بعد ثلاثة اشهر من تكليف “الاستاذ” بتشكيل الحكومة وحصوله على الثقة من مجلس الشورى، خاطب الشعب مباشرة موضحا لهم الواقع المالي الذي تمر به البلاد.
بعد الخطاب بيوم واحد قدم استقالته مبررا إياها بالعجز عن الوفاء بالقسم الذي اداه امام الله والوطن.
نص البيان :
أيها الأخوة المواطنون، أبناء الشعب اليمني الكريم:
سلام الله عليكم أينما كنتم في الداخل أو الخارج.. وبعد فإني أمس الأحد توجهت مع أعضاء مجلس الوزراء ورئيس أركان حرب القوات المسلحة في الساعة العاشرة صباحا لأتحدث إلى الأخوة أعضاء مجلس الشورى.. مجلس الشعب لأن هذا المجلس الموقر هو مفزع الحكومة كلما حَزَّ بها أمر من الأمور، تبادله الثقة الغالية حريصة عليها معتزة بها مقدرة حق قدرها.
وقد عشنا مع ممثلي الأمة أربع ساعات ونصف ساعة في جلسة مغلقة نتبادل الرأي والمشورة، ونتناقش بصراحة ووضوح نقاشا تجلى فيه معنى الحوار الهادئ الرصين الذي يستهدف مصلحة هذا البلد وسيطرت روح الوطنية الحقة ونسي كل واحد منا نفسه ومصلحته وجعل كل همه وفكره وحديثه محصورا في استعراض المشاكل التي تواجهها البلد والأخذ والرد والشد والجذب في طريقة علاجها ووضع الحلول لها.
الصراحة سبيلنا إلى النجاح
أيها الإخوة المواطنون:
لعلكم تذكرون البيان الذي تقدمت به إلى ممثلي الشعب يوم طرح الثقة وحرصت أشد الحرص على أن تكون الصراحة هي طابع ذلك البيان أن تكون المكاشفة بالحقيقة هي المنهج الذي أسلكه طوال بقائي في الحكم.
لم تنتهِ المهمة بالجلوس على كرسي الحكم
وعلى هذا النهج الصريح أتوجه اليوم إلى الشعب بكل فئاته ومختلف قطاعاته لأضع أمامه هموم الحكم التي أعيشها حتى لا يظن الشعب أننا ظفرنا بالثقة وقعدنا على كرسي الحكم وانتهت مهمتنا عند ذلك وأننا كما قيل :
صلى وصام لأمر كان يطلبه لما قضى الأمر لا صلى ولا صاما
وإذا كنت في ذلك البيان قد قلتها صريحة قبل الثقة وبعدها أنه لا أنا ولا مجلس الوزراء بل ولا المجلس الجمهوري بقادرين على أن نصنع شيئا ما لم نجد العون الصادق من مجلس الشورى ومن جميع المواطنين في هذا البلد.. إذا كنت قلت ذلك من قبل فإني اليوم أقولها لكم مرة أخرى وأناشدكم ألا تقفوا من قضايا بلادكم موقف المتفرج وأنا أعاهدكم أن أجعلكم دائما في الصورة بالنسبة لما يحدث، مع يقيني أنكم تعلمون الكثير.
أيها الأخوة المواطنون :
إن ما يأخذه المشفقون عليّ هو الصراحة والوضوح وإن أكثر ما تعرضت له من أذى كان بسبب ذلك ويقولون أن للسياسة وجوها متعددة وأساليب ملتوية ولكني ويعلم الله أني لا أجد راحة الضمير إلا بالصراحة والوضوح، ومن هدأ ضميره نام والرعود تقصف.
وإنني لأخالف أولئك الذين يكتمون أمراضهم خوفا من أن يشمت بهم شامت أو يشتفي صدر حاقد أو تنفرج كربة حاسد فالنبي صلوات الله وسلامه وعليه يقول: ((من كتم داءه قتله)) ووالله لن أكون كالنعامة التي تهرب من الصياد فتغرس رأسها في الرمال وجثتها كلها مكشوفة في العراء؛ ولن أكتم على الشعب الحقائق التي يعرفها أعداؤه وخصومه والطامعون فيه والدائنون له والمتصدقون عليه.
