ضع اعلانك هنا

البرقاوي الذي أيقظني من سباتي : بمناسبة عيد المعلم…

•• استاذ دكتور / قاسم المحبشي…

عميد بيت الفلسفة العربية بالفجيرة وأستاذ الفلسفة في جامعة دمشق ونائب رئيس الاتحاد الفلسفي العربي ورئيس مركز المستقبل العربي ورئيس قسم الفلسفة في جامعة دمشق وأستاذ الفلسفة والفكر العربي الحديث في الدراسات ورئيس قسم الفلسفة في الموسوعة العربية وعضو في جمعية الفلسفة العربية وعضو في الجمعية المصرية للفلسفة وعضو في الهيئة الاستشارية لمجلة الفكر العربي الحديث. بيروت وعضو مؤسس في شبكة التسامح…

وقد علمت أنه أسس المركز العربي للفلسفة العربية في لندن التي يقيم بها حاليا. أحمد نسيم برقاوي منبه لا مثيل له للأذهان، فيلسوف فلسطيني، مشرفي العلمي في رسالة الماجستير، عن الوجود والماهية عند جان بول سارتر 1995م. عرفته قبل أن التقيه عبر كتابه( محاولة في قراءة عصر النهضة6 198). كتاب صغير الحجم عظيم الأهمية. البرقاوي وحده الذي أيقظني من سبأتي الدجمائي. إذ كنت قبل التقيه مأخوذًا بسحر الأيديولوجيا الماركسية في نسختها اللينينة البرجنيفية المتصلبة. وعلى مدى عام كامل من السنة التحضيرية بالماجستير للعام الأكاديمي 1991-1992،..

كانت محاضرات الدكتور أحمد لحظة عصف ذهني فلسفي سقراطي لم اتعرض لمثلها بحياتي. إذ أكملت السنة التحضرية وقد تغيير كل شيء في قناعاتي على نحو جذري، فضلا عن إحساسي بمشاعر إيجابية في النظر إلى الكون والحياة والتاريخ والمجتمع والذات. كانت جرعة المعرفة البرقاوية اشبه بقدح زناد الذهن والروح. كانت لحظة معرفية قصيرة لكنها بالقياس إلى كل ما كنت قد تعلمته طوال المراحل الدراسية السابقة تعد الأجود والأجمل والأفيد. بعد إكمال السنة التحضيرية في الماجستير، حرصت على أن يكون الاستاذ أحمد برقاوي هو مشرفي العلمي على الرسالة. وسعدت بموافقته بالإشراف. كانت أزمة الوحدة اليمنية بين البيض الجنوبي وصالح الشمالي في أوجها في مطلع 1993م وكان علي سالم البيض حينها معتكفًا في معاشق بعدن…

وأتذكر أن البيض استضاف الدكتور أحمد وزملاءه الأساتذة العرب ومنهم: الراحل طيب تيزيني وحامد خليل وعبدالسلام نور الدين ونمير العاني وعبد الشافي صديق استضافهم على وجبة عشاء في دار الرئاسة، فانتظرناهم في فندق عدن حتى عادوا برفقة الاستاذ صالح باصرة رئيس الجامعة حينها. ربما كانت الساعة العاشرة. سألنا الدكتور أحمد عن انطباعه عن جلستهم مع البيض الرئيس؟ فرد باقتضاب ( الرجل انفعالي ومغرور ومكتفي بذاته وحاسمها مع نفسه وليس له بالسياسة) ثم انزوى الدكتور أحمد برقاوي برئيس الجامعة وأوصاه بضرورة قبولي عصورًا في هيئة التدريس المساعدة بكلية الآداب، فأومأ باصره برأسه موافقا وهذا ما تم بعد سنوات. كان موعد رحلتهم إلى في فجر اليوم التالي فودعناهم على أن نلتقي بخير وسلام.بعد ستة أشهر من العمل بالرسالة ذهبت برفقة الزملاء توفيق مجاهد وعبد بن بدر وصالح مدشل لمقابلة المشرفين في دمشق. أنا وتوفيق مشرفنا الدكتور أحمد وعبده بن بدر مشرفه حامد خليل وصلاح مدشل مشرفه الطيب تيزيني..

