الانتحار هو حل نهائي لمشكلة مؤقتة، هكذا كنت اقرأ في العديد من المنشورات، والمقالات، والمدونات التي تحث هؤلاء الذين تملأُهم الرغبة في التخلص من الحياة، المعاناة، الحزن، القلق الدائم على عدم الاستسلام لهذه الرغبة، كنت أتصفح مثل تلك المقولات في سخرية وأنا أخفي أنني قد قررت بالفعل وضع نقطة النهاية لسلسلة من الخيبات المسماة بحياتي، بل وضعت تاريخًا محددًا للانتحار وبقي فقط أن أصل إلى هذا التاريخ الذي قصدت أن يكون في يوم ميلادي حتى لا تضطر أسرتي أن تتذكرني في مناسبتين سنويًا ميلادي ووفاتي، بالمناسبة هذا الموعد هو 13 تشرين الثاني/ نوفمبر.
تلك المقدمة ما هي سوى إثبات حسن نية من قبل الكاتب تجاه صديقي/تي الذي/التي لم تجرب من قبل أن يُحدثها مُنتحر آخر مع إيقاف التنفيذ، وفي السطور التالية نحاول بطرق منطقية الرد على سؤالين هما فيصل كل شيء، داخل وخارج (عقل المنتحر مع إيقاف التنفيذ).
السؤال الأول: لماذا نريد نحن أن ننتحر؟
الإجابة عن هذا السؤال طويلة للغاية واحتاجت قديمًا لمجلدات علم النفس ومذكرات الفلاسفة ورسائل انتحار المشاهير الخالدة، لكن في هذا المقال أتطرق إلى فلسفة الشعور لا إلى الأسباب نفسها، أي إلقاء نظرة من الخارج دون خوض التفاصيل، ففي النهاية المشاكل بمختلف أنواعها يمكن اختزالها في كلمة واحدة (المعاناة).
وقد أحضرت معي صديقًا مميزًا من أجل الحديث عن هذا الشأن، الفيلسوف، بوذا، الذي كان يرى أن الحياة ما هي إلا سلسلة من المعاناة مهما بدا لك أنها غير ذلك، رأى أيضًا أن السبيل الوحيد لتقبل أعراض الحياة بصدر رحب يكمن في القدرة على التخلي أو تدريب النفس على السعي إلى الخسارة، بمعنى أدق بدلًا من انتظارها، باختصار شديد، بوذا كان يرى أن السعادة هي حالة داخلية يجب أن لا ترتبط إطلاقًا بأي أحداث خارج العقل، لذا سعى أولًا إلى تقليل حجم أهمية المؤثرات الخارجية من كل النواحي، سأل أحدهم بوذا ماذا اكتسب من تجربته في التأمل، فقال: “لم أكسب شيئًا”، وصمت قليلًا ثم أضاف: “ولكن دعني أحدثك عما خسرت، القلق وعدم الأمان والخوف من الموت والكآبة”، ولكن ليس كل الناس هم بوذا، يستطيعون التخلي عن فكرة السعي لتحقيق ما يريدونه من الحياة ببساطة، فلا بد أن يكون هناك طريق آخر لنصل إلى ما وصل إليه بوذا في تقبل الحياة بخسارة القلق والخوف من الموت وعدم الأمان، لذا حان وقت السؤال الثاني.
كنت أتصفح مثل تلك المقولات في سخرية وأنا أخفي أنني قد قررت بالفعل وضع نقطة النهاية لسلسلة من الخيبات المسماة بحياتي، بل وضعت تاريخًا محددًا للانتحار وبقي فقط أن أصل إلى هذا التاريخ الذي قصدت أن يكون في يوم ميلادي.
الفيلسوف، بوذا، كان يرى أن الحياة ما هي إلا سلسلة من المعاناة مهما بدا لك أنها غير ذلك.
احترامًا لما خضناه من متاعب وآلام وخيبات أمل طوال السنوات السابقة يجب علينا التفكير مليًا مجددًا في نقطتين هنا، هما الهدف من الحياة وتوقيت التخلص منها.