أيها الأخوة المواطنون :
سأنقل إلى مسامعكم حديثي الذي ألقيته أمام ممثليكم أمس في مجلس الشورى حتى أجعلكم على بينة من الأمر وعلى ثقة من أعضاء مجلسكم وممثليكم ومن حكومتكم بأنهم لن يكتموا عنكم سرا من أسرارهم ولن يحجبوا عنكم شيئا ولن يغلقوا على أنفسهم من أجل مصالحهم وهمومهم ومشاكلهم الخاصة أو اقتسام المغانم والمكاسب دونكم.. ولكني مع هذا لا أريدكم أن تظلوا فقط تسمعون الكلام دون أن تتعظوا وتتبعوا وتعملوا فإن الكلام إذا لم يترجم إلى عمل فإنما هو موجة تتبخر في الهواء وأذكركم قول الله سبحانه: ((الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ)).
الحساب أولا
أيها الأخوة المواطنون :
إن كل شعب يشعر بكرامته، ويعتز باستقلاله يأبى أن يسمح لحكومته أن تذل وأن تخزى وأن تقرع أبواب الآخرين تنشدهم الصدقة باسم المساعدة والعون أو تطلب قروضا للاستهلاك والإنفاق على أجهزتها وموظفيها.. إن الشعب الذي يقبل مثل هذا على حكومته وهو قادر على عونها ومساعدتها وإقراضها إنما هو شعب يسقط نفسه من حساب الشعوب واحترامها وثقتها. وهذا هو موضوع نقاشنا أمس في مجلس الشورى.
أيها الأخوة المواطنون :
إن الديون التي تراكمت على الشعب خلال 15 عاما تبلغ اليوم 186 مليون دولار أي ما يقرب من مليار الريالات.. وهذه الديون لا يعلم إلا الله والراسخون في العلم مصيرها ولا متى سيكون سدادها، وقد بدأت بعض الدول تطالب بسداد الأقساط والفوائد أيضا وهل من المعقول أن نكتم هذه الحقيقة عنكم والدول التي أقرضتنا هذه المبالغ تطالب بها غير غافلة عنها ولا ساهية ولا لاهية ولا متنازلة ولا متسامحة.. إذا نحن لا نخفي هذه الحقائق إلا عن أنفسنا فقط، وقد نغرق البلاد بالقروض دون أن نحسب للمستقبل حسابا ونسجل على أنفسنا لعنة الأجيال القادمة التي ستعاني الويلات من نتائج هذه القروض إن لم نشمر عن سواعدنا للخلاص منها وتسديدها.
أيها الأخوة المواطنون :
إن الذي أثار هذا الحديث أمس في مجلس الشورى.. هو أن الحكومة مضطرة لقرض جديد لتأمين معاشات ومرتبات ومطالب الدولة.. وهذا هو أول قرض تحاول الحكومة الحصول عليه منذ وليت الحكم ولكني لم أقدم عليه حتى عرضت الأمر على مجلس الشورى ليعطي رأيه.. ولقد كان المجلس الأمين على كرامة الأمة ومصالحها حيث وضع الشعب ثقته فيه.. لقد رفض بالإجماع أي قرض جديد حتى تقدم الحكومة الميزانية مفصلة وكشفا عن جميع القروض التي استدانتها كل الحكومات خلال 15 عاما.
قرض للدولة من القادرين
ولكني وأنا مسئول عن مطالب عاجلة لا مناص منها ولا عذر في تأجيلها أفزع إلى الشعب جميعه لا أستثني منه سوى العامل والزارع الفقيرين والجندي المرابط في الحدود والموظف الصغير الذي لا كسب له سوى مرتبه أفزع إلى التجار وإلى ذوي الأملاك وإلى الموظفين الكبار مدنيين وعسكريين أن يقدم كل واحد ما يرضي ضميره ويتفق مع كرامته ورجولته.. يقدم ذلك قرضا يسجل على الدولة ويأخذ سندا بذلك من مالية الدولة أن على كل مواطن في المدينة أو القرية. وعلى المحافظين والعمال والقادة العسكريين أن يكونوا مراقبين أمناء على كل ما يتقدم به المواطنون..
إنني أبدأ بنفسي وأتوقف خلال ثلاثة أشهر عن أخذ أي ريال يخص معيشتي وسآخذ من الخزانة سندا بذلك ولا أطالب سوى القادرين أن يصنعوا صنعي ولا أتصور أنه لا يوجد عدد كبير من موظفي الدولة مدنيين وعسكريين لا يستطيع أن يعيش إلا بالمعاش.