كنت قد كتبت فصلين برسالة الماجستير سلمتها للمشرف وبعد منذ أيام بدأت في مقاربة عالم المفكر العربي المعاصر أحمد نسيم برقاوي الرحيب الأرجاء. ومازلت أجمع المادة الضرورية لبناء النسق الكتابي الذي يستحقه فيلسوف الأنا المتحررة من كل أشكال الهيمنة القطيعية والمؤسسة القامعة للذات الفردية الجديرة بالحرية والكرامة والفرح والجمال. الفيلسوف أحمد برقاوي أبن فلسطين السليبة المولود في دمشق يكتب منذ قرابة أربعين سنة، نشر خلالها سلسلة منها: : محاولة في قراءة عصر النهضة 1986 والعرب بين الأيديولوجية والتاريخ 1995 م. دمشق دار الأهالي والعرب والعلمانية 1996 دمشق معد للنشر وأسرى الوهم 1996 دمشق دار الأهالي ودفاعاً عن الأمة والمستقبل 1999 دمشق دار الأهالي. والعرب وعودة الفلسفة 2000 دمشق. دار طلاس وطلاسم أبو ماضي 2004 بيروت الذاكرة دار. الأنا 2005 دمشق دار التكوين. وكوميديا الوجود الإنساني 2009 دمشق دار التكوين والمسألة الثقافية في الوطن العربي والعالم الإسلامي في المشاركة مع رضوان السيد دار المعرفة 2006.و في الفكر العربي الحديث و المعاصر،الدار البيضاء ،بيروت ،2015. وانطولوجيا الذات. الدار البيضاء-بيروت المركز الثقافي العربي 2015…

وفي مجال الشعر والأدب صدرت له عدد من الدورين منها: “أنا” ديوان 2009 دمشق دار التكوين. لعبة الحياة” ديوان 2010 دمشق دار التكوين. شذرات اللقيط ،دار كتاب ،دبي ،2018. وقد أهداني مشكورًا معضمها في مناسبات مختلفة ولكنه لم تعد بحوزتي الآن في مهب العاصفة. ناهيك عن مئات الأبحاث والدراسات المقالات الفكرية التي ينشرها كل يوم. إذ يمتعنا الاستاذ أحمد بمقال جديد في صفحته الرسمية بالفيسبوك. فهو من حيث الإنتاج الفكري ثري إلى حد لا يصدق، فضلا عن أن كونه يتقحّم موضوعات ومجالات شائكة وجديدة فيما يكتبه لم يرتادها أحد قبله. حتى وأن كتب في الأسئلة والمعضلات الفلسفية التقليدية فهو يعيد تشكليها ونسجها بروح فلسفية برقاوية تدل عليه وعلى أسلوبه الفريد والمتميز في معالجة الموضوعات الفلسفية بروح نقدية عميقة الثقافة وعالية الجودة الأكاديمية. فمن أي الأبواب ينفتح مشهد البرقاوي؟ ومن أي النوافذ يمكننا الإطلال على عالمه الثقافي الفلسفي المترامي الأطراف والمتعدد الأبعاد؟ كتب في تعريفه ذاته ما يلي:(( نطرح فلسفة تدافع عن وجود الأنا ضد جميع أدوات قمعها تاريخيا. ضد جميع الأنظمة المتعالية على الأنا مثل؛ الأنظمة السياسية والدينية والقيمة التي تمنع ظهور الأنا الحقيقية. لكل هذه الأسباب ، ونرى أن الحرية يمكن أن تسود إذا أزيلت الفجوة بين الأنا الظاهر والأنا الخفي. ليس للأنا أي تأثير في العالم إذا لم يتحول إلى الذات لأن الذات هي انتقال “الأنا” من المجرد إلى المتعين)) ..

