ضع اعلانك هنا

بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي ، الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (5-6)

بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي ، الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (5-6)

 

بلال الطيب

 

«أنا لكم ما شئتم، إمام أو سلطان»، قالها الناصر صلاح الدين محمد لفقهاء مذهبه الذين اعترضوا عليه بعد وفاة والده المهدي علي بن محمد ربيع أول 774هـ / سبتمبر 1372م؛ وذلك لعدم اكتمال شروط الإمامة فيه، سيطر بالقوة على الأمر، واشترى الإمامة – كما ذكر المُؤرخ ابن فند – من الواثق المُطهر بن محمد، مُقطعًا الأخير بعض الأراضي مُقابل ذلك، ثم مضى في حكمه الدموي مُسجلًا في المناطق الوسطى وتهامة فُصولًا سوداء من القتل، والتدمير، والنهب، مُكملًا ما بدأه أبوه، وبصورة أشد فظاعة.

 

كان الإمام الجديد – بشهادة كثير من المُؤرخين – مُغأمرًا مُتهورًا، لم يكل ولم يمل من مُقارعة خصومه، والتنكيل بهم، استغل ضعف الدولة الرسولية، وكثرة الخونة والمُتربصين من حولها، ووحد القبائل الشمالية، وأمن جانبها، وقادها ووجهها جنوبًا وغربًا من أجل القضاء على تلك الدولة المُنهكة، إلا أنَّ محاولاته باءت بالفشل.

 

الجهة الأضعف

 

يُعد الشيخ أبو بكر السِّـيري من أبرز أعيان المناطق الوسطى الذين تمردوا على الدولة الرسولية، استقل بجبل بعدان قبل 20 عامًا، ليعمل السلطان المُجاهد علي، ومن بعده الأفضل عباس على التخلص منه، نجح الأخير في قتله ذي الحجة 775هـ / يوليو 1374م، فاستنجد ولده محمد بالناصر صلاح الدين.

 

لبى الناصر صلاح الدين تلك الدعوة، وجهز في رمضان من العام التالي (فبراير 1375م) جيشًا عظيمًا قاده بنفسه، التقى بالسِّيري في إب، ثم تقدما في وقت واحد صوب تعز، خيما بالجند لثلاثة أيام، تَعرضا لمقاومة عنيفة من قبل السكان، وحين أدرك الإمام أنَّ السلطان قد أعد العدة لملاقاتهم؛ انسحب من طريق آخر، تَاركًا من استنجد به لمصيره، فما كان من الأخير إلا أنْ عاد إلى بعدان مُنكسر القوة والخاطر.

 

كانت تهامة بنظر الناصر صلاح الدين الجهة الأضعف، توجه إليها منتصف عام 777هـ، لم يعترض طريقه أحد، استباح عساكره مُمتلكات المواطنين، وخربوا دورهم، ومزارعهم، ونهبوا كل شيء وجدوه أمامهم، استعد والي زبيد الأمير أمين الدين أهيف للمُواجهة، استنجد بمشايخ المناطق المجاورة، فأمدوه بالرجال، وبالسلاح، وما أنْ رأى الإمام تلك الحشود حتى راعه المشهد، فخفَّ حماسه، وحماس من قَدموا معه.

 

نقل لنا المُؤرخ الخزرجي – الذي كان حينها حاضرًا – جانبًا من تفاصيل تلك المعركة، قائلًا: «حصل قتال بين عسكر الإمام وأهل المدينة، فبينما الناس يقتلون، إذ خرج رجل من زبيد عظيم الخلقة، طويل القامة، على فرس كأعظم ما يكون من الجمال، وعلى الفرس والفارس ثياب كلها خضر، وحوله من الناس جمع كثيف، فلما خرج في جمعه ذلك ورآه العسكر انهزموا بين يديه، فتبعهم، فتوجهوا شمالًا، ولم يلتفت منهم أحد، فكان آخر العهد بهم». وذكر مؤرخ مجهول أنَّ ريحًا عاتية هبت على الناصر صلاح الدين وجنوده في طريق عودتهم، وقتلت منهم نحو 1,300 رجل.

 

توجه السلطان الأفضل عباس في العام التالي إلى زبيد، وفيها كانت وفاته 21 شعبان 778هـ / 3 يناير 1377م، فخلفه ولده الأشرف الثاني إسماعيل، وكان عمر الأخير آنذاك 17 ربيعًا، اضطر إلى خوض عدد من المعارك لإصلاح ما أفسده الدهر، وكان عهده أكثر استقرارًا من سلفه، تمامًا مثلما كان عهد والده أكثر استقرارًا من عهد جده.