تحية للبنك اليمني
أيها الأخوة المواطنون :
إنني أحيي البنك اليمني للإنشاء والتعمير وشبابنا الوطني العاملين فيه رؤساء ومديرين ومرؤوسين فإنهم كثيرا ما صانوا وجه الحكومات التي سبقتني وقدموا لها قروضا رغم أن البنك ما زال ناشئا يحتاج إلى أن يسانده الشعب كله ويحميه ويوفر له الودائع حتى يكون مفزعا عند الحاجة. لقد قام خلال سنين بحمل العبء عن جميع المواطنين وقدم للحكومات ما تضطر إليه دون أن يعلن عن ذلك أو يتحدث ولا يزال الكثير من ديونه في ذمة الدولة.
كل شعب مسئول عن نفسه
أيها المواطنون :
برهنوا اليوم للعالم أن اليمني قادر على أن يرتفع بنفسه وكرامته وأن يعتز بفقره وفاقته دون أن يتجه إلى أي شقيق أو صديق سواء أعطاه أو منعه.
لا تطلبن إلى صديق حاجـة فيحول عنك كما الزمان يحول
يجب أن نكبر على أنفسنا وأن نتجاوز عن أشقائنا وأصدقائنا دون عتب عليهم، فكل شعب مسئول عن نفسه.. وكل حكومة مسئولة أمام شعبها لا تستجيز لنفسها أن تتصرف بحقوقه سواء كان قرضا أو مساعدة.. وستعرفون أنكم بالاعتماد على أنفسكم ستنقذون سمعة بلادكم وتصونون كرامتها وستأتي رؤوس الأموال للاستثمار والتنقيب عن الثروة المعدنية في أرضنا وستأتي الخبرة ويأتي العلم الذي جاء إلى شعوب كانت أسوأ حالا منا.. إن رأس المال جبان ولا يدخل إلى بلد لا يعرف سوى الاستهلاك ولا ننسى أننا ننفق كل شهر ما يقرب من ستين مليونا من الريالات في شراء القات فلماذا لا نكتفي بخمسين مليونا وتخصم عشرة ملايين شهريا قرضا للدولة نصون به كرامة شعبنا.
أيها الأخوة المواطنون :
هذا هو ندائي إليكم وأنا على ثقة أن أبناء اليمن سيضربون المثل الأعلى في الاعتماد على أنفسهم والاعتزاز بكرامتهم وصيانة وجوههم عن الحاجة للآخرين.. وإنني أترقب أن يتسابق المواطنون إلى تقديم هذا القرض وأن الذي سيبدأ بتسجيل اسمه سيكون هو البطل الأول حقا والمواطن الأول حقا..
أما حديثي إلى مجلس الشورى فها هو كما ألقيته أمس الأحد.
بسم الله الرحمن الرحيم
السيد رئيس مجلس الشورى
السادة أعضاء مجلس الشورى
لست بحاجة لأن أقرأ عليكم النص الكامل من المادة الرابعة بعد المائة من مواد الدستور وحسبي أن أجتزئ منها لكم بعض القسم الذي يوجب على رئيس مجلس الوزراء أن يكون:
أمينا
حريصا على حريات الأمة.
ومصالحها
وأموالها
وكرامتها.
ولقد وجدت من أولى مقتضيات الأمانة والحرص على حرية اليمن ومصلحتها، وأموالها، وكرامتها.. أن أعرض عليكم ههنا تجربتي القصيرة المدى في رئاسة الحكومة، تلكم التجربة التي أوصلتني لمحك دقيق وعسير بالنسبة لوفائي بالعهد الذي قطعته على نفسي وبالحرص والأمانة على الحرية والمصلحة والمال والكرامة لشعب اليمن، من خلال ممارستي اليومية وأنا في الحكم.
جيل الحرمان
أيها الأخوة:
ما منكم واحد إلا وهو يتفق معي على أن جيلنا قد عانى من الفقر والحرمان ألوانا. وأن سوء الأحوال الاقتصادية وضيق أسباب المعيشة في ظل العهد المتوكلي قد صور لنا جميعا بأن زوال ذلك العهد سيقودنا وعلى الفور إلى بسطة في الرزق نقضي معا على كل آثار الفاقة الطويلة المدى، ونتخلص بسببها من كل أوجه المظالم والتعسف التي كانت تمارسها مختلف السلطات ضد المواطنين.