من هذا التعريف المختصر البالغ الدلالة والمعنى يمكننا الإطلال على فيلسوف الأنا العربي الباذخ العطاء والإنتاج الفكري والأدبي في مختلف مجالات المعرفة والفكر والثقافة. في الواقع الكتابة عن الفيلسوف النقدي أحمد برقاوي، ليست كمثل الكتابة عن أي مفكر آخر، بل هي أشبه بمغامرة محفوفة المخاطر؛ خطر الجهل بالمعنى وخطر سوء الفهم للأفكار وخطر التبسيط للابعاد والغايات الكبرى. الذي لا يعرف البرقاوي يظنه أنسانا متعجرفا ومفكرا نخبويا أرستقراطيا. لكنه في حقيقة أمره إنسان مرهف الحس الإنساني، حنونا عطوفًا محبًا للحياة والناس شديد الاعتزاز بذاتية الحرة، صارما حد القسوة مع الغباء والجهل والنفاق والتزلف، لا يطيق الاغبياء والادعياء الذين يبيعون الزيت والزيتون وليس لديهم لا زيت ولا زيتون! شعاره الأثير ( كن ذاتك ولا تتبعني) ذات يوم قدمت له فصل من فصول رسالتي بالماجستير فيها نص من كتابه محاولة في قراءة عصر النهضة قال: فيها (أن العرب تعاملوا مع التاريخ كبغلا حرون لترويضه فمكر بهم التاريخ الذي يكسر رؤوس البشر ولا يتكسر رأسه أبدًا وتساقطت احلامهم الأيديولوجية وحدة تلو أخرى فكانوا أسرى الوهم) إذ لم تخني الذاكرة..

اتدرون ماذا قال لي بعد قرأتها قال : (قاسم تحرر مني وكن ذاتك فقط! ذلك الموقف وتلك العبارة البالغة الدلالات تعلمت منهما ما لم أتعلمه من الكتب التي قرأتها.وهو بذلك يقف على الطرف النقيض من الأكاديميين المدرسيين التقليدين الذين يجبرون طلابهم اتباعهم وإحتذاء نصوصهم حذو النعل بالنعل! إذ أن الجامعة عند البرقاوي ليست مصلحة موظفين بل يعدها مقوماً أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع، ومركزاً لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة واستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية،..

وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: المتمثلة في نقل المعرفة خلال وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة وظيفة البحث العلمي أو في استخدام وتطبيق المعرفة وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة، ذلك لأن التشكيل الأكاديمي هو تشكيل غايته الكمال الأكمل، والتام والكلي المطلق المجرد، المثال الأمثل..وتأبى الأكاديمية النزول بالتشكيل عن أرقى تصميم، فهي نزوع دائم نحو الأكثر حكمة والأكثر عدلاً والأكثر جمالاً والأكثر نفعاً والأكثر صدقاً والأكثر أمانة والأكثر رقياً مهما كلف الأمر، والأمر من أعلى ما تكون الهمم ومن أرقى ما تكون معالي الأمور ذلك لان أحمد برقاوي عاصفة ثقافية نقدية شاملة تجتاح كل أنماط وأساليب ومناهج الكتابة التقليدية، فهو فكر متعدد الأبعاد وقلم متنوع الأساليب وتجربة فلسفية علمية ومنهجية لامثيل لها في البلاد العربية. إذ ناوش وكتب بعدد متنوع من أساليب التعبير والكتابة: أكاديمية بحته وفلسفية مجردة، وسياسية مثقفة وأدبية شعرية محلقة على أجنحة العواصف ومقالة ونقد وبحث ودراسة وقصيدة ومحاورة وعمود صحفي…