 

كانت صنعاء خلال تلك الحقبة خاضعة للحمزات، دخلها الناصر صلاح الدين دون حرب 784هـ، وذلك بعد مرور عامين من زواجه بوالدة الأمير إدريس بن عبدالله الحمزي، أسر الأخير لبعض الوقت، ثم اصطلحا، فيما هرب الأمير داؤود بن محمد الحمزي إلى السلطان الرسولي، وبقي في ضيافته حتى وفاته.

 

بعد خمس سنوات من الصراع، تم الصلح بين السلطان إسماعيل وبين الإمام صلاح الدين، إلا أنَّ الأخير نقضه بعد مرور خمسة أشهر، وعاد لغاراته الجنونية، وحروبه العبثية، توجه صوب تهامة للمرة الثانية، وعاد منها خائبًا، ثم توجه بحملة كبرى قاصدًا تعز، وحين علم باستعدادات الرسوليين للدفاع والمقاومة؛ استقر بجبلة، خربها، ونهبها شعبان 787هـ / سبتمبر 1385م، وعاد أدراجه أيضًا خائبًا.

 

يوم المنقب

 

كغيره من الأئمة، كانت للناصر صلاح الدين محمد حروب كثيرة مع الإسماعيليين، معركة (المنقب) في همدان كانت الأشهر 788هـ، وصل عدد القتلى فيها إلى أكثر من 1,000 قتيل، وقيل أقل من ذلك، وعنها قال صاحب (غاية الأماني): «فلم يكن بأسرع من أنْ دخل عليهم جند الإمام، وحكموا فيهم السيف الصمصام، حتى أتى القتل على آخرهم، ولم ينج منهم أحد، وكان يومـًا عظيمًا اضطرب منه اليمن بأسره، وذلت رقاب همدان لما وقع بهم من عقاب الله وزجره»، وعن تلك المعركة قال جمال الدين الهادي بن إبراهيم الـوزير:

واذكر لنا فـتـح الإمام محمـد

بلد الطغــام الفرقـة الأنـجاس

أفنى الإمام الباطنية عـن يـدٍ

ومحى رسوم الكفر والأدناس

الناصران من الأئـمـة دمـــرا

فرق الردى والكفر شر أنـاس

يوم كنغاش والمنـقـب ألبسا

فرق الضلال ملابس الإبلاس

 

كان الإسماعيليون حينها متواجدين بكثرة في همدان، وثلا، وبني حشيش، وحراز، ويريم، وريام، وإلى الأخيرة توجه الناصر صلاح الدين رمضان 789هـ / سبتمبر 1387م، وعن ذلك قال المُؤرخ الخزرجي: «فنهب منها مالًا جليلًا، وقتل من أهلها طائفة، وقتل من أصحابه طائفة، ولما رجع الإمام عنها قصد عسكره إريابًا – بالقرب من يريم – فأتلفوا زرعه، وقاتلهم أهل إرياب، وقتلوا منهم جماعة، ونهبوا كثيرًا من خيامهم، وأزوادهم، وأثقالهم».

 

عدن – ثغر اليمن الباسم – لم تسلم هي الأخرى من مُغامرات الناصر صلاح الدين، وطيشه، توجه إليها أواخر ذات العام بجيش كبير، حاصرها لمدة 12 يومـًا، ولما دنت عساكره من بابها، تقدم أحد قادته وكان مشهورًا باقتحام الحصون، فرُمي بصخرة كبيرة حتى خرَّ صريعًا، ورجع الإمام وعسكره خائبين مهزومين بعد أنْ فتكت الأوبئة بأكثرهم.

 

موعد مع الجحيم

 

قُدر لتهامة أن تدفع ثمن الجنون الإمامي أكثر من غيرها، سكانها بسطاء، وتضاريسها سهلة، وتحصيناتها هشة؛ أسبابٌ اجتمعت وجعلت الناصر صلاح الدين يشحذ الهمم للسيطرة عليها أكثر من مرة، تحرك إليها بجيشٍ هو الأكثر عددًا وعدة جمادى الآخر 791هـ / يونيو 1389م، وانضمت إليه وهو في طريقه إليها عدد من القبائل المُتمردة.

 

قويت بذلك شوكة الإمام المُغامر، وزادت عزيمته، اقتحم حرض، ثم المحالب، ثم المهجم على ضفاف وادي سُردد، ومَارس في كل منطقة سلوكه المُحبب في التدمير والنهب؛ الأمر الذي أثار الرعب في سكان تهامة والـمناطق الوسطى قاطبة، وكثرت الأراجيف، وظن الجميع – حينها – زوال الدولة الرسولية وإلى الأبد.