فما أن قامت الثورة حتى انطلقنا جميعا بأحلامنا ومطامحنا نريد أن ننتصف من التاريخ الطويل الحافل بمآسي الفقر والحرمان والمذلة والهوان والعسف والطغيان.
لقد شاع عند الجميع الحرص على الانتصاف من السلطة والأخذ بالثأر منها والانتقام لأنفسنا وآبائنا وأجدادنا وعَبَّر كل واحد عن حرصه هذا بطريقته الخاصة.. وتعددت السبل والمناهج واختلفت الصور والأشكال.. ولكنها التقت جميعها عند قضية واحدة:-
السعي للحصول على كل ما يمكن الحصول عليه من مال الدولة..
والتهرب بكل سبيل من دفع أي شيء لخزينة الدولة.
ضرورات الحرب
كان للحرب الشريرة التي دارت رحاها في بلادنا أكثر من سبع سنين الأثر الكبير في استشراء هذه الحالة فقد اضطر زملائي من رؤساء الحكومات السابقين إلى أن يخضعوا لضغط الظروف التي أحاطت بهم في سنوات الحرب وأن يداروا ويسايروا أهواء الناس جميعا وأن يستجيبوا لمطالبهم، دونما تدقيق في الحساب لأن الهدف الرئيسي للحكام آنذاك قد كان هو تحقيق الوجود أولا وقبل كل شيء والثبات والصمود في وجه التحدي المسلح.
وكان في نظرهم على الدوام أن الواجب الوطني في تلك السنوات يقتضي التغاضي والتسامح بالنسبة لقواعد التعامل المالي في الدولة ريثما يستقر الأمر ويستتب السلام لندخل جميعا طور بناء الدولة الحديثة التي استهدفها نضال الأحرار اليمنيين خلال أربعين عاما..
العهد الدستوري الجديد
وبفضل الجهود المخلصة التي بذلها العديد من رجال الشعب المخلصين في الداخل والخارج وتعرض في سبيلها البعض للقتل والتشريد والسجن والمطاردة بل ونزع الجنسية، أمكن لنا جميعا أن نخمد نار الحرب، وأن نحل السلام في ربوع البلاد وأن نعيد بناء الوحدة الوطنية ونلم الشمل ونجمع الشعب ليبدأ مسيرته في طريق البناء والتقدم.
وتم لنا بفضل الله سبحانه اجتماع رأينا على ضرورة ترسيخ دعائم الحكم الشعبي بإعلان الدستور الدائم وإقامة مجلس الشورى لنبدأ أولى خطواتنا في بناء الدولة الحديثة.. دولة النظام والقانون والعدالة والتقدم.ولقد كان شرفاً عظيماً لي أن يطلب إلي في مطلع العهد الدستوري الجديد، عهد السلام والبناء أن أتولى شؤون الحكم في البلاد.
وكان شرفا أعظم وأكبر أن يمنحني مجلسكم الموقر ثقته التي أعتز بها اعتزازا كبيرا، وأحرص على الاحتفاظ بها كشخص أولا سواء كنت داخل الحكم أو خارجه.
كما أحرص على الوفاء بالعهد الذي قطعته على نفسي أمام فخامة الرئيس الجليل القاضي عبد الرحمن الإرياني رئيس المجلس الجمهوري.
إن هذا الوفاء وحده هو الذي حملني على أن أحضر اليوم إلى مجلس الشورى.. مجلس الشعب لأتحدث إليكم عن تجربتي بصدق وصراحة وإخلاص.. ودون مواربة أو مغالطة، فإنني ما دعوت نفسي غير الصدق والوضوح اللذين أعتبرهما أفضل السبل للنجاح في الأعمال.
سياسة المداراة
أيها الأخوة :
سبق لي أن استعرضت لكم الحالة العامة في البلاد خلال فترة الحرب بالنسبة للأخذ والعطاء بين المواطن والدولة.. وأسلفت لكم القول عن اضطرار السلطات العامة في الدولة للمداراة.
والذي أود أن أؤكده بوضوح، هو أن الحرمان الطويل عبر الأجيال والقرون السحيقة قد التقى في حدة وضراوة مع التهييج والإغراء الذي استخدمه كل دعاة الثورة اليمنية ضد العهد المتوكلي، فكان اللقاء بين الحرمان والتهييج أكبر محرض للمواطنين جميعا وأشد العوامل فعالية في استثارة مطالبهم والمغالاة في تقييم أي عمل يقومون به للدولة، أو يدعون القيام به..