حينما يكتب يثير أمواج عاتية من ردود الأفعال والتساؤلات، ومهما اختلف النقاد في النظر أليه فهو في رأي الجميع نص مدهش يأسر القارئ بفيض خصيب من الاشراقات المبهجة أنه النص الذي يدخل القارئ في رحاب وفضاءات مستعرة بالدهشة والفرح والجمال، أنه النص الذي ينحدر من بحر زاخر بالثقافة العالية فمنذ الوهلة الأولى تشعر بتلك الروح الحميمة الجامحة التي تلتهب في أعماق البركان. والكتابة بالنسبة له ليست وظيفة المثقف أو انشغال الأكاديمي بل هي كما عرفها: “الكتابة احتفال بالوجود، وامتلاك للعالم نظرياً، وكشف جمالي. إنها حضور الذات فاعلةً في تشكيل الوعي والحس الجمالي، ونشر المعرفة ، وتأكيد الفكر النقدي، إني أتحدث عن الكتابة في ماهيتها، ولست أتحدث عن الكتابة/ اللغو، التي لا تصمد برهة قليلة أمام تيار الزمن، والخاوية من المعنى والجمال. فالكتاب والمجلة والصحيفة الورقية والصحيفة الالكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي جزء لا يتجزأ من حياة الناس، فمن ذا الذي باستطاعته أن يتصور الحياة بلا فيلسوف وشاعر وروائي ومسرحي وكاتب مقال صحفي إلخ؟،.

لكن الكاتب لا يسـأل نفسه هذا السؤال، ما جدوى الكتابة؟، لأن الكتابة بالنسبة إليه هم داخلي، ونداء مستمر، ولا يرى معنى لوجوده خارج القلم. الكاتب يشعر أنه مندوب في مهمة لم يكلفه بها أحد ، ألا وهي جعل العالم المعاش مكتوبا” ( ينظر، إبراهيم اليوسف،الفيلسوف أحمد البرقاوي يفكك مشكل الأنا والذات في مواجهة ثقافة الجماعة، الحوار المتمدن) يعد أحمد نسيم برقاوي واحدًا من أهم الفلاسفة العرب المعاصرين الذين ابدعوا رؤاهم الفكرية المتحررة من آسار التقليد والترديد المدرسي. فهو وأن كان قد درس تاريخ الفلسفة ودرسه ودرس تاريخ المناهج الفلسفية ودرسها وتأثر بالفكر الماركسي والفلسفة الوجودية على نحو خاص في مطلع حياته..

وأتذكر أن رسالته بالماجستير كانت عن العلاقة بين الماركسية والوجودية. لكنه اشتق لذاته طريق مختلف عن إي منهما. إذ كان اكثر الاستاذة الذين تعلمنا على أيديهم استيعابًا لتاريخ الفلسفة ومناهجها ويدهشنا بقدراته النقدية في القبض على المفاهيم الفلسفية المعقدة وفض بنياتها المغلقة باحترافية أكاديمية فلسفية عالية الجودة والرصانة. وكانت استراتيجيته في قراءة النصوص الفلسفية تنطلق من منهج الوعي الانعكاسي المزدوج؛ امتلك النص المراد نقده أولا وتمثل حالة الفيلسوف الذي أنتجه وسياقه بوعي عميق وإحاطة كاملة بالمفهوم وتحولاته وسياقات المعنى.وفي لحظة ثانية يشرع بنقده وتفنيده بمنطق جدلي عقلاني شديد الإقناع والفهم. أخبرني الدكتور أحمد انه ذات يوم تصادف وجود الفيلسوف الفرنسي جاك ديريدا بالقاهرة حينما كان الدكتور أحمد برقاوي يقضي إجازة تفرغه العلمي بجامعتها وجمعتهما ندوة فلسفية تحدث فيها دريدا عن تجربته الفلسفية فحاور ه الدكتور أحمد برقاوي بندية فلسفية عالية الكفاءة والجودة. أنه الكاتب المثقف الذي يعرف عن ماذا يتحدث….

ضع اعلانك هنا