموضوع الفلسطيني، وليس البناء اللحني أو الدرامي.

 

ربما يكون العمل مشغولاً بالجانب البصري أكثر منه في البناء اللحني، لينم عن ارتجال، وإن اتسم بتنسيق معقول تدرجت فيه بعض التنقلات اللحنية. تختتم الأغنية بكلمات من أغنية للفنان سميح شقير “لو رحل صوتي ما ترحل حناجركم”، لكن بلحن مختلف من الفولكلور الفلسطيني. اللافت أن الجيل الجديد هو الأكثر حضوراً في الغناء لغزة، خلافاً للنجوم البارزين الذي اكتفى كثير منهم بالتعبير عن مواقف متضامنة.

 

بدوره، قدّم أحمد سعد أغنية بعنوان “غصن الزيتون”، من ألحان محمدي على مقام الكرد. تأتي الأغنية بمزيج من المسحة الشعبية المألوفة في غناء الدراما المصرية. لكن نبرة العاطفة المتألمة تحاول التأكيد على وقع المأساة وحق العودة إلى فلسطين. هي نفس الثيمة المأخوذة بها ثقافتنا العربية.

 

يحضر عنصر آخر، أصبح أكثر وضوحاً في المشهد الغنائي الحالي عن فلسطين، والمنسوج بالواقع السياسي، وهو التساؤل عن غياب الضمير والعدل. حتى إن ذروة التصعيد تبلغ عند “جاوبوا يا ناس فين الضمير”، ثم يأتي الانفراج عند “الاحتلال لو مهما طال الانتصار هو المصير”.

 

ضمن هذا السياق، نرى الفنان محمد عدوية أكثر التصاقاً بالغناء الشعبي، مقارنة بسعد، كما في أغنية “أرض غزة” التي أصدرها الشهر الماضي للتضامن مع الفلسطينيين.

 

هذا التماهي مع السائد، يقتفيه الملحنون. لكن خلافاً لعزيز شافعي الذي قدم لحناً لفنانتين مغمورتين، قدم الملحن المصري محمد رحيم من غنائه وألحانه “الحكاية إنسانية”.

وكما هو الحال بالنسبة لواقع عربي باهت، يمثله الموقف السياسي، سنرى الغناء للقضية الفلسطينية بلا سمات. وهو ما تمثله الألحان السائدة، سواء مع الفنانين غير المعروفين، أو أولئك الأكثر شهرة، وإن لم يكونوا ضمن نجوم المقدمة، من ديانا كرزون إلى حمزة نمرة.

 

وهذا الأخير، قدم “الاسم مصر”، وهي رسالة موجهة للاحتلال تتضمن تحذيراً باسم الشعب المصري. أي أن هناك شعباً مصرياً هو من ستواجهه إسرائيل. ويؤكد فيه بشكل غير مباشر وقوف أغلبية الشعب المصري مع أخوتهم في فلسطين. على أن اللحن ينم عن بيان انفعالي باهت، لا أكثر.

 

القاهرة

موسيقى

مطربو المهرجانات… غزّة أغنيةً شعبيةً

هذا الغناء ينساق مع كثير مما هو رائج عن الشعب البطل، وغير ذلك من المسميات. هي تعابير تقفز عن المعاناة التي يواجهها مواطنو غزة، من آلام ومآس. آلاف الأطفال والمدنيين يموتون، ويروعون يومياً في المذبحة التي ترتكبها إسرائيل. والغناء يعكس حالة التعاطف والألم المنسوجة بموقف داعم للمقاومة، يستجدي نصرها وصمودها.

 

لم يعد الغناء لفلسطين اليوم مستقلاً عن الرائج. فألحانه لا تختلف عن البوب والغناء الشعبي، ونفس الأمر بالنسبة للاتجاهات البديلة مثل الراب والمهرجانات. من ناحية أخرى، تنم معظم الأعمال الغنائية عن موضوع غزة وفلسطين، عن سباق لتسجيل حضور. والغالب عليها التسرع والارتجال، ما يجعل ملامحها ضائعة.

 

هل للأمر علاقة بأننا نعيش في عصر أكثر بصرية، يموت فيه اللحن في المشاهد اليومية للمذابح، وأمام تلك الأصوات التي تتحدث عن انعدام الاحتياجات الأساسية من ماء وغذاء ودواء ووقود؟ هكذا، لا نرى أغاني تعطي المشهد بعض ما يستحقه، لحناً وموضوعاً.

 

مع ذلك، يؤكد الغناء العربي حضوره في حرب الذاكرة. بمعنى أن الغناء عن فلسطين لن يتوقف، وإذا اختفى الغناء الرسمي، فإنه سيحضر في أكثر من مسار بديل. وإذا غاب عن محترفي الغناء، فستصيغه جماهير الأندية العربية. لا ننسى أغنية “رجاوي فلسطيني” التي ترنم بها جمهور “الرجاء” في المغرب، تضامناً مع غزة في 2019.

 

من جهة أخرى، نحن نشهد عصراً تعمل فيها بعض السياسات على إخفاء صوت القضية الفلسطينية. لا يقتصر الأمر على إقامة موسم الرياض، واستمرار وجه الترفيه، وكأن ما يحدث في غزة شأن ثانوي. إنما أيضاً، بالتحريض ضد من يعلن تضامنه مع أحداث غزة، معتذراً عن المشاركة في عروض موسم الرياض.

 

هكذا أيضاً، حرصت المملكة على تقديم حفلة عنوانها “ليلة بليغ حمدي”، بينما غزة تواجه واحدة من أشنع المذابح. وللمفارقة، فإن بليغ حمدي هو من قاد الغناء الوطني والقومي، بما في ذلك المتصل بفلسطين، ضمن الشائع والسائد، وهو توجه استهله في أغنية “عاش اللي قال” بعد نصر أكتوبر 1973. فالجمل الراقصة اختلطت بموضوع القضية.

 

يمثل موقف الفنانين جزءاً من إحياء القضية. ربما هناك أشكال من العقاب حول العالم، تماهت معها بعض الأنظمة العربية، للحد من تلك الأصوات، وتمزيقها. لكن سنرى الفنان الشاب ويجز، يصر على الهتاف مع جمهوره تضامناً مع غزة، وسط مسرح في كندا، في أواخر أكتوبر/ تشرين الأول الفائت. كما أنه يوثق مشاركته في تظاهرة تتضامن مع فلسطين في نيويورك.

 

لكن القضية ومعاناة الفلسطيني، بحاجة إلى وجه مختلف من الغناء بحجم القضية. ربما بحاجة لفن موسيقي أكثر تكثيفاً للواقع الفلسطيني، بعيداً عن الرائج والمُستهلك. يبدو أن الغناء يعكس صورة للتدهور السياسي والاجتماعي العربي

ضع اعلانك هنا