وكانت النتيجة كما نعلم هي :
“الاستنزاف للمال بمختلف الوسائل والمعاذير، التباطؤ الشديد عن كل عمل أو عون أو عطاء للدولة”.
وعبر تجربتي القصيرة وجدتني في طوفان عارم من الطلبات، والطلبات، والطلبات، والطلبات فقط. ودونما تحديد ولا تفصيل ؛ وبلا عتب ولا تثريب على أحد وجدتني أنشد مع الأول :
أتى الزمان بنوه في شبيبته فسرهم، وأتيناه على الهرم
مفاجأة الميزانية
وكان من حظي أن ألي الحكم في الفترة الذي يفترض فيه تقديم الميزانية إلى مجلسكم الموقر حيث تنص المادة العشرون بعد المائة على تقديم الميزانية إلى مجلس الشورى قبل شهرين من انتهاء السنة المالية على الأقل.. أي في شهر مايو الماضي يوم كلفت برئاسة الحكومة..
ولما لم تكن الميزانية قد أعدت فقد أعطيت نفسي فسحة للسير بالأمور على عادتها استمرارا للقواعد المتعارف عليها في الدولة، آملا أن أتمكن من تحويل الدفة شيئا فشيئا، وأن أعود بالأمور إلى نصابها، بحيث يشيع الحس عند الجميع ويسود الاقتناع الواعي بأنه لا سبيل لأن تعطي الدولة شيئا ما لم تأخذ ذلك الشيء أولا من المواطنين.. جهدا أو مالا.
ولكن الوقت كان يسير بسرعة والفسحة ضيقة بالنسبة للقدرة على الاستمرار حسب القاعدة السابقة التي اعتمدت الحكمة القائلة (إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب)، (ومن مشناقة إلى مشناقة فرج) فقد صعقت وأنا أقرأ الأرقام في مشروع الميزانية الجديدة بحسب الطلبات التي تقدمت بها دوائر الدولة المختلفة.
صُعِقتُ للتناقض المريع بين أحلامنا الطموحة وبين عجزنا الفاضح..
التناقض بين الميزانية المطلوبة وقدرها مائتان وسبعة وخمسون مليونا وتسعمائة ألف وثمانمائة وريالان وبين الإيرادات الفعلية لخزينة الدولة مما يدفعه المواطنون فعلا وهو مائة وسبعة ملايين وخمسمائة وستة وسبعون ألفا وثمانمائة وأربعة وستون ريالا واثنتا عشرة بقشة ونصف البقشة.
ولقد كان الأمر هينا علي لو اقتصر على مجرد الاقتراح في الميزانية فأمامنا وقت لنبحث الأمر معكم ونتدارس كيف نتصرف إزاء هذا الهول العجيب..
غير أن الزمان إذا أقبل بوجهه على المرء فإنه يغرقه بالخير من كل مجال.. وهكذا شأننا عندما وجدنا أنفسنا عاجزين عن الوفاء بالالتزامات المالية المعتادة، قبل الدخول في اعتماد الميزانية المقترحة.
وكما تعلمون فإني أشرت إلى العجز المالي في ميزانية الحكومة يوم تقدمت ببياني السياسي إليكم..وسعينا هنا وهناك للحصول على عون يسد العجز ولو على سبيل القرض الحسن، الذي تتعامل به الدول الصديقة فيما بينها حين العسر.
غير أنني وبمزيد من الأسف الممض والجارح أعلن أمامكم فشلي عن الحصول على ذلك القرض الحسن الكريم.
وأزيد على ذلك أنني وجدت حكومتي مضطرة للوقوف على بوابة أحد البنوك الأجنبية تطلب منها القرض لسد احتياجاتنا العاجلة في الباب الأول من الميزانية أي المرتبات والأجور وما في حكمها.. ولم يكن لي ولحكومتي قدرة على مثل هذا الموقف دون كفالة الغير عليها.. إذ ليس لنا من الاعتبار المالي ما يجعل بنكا يقرضنا مالا.