أما عن الانتحار فالحل الأفضل هو عدم مواجهته بل مرافقته، إظهاره كضيف دائم بدلًا من التخوف من أن يتلصص علينا في ضعفنا ذات مرة
علينا أن نقر بفشل الوازع الديني والترهيب من العقاب، فحتى أكثر الناس إيمانًا برواية دينية ما سوف يتحجج برحمة الرب بدلًا من سطوته وعقوبته الشديدة
طرح نظرة جديدة تعي أن النظر للحياة باعتبارها وحيدة لن تتكرر في الواقع يمكن أن يتحول إلى شيء أكثر جمالًا بكثير
السؤال الثاني: لماذا نريد أن نحيا؟
ليو تولستوي، أحد أعمدة الأدب الروسي، الذي كان على حافة الانتحار في فترة ما من حياته يقول بعد عناء طويل مع الفلسفة العدمية: “وجدت بإعادتي النظر في سياق حجج المعرفة العقلانية أنها صائبة كفايةً، كان الاستنتاج القائل إن الحياة عدمٌ شيئًـا حتميًّا، ولكنني وقعت في خطأ ما في ذلك، فالتفكير الذي قمت به لم يكن منسجمًـا مع ما وضعت من سؤال في بادئ الأمر. فقد كان السؤال: (لمَ عليّ أن أعيش؟ أعني: ما الثمرة الحقيقية المتصفة بالدوام من وراء حياتي الوهمية والزائلة هذه؟ أي معنًى هذا الذي يحوزه وجودي المتناهي في هذا العالم اللا متناهي؟)، وفي سبيل الجواب عن هذا السؤال، درست الحياة نفسها، ولكن اتضح لي أن الجواب عن جميع الأسئلة الممكنة المتعلقة بالحياة لن يقنعني ألبته، إذ إن سؤالي وإن بدا يسيرًا لأول وهلة، يضع تفسيرًا للمتناهي في حدود اللا متناهي، والعكس بالعكس.
ثم انتهى بخلاصة تجربته بعدما رأى كيف يعيش بسطاء الناس حياتهم في سلام نفسي أيًا كان ما يؤمنون به في جملة بسيطة وهي: “ليقدر المرء على العيش، فإما أن يغض ناظره عن اللا متناهي، وإما يحوز تفسيرًا لمعنى الحياة”.
المشكلة الوحيدة في فلسفة تولستوي كانت أنه وضع اللذة غالبًا في موضع الهدف، ولكن (هل اللذة هي من الأعراض الجانبية للحياة التي وفقًا لليو تولستوي علينا أن نعيشها فقط دون البحث عن ماهيتها والهدف منها أم أن اللذة هي الهدف الوحيد للحياة نفسها؟).للإجابة عن هذا السؤال علينا أن نُحضر آلة التجربة واللذة التي يحكي عنها، شيلي كيغن، أستاذ الفلسفة بجامعة “ييل”، وهي آلة غير حقيقية ووهمية تعمل بتركيب رقاقات وربطها بأدمغتنا لكي نعيش في واقع موازٍ لواقعنا يمكننا فيه أن نفعل ما نريد ونحصل على ما نحب طوال الوقت ببساطة، كل ما عليك أن تفعله أن تختار كيف تريد لحياتك أن تكون، حتى تضمن مغامرة ممتعة دون أي معاناة ومن ثم تشغيل الآلة وتوديع واقعك تمامًا وتذهب إلى الوهم الممتع الجديد ما تبقى من عمرك، الأمر مشابه كثيرًا لنوعية الأفلام تلك التي ترتدي نظارات مخصصة وأنت تشاهدها تجعلك تشعر بمجريات الفيلم وكأنك أحد أبطاله، ولكن الفرق يكمن في أن الآلة لن تُمكنك من العودة إلى حياتك العادية، وأيضًا لن تستطيع أن تعلم مطلقًا أنك في واقع افتراضي وليس حقيقيًا عكس نظارة الأفلام التي مهما بلغت الأحداث ذروتنا فأنت تعلم بأنك لست في خضمها حقيقةً. والآن لتطرح على نفسك هذا السؤال هل لو كانت تلك الآلة موجودة بالفعل وطُلب منك أن تختار بين أن تخوض تلك التجربة وتبدأ بتركيب الرقاقات في رأسك لتنتهي حياتك التي تعرفها الآن وتدخل في حياة جديدة غير حقيقية ولكنها ممتعة، أو أن تظل في الواقع مع بعض اللذة وبعض المعاناة فماذا ستختار؟ أعتقد أن معظمنا سيختار الواقع.
