*كتب خالد عبد الهادي*
خطر تفسخ الجيش بعد تفسخ المقاومة
***
مثلت الإبادة أول وأكبر تهديد للمقاومة الشعبية لدى تشكلها في 2015 وشروعها في مقاومة بطش الحوثيين المتحالفين حينذاك مع الرئيس السابق علي عبدالله صالح الذي انتهى به المصير قتيلاً ببندقية حلفائه.
وتجاوزت المقاومة هذا التهديد بفضل عوامل عدة؛ أهمها الإقبال الشعبي على دعمها والالتحاق بصفوفها والشراسة القتالية التي أبدتها لمعرفتها بمأساوية المصير الذي ينتظر رجالها ومجتمعاتهم المحلية في حال سقطت رايتها، فضلاً عن الدعم المقدم لها من التحالف العربي الداعم للحكومة الشرعية ولو أنه لم يكن قد انتظم في الأشهر الأولى من انطلاقتها.
ولما أخذت المقاومة تنتزع منطقة تلو أخرى من الحوثيين وتفرض عليها سيطرتها، برز الخطر الثاني عليها ماثلاً في الجماعات المتطرفة التي انخرطت في القتال ضد الحوثيين لحساباتها الخاصة التي هي طائفية في غالبها.
لم ينل هذا الخطر من المقاومة فحسب، بل طال معسكر “الشرعية” كله، موجهاً ضربات لسمعته في الخارج وملقياً الشبهات حوله ومكًن الحوثيين من فرصة تسويق أنفسهم كقوة محاربة للإرهاب لدى القوى الدولية التي يهيمن الإرهاب على جل ما يعنيها من شأن اليمن.
ومع أن الإشارة إلى المقاومة في الوقت الراهن تجري بوصفها فكرة فحسب لا كياناً مادياً بعدما اندمج أفرادها في الجيش وقوى الأمن، إلا أن الجيش الذي تشكل من أفرادها وحتى باقي الجيش الحكومي الذي تأسس خلال سني الحرب سيكون من المنطقي تصور أنه يتحلى بعقيدة عسكرية تتماهى مع فكرة المقاومة وغاياتها، ولذا سيشار إليه هنا عوضاً عن المقاومة.
إذن، تجاوز الجيش خطر الإبادة خلال مرحلة المقاومة الطوعية، ولم يصبه في مقتل خطر الجماعات الإرهابية وإن ألحق به أضراراً مرشحة للتمادي في حال التهاون حيالها، لكن خطراً ثالثاً يعمل عمله الآن داخل هذا الجيش: التفسخ.
يكمن أحد أوجه تفسخ الجيش في إفراغه من مهمته القتالية التي تشكل حاجة ملحة في المرحلة الراهنة وتحويله إلى قوة شبه أمنية، يتوزع أفرادها على عدد لا يحصى من نقاط التفتيش المنتشرة داخل المناطق المحررة، وهي نقاط يصعب على أي خبير عسكري الجدال في ضرورتها العسكرية أو الأمنية، بل صار بوسع أي عابر أن يكون شاهداً على كيف أن هذه النقاط انجرت مع غياب الرقابة والضبط العسكريين إلى أذية المسافرين وجباية البضائع الداخلة وتصفية الحسابات بين تشكيلات الجيش الذي يبدو أن سمة الفصائلية انتقلت إليه من مرحلة المقاومة.
أكثر من ذلك، أن أفراداً في الجيش ينشطون في تزعم مجموعات فوضوية داخل المدن والمناطق المحررة برعاية قادة عسكريين لا يقلون دأباً على تغذية الفوضى وتنويع مصادر الثراء بابتزاز المصالح المدنية العامة ورجال الأعمال والتسويف في إخلاء مقرات المرافق العامة ومنازل المدنيين.
بل وصلت الحال بملاك الأسواق التجارية إلى استعمال أفراد الجيش لتأمين أسواقهم أو تعطيل أسواق منافسة وتنفيذ مهمات أخرى.
