فنان الشارع عبد الله البحري
كان يشدني صوت نايه البلاستيكي المشغول بلون العلَم اليمني، وهو يصدر ألحان أشهر الأغاني اليمنية، فكنت أقفُ مستمعًا لمقاطع منها في أبواب الدكاكين التي يعزف لأصحابها ألحان الأغاني التي تروقهم، فيكافئونه بقليل من المال، عدا أيام الخميس التي يزيدون من النقود التي تُعطى له. تبدأ رحلته الصباحية من جولة باب البلقة، فيتجه شرقًا بامتداد شارع الزبيري، وعندما يصل ركن مكتب الرئاسة يتجه شمالًا، باتجاه شارع علي عبد المغني، ثم يدخل من شارع المطاعم باتجاه شارع القصر، ومنه غربًا باتجاه شارع جمال، قبل أن يعود ظهرًا إلى ذات النقطة التي انطلق منها في باب البلقة. أو أنه قد يغيِّر مساره جنوبًا صوب شارع حدة، حتى جولة ريماس، قبل أن يركب الباص إلى قلب التحرير، ليسلك بنايه مسار العودة المعتاد.
أمام محلات بعينها يقف ممسكًا بالناي، ليطلق أجزاءً من ألحان أغانٍ شهيرة لأيوب والآنسي والسنيدار والسمة والحارثي، وفي الشارع يطلق مارشات عسكرية معروفة، وأحيانًا النشيد الوطني.
حين بدأتُ بتحرير صفحة (شارع) في صحيفة التجمع في العام 2007، صادف أن وجدته في شارع القصر، وكانت بحوزتي الكاميرا، فطلبتُ تصويره والدردشة معه، فقال: لي كم ستدفع؟، فقلت له: تريد “بُقشتين” والَّا الشهرة وصورتك تطلع بالجريدة؟ وبعد تردد وافق فصوّرته، ودردشت معه قليلًا، ثم سجلت له اسم الصحيفة وموعد صدورها على ورقة. وجدته بعدها بأيام يحتفظ بنسخة من الجريدة خلف جنبيه، يريها لكل من يعرفه. وكان كلما رآني يطلب مني أن أظهره في التلفزيون. صادف أن انتقل للحي ذاته الذي أقطن فيه، فصرت أراه باستمرار ويسأل: متى التليفزيون؟ وإن رآني من بعيد ينادي بأعلى صوته: يا صحفي وين التلفزيون؟
اسمه عبد الله البحري من بلاد عُتمة في نواحي ذمار. قال لي: إنه بدأ حياته راعيًا للأغنام في بلاده الخضراء، برفقة ناي من القصب، وحين جاء إلى صنعاء شابًّا أوائل السبعينات، التحق بفرقة الموسيقى العسكرية، وتدرب على آلات وترية ونحاسية، لكنه بقي وفيًّا للناي، وبعد تقاعده أمسك بنايه وبدأ يجول في الشارع مشعلًا البهجة في الناس.
بعد ذلك بدأ يظهر بمعية (هاني اليريمي)، وهذا الأخير فنان شارع عجيب، كنت أراه يخرج من اتجاه “المحوى” (مساكن الصفيح) بالقرب من منطقة عَصِر، ببنطلون جينز واسع وفانيلة رياضية حائلة بكمين قصيرين تُغطي ثلثي جسده الصغير، ومنتعِلًا حذاءً رياضيًّا متآكلًا، وكاب داكن من الصوف، ويحمل على ظهره شوال من الخيش بداخلها علبة حليب فارغة. وبخطوات سريعة يقطع المسافة محدِّثًا نفسه بصوت مرتفع، وأول شخص يستوقفه طالبًا أغنية يضع الشوالة على الأرض ويُخرج العلبة ثم يبدأ بالدق عليها، على لحن لكلمات غريبة عجيبة من الفكاهة والسخرية، يقوم بتأليفها أشخاص فكِهون، وهو من يركِّب لحنها الذي لا تمسك له طرفًا. يظهر أحيانًا بآلة إيقاع حديثة، لكنه سرعان ما يعود لعلبة الحليب حين يقوم برهن الآلة. بظهوره مع البحري شكّلا ثنائيًّا عجيبًا، يجوبان الشوارع ذاتها، يعزفان ويغنيان ويُضحكان الجمهور بالأغاني الفكهة، وحين لم أعد أرى البحري في الحي سألت هاني عنه. وبعد مسبحة طويلة من الهذاءات قال إنه ترك أسرته وانتقل إلى حانوت في سوق الملح. قبل عامين أبصرت البحري بالمصادفة في باب اليمن بدون نايه، باديًا عليه التعب والشحوب، قال: يا صحفي، (أنا تاعب)، ومن وقتها لم أعد أراه.
محمد عبد الوهاب الشيباني
من كتاب – من هنا مرَّ الغناء دافئاً – منشورات مواعيد 2023