 

كان السلطان الأشرف الثاني إسماعيل حينها في زبيد، استقبل ولاته وعساكرهم الهاربين، واستعد لمعركة الدفاع عن عاصمة دولته الثانية جيدًا، استدعى الإمدادات، وأمر بزيادة التحصينات، وحفر الخنادق.

 

حصلت في البدء مُناوشات محدودة في أطراف المدينة المحاصرة، كبدت الإماميين الكثير من الأرواح، قدرها الخزرجي بـــ 50 فردًا، ظن الجميع حينها أنَّ الإمام المُغامر ولى مُنهزمًا، غير مدركين أنَّ الحرب خدعة، وأنَّ المعركة الحقيقية لم تبدأ بعد، حتى السلطان إسماعيل نفسه خُدع بالأمر، وعاد إلى مدينة تعز ومعه حشد كبير من عساكره، وحاشيته، وصارت زبيد بفعل ذلك التصرف على موعد مع الجحيم.

 

استجمع الناصر صلاح الدين – نيرون ذلك العصر – بعد أقل من شهر قبحه، وتوجه إلى زبيد مُوزعًا عساكره على أبوابها الأربعة، وابتدأ النشابة بصب سهامهم على نوبات الحراسة، لتقتحم المدينة من الباب الغربي الأقل تحصينًا، هرب العسكر الرسولي، وكانوا قلة، وتركوا المدينة المنكوبة ومواطنيها لقدرهم المحتوم.

 

غادر السكان منازلهم على وقع عويل النساء، وصراخ الأطفال، فيما بقي الرجال للدفاع والمقاومة، وقد استطاعوا بأسلحتهم المتواضعة أن يخرجوا القوات الإمامية إلى خارج أسوار المدينة؛ الأمر الذي أغضب الناصر صلاح الدين، وأشعل نار حقده، ولكي يطفئ ذلك، أمر بإحراق القرى المجاورة، فاشتعلت النيران، وأخذتها الرياح حتى زبيد، فأحرقت المدينة، وطمست كثيرًا من معالمها المائزة.

 

ابتدأ الجنود الرسوليون يتوافدون بقيادة الأمير بهاء الدين الشمسي لإنقاذ المدينة المحروقة، وتحرير تهامة، دارت مواجهات مُتقطعة خسر فيها الناصر صلاح الدين حوالي 80 فردًا، أحدهم صهره، وحين أدرك ألا طاقة له بمواجهة تلك القوات، عاد أدراجه من نفس الطريق التي أتى منها، ولم يعد إليه صوابه.

 

قال صاحب (مآثر الأبرار) مُتباهيًا بما فعله سيده: «وكان الإمام صلاح قد دوخ بلادهم وأخربها – يقصد الرسوليين – وحمل من أبواب زبيد وغيرها أشياء كثيرة، حتى روى لي بعض الأصحاب: أنَّ مقدمة من القرآن فاخرة غنمها فقيه من أهل يسنم.. وكذلك ذكر لي بعضهم: أنَّ الشباك الحديد الذي فوق بيت من بيوت مسجد الهادي، وهو مركب فيه إلى جهة المطراق شاميًا من بعض بيوت قرى زبيد».

 

بعد ثلاثة أشهر من تلك المعركة، تم الصلح بين الأشرف الثاني إسماعيل، ومحمد السِّيري، واتحد الاثنان لإعادة المناطق المُتمردة لكنف الدولة الرسولية؛ الأمر الذي أغضب الناصر صلاح الدين، فحشد الحشود القبلية، واقتحم بهم جبلة للمرة الثانية، استعد السلطان الرسولي للمواجهة، وطلب من أهل البلاد مساعدته، ولولا وصول المدد في الوقت المناسب لمني بهزيمة نكراء؛ بسبب موالاة بعض القبائل التي اعتمد عليها للإمام نيرون.

 

انسحب الناصر صلاح الدين إلى ذمار، وأرسل في نفس اليوم حملة عسكرية إلى تهامة، وكان الموت مصير قائدها، وأغلب أفرادها، وفي العام التالي توجه صوب مدينة جبلة للمرة الثالثة، وعاد منها مهزومًا، ودون أن يحقق مراده.

 

مع بداية عام 793هـ توجه الناصر صلاح الدين محمد بن المهدي علي إلى بعدان، بلاد محمد السَّيري، الذي استنصره بالأمس، مارس فيها جنونه، من قتل، ونهب، وتخريب، فجادت السماء بغيثها، وتجمعت المياه على الطرقات، وجعلتها أكثر وعورة؛ الأمر الذي سهل لأبناء البلد أنْ يصدوا توغل تلك الحملة، ويقتلوا الكثير من أفرادها، توجه الإمام بعد ذلك إلى الشعر، وهناك أخرج غله وحقده على سكان تلك المنطقة، وحين لم يظفر بها؛ عاد أدراجه خائبًا كعادته.