ومثلما أفسدت تجارة الحرب كثيرين من قادة تشكيلات الجيش وألويته وصولاً إلى قادة كتائب فيه سواء تجارتهم في الأموال المتدفقة عليهم من التحالف الخليجي أو تلك التي عادت عليهم جراء استغلالهم غير المشروع لما وقع تحت سيطرة قواتهم من مصالح عامة، كذلك أفسد انجرار القادة إلى تجارة الحرب ولاء الأفراد وانضباطهم العسكري وحولهم إلى مجاميع مجندة في خدمة اهتمامات قادتهم.
إضافة إلى ذلك سمح التساهل في التطبيق الصارم لمفهوم العسكرية ومتطلباتها تحت ضغط الحرب وانتماء قادة وضباط كثيرين إلى أحزاب سياسية يغلب ولاؤهم لها على الولاء لمؤسسة الجيش أو ارتباطهم بقوى نفوذ يخدمون مصالحها مقابل البقاء في مواقعهم بالتأسيس لبيئة عمل داخل الجيش تتفشى فيها مظاهر الطوعية والاختيار التي كانت سائدة في المجموعات المقاتلة قبل الانضواء في الجيش.
ومع كل أسباب التفسخ المتضافرة، يبقى نشوء الجيوش الخاصة الموازية للجيش والمحسوبة عليه في آن عامل التفسخ الأشد خطراً بما تمثله من جيش داخل الجيش؛ يذهب إليها الدعم المالي ويتكدس لديها العتاد ويصدر مزيد من القرارات بتشكيل ألوية جديدة لاستيعاب أفرادها فيما لا أثر لجهدها القتالي، بل تتوالى الأمارات على أنها تؤمن عدتها فحسب لمعاركها المستقبلية الخاصة.
يتعاظم نفوذ الجيوش الخاصة وتأثيرها السلبي على إيقاع المعارك واستقرار المناطق المحررة في تعز ومارب والجوف. ولا يقتصر نفوذ هذه الجيوش على المناطق التي ما تزال في أتون الحرب، فللجيوش الخاصة في المحافظات المحررة جنوب البلاد منذ 2015 تأثيرها النافذ في حالة الاستقرار.
فهناك تكاد قوات “النخب” التي تأسست بدعم ورؤية التحالف الخليجي بشقه الإماراتي تنفرد بالأمور على الأرض. وهي إن بدت جزءاً من القوات الحكومية وتتكامل معها في المهام الأمنية، غير أنها سرعان ما تنحاز إلى صف المجلس الانتقالي الجنوبي في مواجهة الحكومة لدى بادرة أي صراع سياسي كما برهن على ذلك الصراع الذي انتهى بقتال محدود داخل عدن في يناير 2018.
كذلك في ظل ظروف الحرب الاضطرارية، وجد زعماء قبليون أنفسهم قادة لقوات مختلفة من الجيش. ومع غياب الضبط العسكري حمل هؤلاء عصبياتهم القبلية وأمراضهم الاجتماعية إلى حيث يعملون فزاد ذلك من إفساد بيئة الجيش والتشويش على قرارات له والتأثير السلبي في نتائج بعض معاركه، كما في إحدى المعارك بمحافظة الجوف حيث أدى التنافس القبلي بين زعيمين قبليين يقودان لواءين عسكريين إلى خسارة المعركة.
هذه القائمة من العوامل أتاحت لقادة الجيوش الخاصة وصانعيها إدارة لعبة الولاء والالتزام في منزلة وسطى تراوغ بين الالتزام بالعسكرية وبين التحلل من مسؤولياتها في آن؛ فحين توجيه النقد إلى ما تقترفه من أفعال تدفع هي بأنها جزء من الجيش الحكومي وقرارها من قراره، وحين تخاطبها المؤسسات الحكومية بشأن إخلاء مرفق ما أو الكف عن سلوك مخل بالأمن يرتدي قادتها رداء المقاومة الماضية ويردون من موقع المقاومين الذين بذلوا تضحيات لابد من تحصيل فائدتها أولاً وبأثمان ابتزازية باهظة.
وفي حال استمرار تنامي الجيوش الخاصة وعدم امتحان التزامها العسكري بما يثبت أهليتها للبقاء، وكذا استمرار حالة الإهمال والتفكك داخل الجيش الحكومي فسوف يتردد طويلاً ذلك السؤال عن الجيش المفقود، الذي أفاق اليمنيون مذهولين في سبتمبر 2014 ليبحثوا عن جواب له.