•• بروفيسور / قاسم المحبشي…
( الجزء الاول )
لا تطور ولا تقدم ولا نماء ولا ارتقاء بدون معرفة الطبيعة ومظاهرها وفهم قوانين حركتها والتنبؤ بنتائجها وتلك هي وظيفة العلوم الطبيعية ولا تطور ولا تقدم ولا نماء ولا ارتقاء في التاريخ والحضارة الا بمعرفة حقيقة الكائن الإنساني والمجتمع البشري بوصفهما لحمة التاريخ وسداه؛المعرفة القادرة على فهم حاجات الإنسان ودوافعه ومقومات الحياة الاجتماعية المدنية المستقرة وقوانين التاريخ وحركته والتنبؤ بمساراتها المستقبلية وتلك هي وظيفة العلوم الإنسانية والاجتماعية والفلسفة في قلبها بل هي أمها التي ابدعت اخصب وانضج المفاهيم الأساسية في تاريخ المعرفة الإنسانية( الوجود، الإنسان، العقل، الخير، الشر، العدل ، الحرية، الجمال ..الخ) وذلك منذ البواكير الاولى للفكر الفلسفي الشرقي واليوناني القديمين مرورا باللحظة العربية الإسلامية الخصيبة لحظة الترجمة والتفلسف في المشرق والمغرب العربي وانتهاء بالعصور الحديثة والمعاصرة. إذ لم تكن الحداثة الغربية في معناها الاوسع إلا مشروعا فلسفيا عقلانيا قرر اعادة تأسيس وبنا المجتمع من جميع جوانبه على أسس علمية عقلانية إنسانية شاملة…
غير أن الانتصارات المذهلة التي حققتها العلوم التجريبية جعلتها في لحظة أوجها تستغني عن أمها الفلسفة والعلوم الإنسانية في منتصف القرن التاسع عشر حينما حلم اوغست كومنت بتأسيس فيزياء أجتماعية على قرار منهج الفيزياء في دراسة الظاهرة الطبيعية وهذا أمر غير ممكنا بسبب اختلاف الظاهرة الاجتماعية وطبيعتها الشديد التعقيد والتركيب. نعم انتصر العلم والتكنولوجيا فظهرت مشكلات جديدة لاسابق للخبرة الإنسانية بها فعادت الدعوة إلى المنظور التكاملي للمعرفة العلمية وذلك بتأكيد البعد السيوسيولوجي للعلم، ونسبية الحقائق العلمية، ومبدأ الكشف، وقوة الخيال والمغامرة، وأسبقية الفروض الحدسية وحيويتها قد أفضى إلى إعادة الاعتبار للعلوم الإنسانية والاجتماعية. ويقر بيير بورديو بفضل الأفكار التي طرحها توماس كون، بقوله: إنني أنسب الفضل لتوماس كون، في أهم جزء قدمته فيما يتعلق بمنطق الممارسة والديناميات التي تحتويها. ويقدم توماس كون نظرية في الممارسة العلمية تثير أكثر الأسئلة إشكالية بالنسبة لسوسيولوجيا العلم، والمتعلقة بالتغير، كيف يحدث وما هي آلياته، وما هي الشـروط التي ينشأ فيها العلم الجديد أو النموذج الجديد، وما هي التأثيرات الخارجية المفروضة على المجال العلمي كما أن حجم ونوعية المشكلات الإنسانية والاجتماعية التي أفرزتها المتغيرات التاريخية والحضارية العالمية المتسارعة اليوم تستدعي الحاجة الملحة إلى ردم الهوة الشاسعة بين العلوم الطبيعية والعلوم الإنسانية، والنظر إلى المشكلات ومواجهتها وبحثها بصيغة تكاملية ورؤية عقلانية نقدية…
وومن المشكلات الجديدة التي تستدعي عودة تضافر الجهود بين مختلف أنساق المعرفة يمكن الاشارة إلى أهمها( مشكلة سباق التسلح والحروب والأمن والسلام الدوليين، ومشكلات البيئة الأرضية والأوزون، والعولمة وصدام وحوار الحضارات، ومشاكل الاقتصاد والتجارة والمال والأعمال العابرة للقارات. ومشاكل الفقر والصحة والمرض، ومشكلة التطرف والإرهاب والعنف، ومشاكل الهويات الطائفية والتعددية الثقافية، والأقليات والتمييز والتعصب والاستبعاد الاجتماعي، والهجرة غير الشرعية والاندماج، والمخدرات ومشكل الفساد والبطالة و والحركات الاجتماعية والثورات، وقضايا حقوق الإنسان والمرأة والطفل والشباب، وكل ما يتصل بالحقوق المدنية، ومشاكل التربية والتعليم والجودة والاعتماد الأكاديمي، والمشكلات الأخلاقية للعلم والثورة البيولوجية ؛ كالاستنساخ، وزراعة الأعضاء، ومنع