وهكذا تجد اليمن نفسها تبحث عن مساعدات وقروض ليس لمشاريع الإنماء والتطوير ولكن لسداد مرتبات الموظفين وصرفيات أجهزة الدولة المختلفة أي لتغطية عجز الميزانية.. ولقد قلت في مناسبات عديدة إن كرامة واستقلال هذا البلد سيظل محل التساؤل ما دام اليمن يستجدي الآخرين ويعتمد في صرف مرتبات موظفي الدولة على ما تقدمه الدول الأخرى من مساعدات وقروض أو إصدار للعملة دون غطاء.
موازنة المصروفات بالإيرادات
أيها السادة :
إن هذا الوضع الذي نعيشه وأقصد به الوضع المالي وإلى حد كبير الوضع الإداري لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يعتبر وضعا منطقيا أو طبيعيا..
إن من المقومات البديهية للدولة ((أية دولة)) هي مقدرتها على الصرف على موظفيها وأجهزتها، ومتى ما عجزت عن ذلك فقدت اعتبارها بل وكيانها كدولة وفقدت أيضا استقلالها الحقيقي وأهدرت كرامتها وهي تقرع الأبواب طالبة مستجدية.
وإذا كانت وارداتنا اليوم عاجزة عن تغطية احتياجات الباب الأول من الميزانية أي المرتبات كما ذكرت فكيف يقدر لهذا البلد أن يدخل مرحلة التطوير وتنمية الموارد وكيف يتسنى للحكومة أن توفر مياه الشرب للمواطنين أو أن ترصف لهم طريقا، أو شارعا، أو تكافح مرضا، أو تحمي الثروة الزراعية والحيوانية، أو أن ترعى العاجز والطفل والشيخ.
إنني عندما أضع هذه الحقائق أمامكم فإنما أطلب من الجميع مشاركتي في التفكير والدرس والعمل للخروج من الحالة الرهيبة التي وصلت إليها بلادنا، ولكي نتدابر معا ونتلمس الوسائل والطرق المؤدية إلى صيانة استقلال البلاد وكرامتها وشرفها.
وعندما نتفحص مشكلتنا المالية التي نحن بصدد التفكير والتعاون لإيجاد حل لها ونتساءل فيما بيننا عن حل واضح محدد نتخلص به من العجز المزمن في ميزانية الدولة يقفز إلى أذهاننا الجواب البسيط والواضح والمنطقي ذلك هو أن تتساوى المصروفات بالإيرادات.
مسئولية الشعب أجمع
أيها الأخوة المواطنون :
ذاك هو حديثي إلى إخوتكم أعضاء مجلس الشورى بالأمس القريب غير أني أريد أن أقول لكم أنتم جميعا أنه ليس في مقدور الحكومة وحدها، كما أنه ليس في مقدور القيادة السياسية ممثلة في أعضاء مجلس الشورى أن تحقق لوحدها الحل.
إن التقيد بتلك القاعدة عند وضع الميزانية أي أن نجعل مصروفاتنا على قدر إيراداتنا الفعلية ونخصص كل عون أو قرض أو مساعدة لأعمال التعمير والإنتاج، وليس للاستهلاك.. التقيد بهذه القاعدة محتاج إلى دعم شعبي حقيقي لا يكتفي بإرسال البرقيات والتأييد ولكنه يوجب التوقف عن الطلبات الشخصية التي لا تقف عند حد.
كما أنها تستلزم من كل مواطن أن يعتبر نفسه رقيبا على موارد الدولة جميعها، يدفع كل ضريبة مستحقة عليه، ويدعو الآخرين ويشجعهم على أداء هذا الواجب، ويحول دون التهرب منه.
أيها المواطنون :
لقد أردنا السلام وسيلة للبناء، ولن يكون البناء إلا بالاعتماد على النفس وبذل الجهد الذاتي أولا قبل طلب العون.
وإن ثقتي بأصالة شعبنا وقدرته على العمل والإنتاج هي التي دفعتني للحديث طالبا منكم التأييد لسياستي الجديدة التي تقوم على قدر الواردات لها من المواطنين.
وعلينا أن نجعل نصب أعيننا تلك الحكمة الرائعة الخالدة التي توارثتها أجيالنا العربية الأبية والتي تقول :”تجوع الحرة ولا تأكل من ثدييها، وتأبى الدنيئة ولو اضطرت إليها”.
والله يوفقنا ويوفقكم ويسدد خطانا وخطاكم.
والسلام عليكم ورحمة الله.
أحمد محمد نعمان
رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية
الإثنين 19 جمادي الأولى 1391هـ
المـوافق 12 يـولـيـو 1971م