الانتحار كحل مرافق للحياة، وليس مؤقت
لذا نحمل في داخلنا احترامًا للواقع أكثر من احترامنا للذة ذاتها، أما عن الانتحار فالحل الأفضل هو عدم مواجهته بل مرافقته، إظهاره كضيف دائم بدلًا من التخوف من أن يتلصص علينا في ضعفنا ذات مرة، نتحدث هنا عن الجانب المضيء الموجود الذي يجب أن يوجد في كل شيء حتى في الانتحار، بما أن الأمور نسبية، أولًا علينا أن نقر بفشل الوازع الديني والترهيب من العقاب، فحتى أكثر الناس إيمانًا برواية دينية ما سوف يتحجج برحمة الرب بدلًا من سطوته وعقوبته الشديدة، وكذلك هناك من لا يؤمنون بوجود حياة أخرى، أو على الأقل بأنه لن يوجد بها عقاب على قتل النفس إذا ما وجدت حياة أخرى، لذا لنحاول أن نستخلص من محاضرة آلن دو بوتون عن جمال التشاؤم، وطرح نظرة جديدة تعي أن النظر للحياة باعتبارها وحيدة لن تتكرر في الواقع يمكن أن يتحول إلى شيء أكثر جمالًا بكثير، والبشر يميلون إلى استصغار المصائب حينما يتعلق الأمر بأحداث وقتية، لذا فاعتبار الحياة وحيدة تحدث لمرة واحدة هو الشيء الذي يجعل الكل يستصغر أي معاناة هم على وشك خوضها باعتبارها وقتية وما عليهم إلا التصرف بطريقة سلسة غير جدية حيال المصاعب التي يعانون منها، ففي النهاية كل هذا الضغط غير حقيقي ولن يستمر، بل أنه قد يُصبح مُضحكًا إذا ما قررت النظر إلى كل ما حولك وقول: “لماذا يأخذون الأمر بجدية؟”.
الأمر برمته يتلخص في السطور المقبلة، الحياة معاناة وهذا واضح، ولكن مع المعاناة فالحياة ملأى بالشغف والتجارب التي تختلف من شخص لآخر، وبما أنك لا تهتم بالاستمرار في الحياة إلى درجة أنك قد تتخلى عنها بسهولة، وبما أنه لا خسارة داخل الحياة أكبر من خسارة الحياة ذاتها التي لا تكترث كثيرًا إذا خسرتها، فيمكنك الاستغناء عن فكرة آلة اللذة واستخدام جسدك في تلك الرحلة والمخاطرة مقبولة الآن، وكل هذا بالتحديد ما يجب أن يكون دافعك الأقوى للسير في طريق كنت تخشى السير فيه خوفًا من الخسارة، ففي النهاية أنت تمتلك الآن نظرة دونية لأهمية الخسارة في الحياة، فما الذي يمكن أن يشكل عائقًا أمامك؟ في كل الأحوال سوف تموت بعد وقت ما، لذا ليصبح الأمر كشخص حكم عليه بالإعدام وتم تركه ليعيش بعض الوقت، هل سينتحر؟ بالطبع لا، ولكنه بالتأكيد سيكون أكثر مغامرة وشجاعة وجرأة في قضاء ما تبقى من حياته، وفي النهاية لنحمل فكرة الانتحار كحكم الإعدام هذا في حوزتنا طوال الوقت يذكرنا بأن الحياة لا قيمة لها دون البحث عن شغفنا بلا خوف حتى يأتي يومنا الأخير على الأرض، وهذا بالتحديد ما يمكن أن يجلب إلينا السعادة ربما.
بلال همام
رصيف22