 

أجمع كثير من المُؤرخين أنَّ الناصر صلاح الدين كان أقرب للملك من الإمامة، اشتهر بكرمه وسخائه، وباهتمامه بالبناء، مُجاريًا الرسوليين، وشهد عهده نهضة عمرانية في صنعاء، وذمار، وعنه قال صاحب (غاية الأماني): «ومن مبانيه العجيبة قصر ظفار الذي ليس له نظير في قطر اليمن، إلا القصر الذي بناه المُؤيد الرسولي في ثعبات».

 

وهو رغم ذلك اشتهر بتعصبه المذهبي، وسعى بكل ما أوتي من قوة وحقد على إجبار كثير من سكان المناطق الشافعية على اعتناق المذهب الزيدي، وخُطب له – كما ذكر بعض المُؤرخين – في ينبع، وتهامة، والشحر، وعسير.

 

والأسوأ من ذلك أنَّه كان جبارًا جريئًا في سفك الدماء، وحين قام سكان آنس بقتل عامله عليهم، قتل منهم 70 رجلًا، وأخذ منهم سبعين دية، وفيه قال أحد الشعراء:

لولا حسـامك يا ابـن الشم مـن مضر

ما كان في عين ديـن المصطفى نظر

بيــــنـــت منـهــاجــــه للسالكين بــه

مــــن بعــد ما كان لا عيــن ولا أثر

ودست هامات أهل البغي فانصرعوا

قــتـــلى ومأواهم من بـعــد ذا سقر

قضـى لك السـعـد والأيام شـاهـدة

فصار يجري على ما تشتهي القدر

 

نهاية طاغية

 

الطغاة من أمثال الناصر صلاح الدين لا يستسلمون إلا لحتفهم، تأخذهم العزة بالإثم حتى النهاية، ولا وجود للتوبة في قاموسهم! وقد كانت الوجهة الأخرى والأخيرة لهذا الطاغية بني شاور من بلاد لاعة رجب 793هـ / يونيو 1391م، حيث الفقيه الشافعي شهاب الدين أحمد بن زيد الشاوري.

 

كان هذا الفقيه مناوئًا لـلأئمة، كثير الانتقاد لمذهبهم، وصنف مُختصرا في ذلك، كما أنَّه منع أبناء منطقته من ترك المذهب الشافعي، بعد أن أجبرهم الناصر – وأجبر غيرهم – على اعتناق المذهب الزيدي؛ ولأجل ذلك هاجمه ذات الإمام، وقتله هو وولده أبا بكر، وأخوته، وطائفة من فقهاء مذهبه، وخرَّب ونهب بلده، وكان فيها أموال كثيرة مودعة عنده؛ لثقة الناس به، وقد رثاه إسماعيل المقري بقصيدة طويلة خاطب بها ذلك الإمام الطاغية قائلًا:

أراني الله رأســـــك يــــا صــلاح

تــــداولــه الأســنـة والـــرمــــاح

لقـــــد أطـفـــأت للإســلام نُـــورًا

يضـــــيء العـــلم منـه والصلاح

فـلا تفــرح لسفـك دم ابـــن زيد

فمـا يرجى لقـــاتـــــلــــه صلاح

ألا شَلَّتْ يـمــيـــنــك يـا صــلاح

وعجــل يـومــك القــدر الـمتاح

 

استجاب القدر، وتحققت عدالة السماء، ولم يكد الناصر صلاح الدين محمد يُتم رحلة عودته، حتى سقطت به بغلته، وافتك وركه، وانكسر كعبه، ودخل به إلى صنعاء محمولًا، وكانت بعد ذلك ببضعة أشهر نهايته 3 ذو القعدة 793هـ / 1 أكتوبر 1391م، عن 54 عامًا، أخفى أهله خبر موته لأكثر من شهر؛ كي يستتب الأمر لولده الأكبر علي من بعده، وقيل غير ذلك.

 

رب ضارة نافعة، ولولا وفاة الناصر صلاح الدين، وعودة الصراع والتنافس الزيدي – الزيدي، ما استعاد الرسوليون عافية دولتهم، وما امتد عمرها حتى عام 858هـ، تاريخ نهايتها المحتوم على يد أصهارهم الطاهريين – كما سيأتي – وكأنَّه قدر لسكان المناطق الوسطى، وتهامة ألا يرتاحوا وينعموا بالأمن والأمان إلا إذا اختلف وتحارب الإماميون!

 

.. يتبع

ضع اعلانك هنا