الحمل، ومشاكل التحول الرقمي والذكاء الاصطناعي والفضاء السيبرنيتي والأقمار الاصطناعية والوسائط الإعلامية والتواصلية الجديدة والآثار الاجتماعية والأخلاقية فضلا عن المشكلات المستعصية التي تفتك بالمجتمعات العربية والإسلامية منذ زمن طويل ومنها: مشكلة الهوية والحروب الطائقية إذ تعيش مجتمعاتنا العربية اليوم حروب طائفية مستعرة في كل مكان وغير ذلك من المشكلات الحيوية الأخرى…وهذا تزداد الحاجة، إلى المنظور التكاملي للعلوم الطبيعة والإنسانية والاجتماعية اليوم، أكثر من إي وقت مضى وذلك أثر الثورة المنهجية التي شهدها الثلث الأخير من القرن العشرين إذ أحلت النظر السوسيولوجية للعلم محل النظرة الابستمولوجية الصرفة وهذا ما أفضى إلى تغير جذري في النظرة إلى العلم بوصفه صنعة إنسانية وإبداعاً إنسانياً، ومؤسسة سوسيولوجية، وفعالية اجتماعية، ومغامرة تاريخية إلا يمكن تعيين خصائصها بمعزل عن البيئة الفيزيقية والحيوية والجغرافية والسياسية والثقافية الإنسانية العامة وهذا يعني أن مسألة، نمو العلوم وتقدمها, هي مسألة، ليست ابستمولوجية أو مهنية خالصة فحسب، بل مسألة, سوسيولوجيا حضارية ثقافية عامة، مرهونة بسياق مجتمعها المتعين وصحته وقدراته وفرصه وممكناته الواقعية والافتراضية التي من شأنها أن توفر وتؤمن البيئة الحاضنة والراعية والدافعة لنموها وازدهارها أو العكس..
ولما كان العلم بجميع أبعاده وعناصره المعرفية النظرية والمنهجية والتطبيقية والتقنية ، يعد الظاهرة الأبرز في القرن الحادي والعشرين؛ قرن العلم والثورة العلمية بامتياز ، فقد استقطب جلّ اهتمام الفلاسفة والمفكرين والعلماء ودفعهم إلى إعادة التأمل والتفكير فيه بوصفه ظاهرة جديرة بالتفكير والفهم والتفسير وذلك من منظور تكامل المعرفة العلمية. فقد ولى الزمن الذي كان ينظر الناس فيها إلى التخصصات العلمية بوصفها مجالات مستقلة ولا رابط بينها. وكلما زاد تقارب العالم واندماجه كلما زادت الحاجة إلى تقارب العلوم وتكاملها. وهنا يأتي دور الفلسفة بوصفة نظرة كلية إلى لعالم. فمن نحن اليوم؟ وكيف نعيش الحاضر؟ وماذا سنكون غدا؟ ..
هذا السؤال المزدوج الأبعاد والمعاني هو سؤال الفلسفة في كل عصر جديد، حيث يتشكل الواقع الإنساني من جديد .فما طبيعة العلاقة بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؟ وكيف نفهم العلاقة التكاملية بين أنساق المعرفة العلمية في مختلف المجالات الطبيعية والثقافية.إذ لأول مرة في تاريخ المعرفة الإنسانية تتوحد العلوم الطبيعية والإنسانية والاجتماعية والتربوية في مواجهة أزمنة العالم الراهن بعد جائحة كورونا كوفيد-19 التي مسحت الصفحة. وقد ذهب فيلسوف العلم المعاصر ميشيل بولاني إلى تأكيد الطابع الإنساني العام للمعرفة العلمية،” فصحيح أن العلم الطبيعي يبحث في عالم فيزيقي لا شخصي، إلا أنه ذاته نشاط ذو سمة شخصية، فلا يمكن تتبع نمو المعرفة العلمية إلا كسلسلة من أفعال أشخاص معينين وإنجازاتهم وأحكامهم وكشوفهم وخيالاتهم وحدوسهم، والعلم لا يعمل في فراغ مطلق، بل يفلح أرضاً مهدتها الثقافة السائدة أو تركتها صعيد بلقعاً” كما أكد مارجوليس في كتابه, علم بغير وحدة : إصلاح ذات البين للعلوم الإنسانية والطبيعة “أن مشاريع العلم هي بصورة حاسمة إنجازات إنسانية، والصفة الجذرية للعلم بعد كل شيء أنه نشاط إنساني .. لذلك فكل العلوم هي علوم إنسانية من زاوية إنجازها الفعلي، فلا يمكن تعيين خصائصها بمعزل عن ملامح الثقافة الإنسانية والتاريخ الإنساني واللغة الإنسانية والخبرة الإنسانية والاحتياجات والاهتمامات الإنسانية” ( ينظر، يمنى الخولي، فلسفة العلم في القرن العشرين، مجلة عالم المعرفة الكويتية)
وفي سبيل فهم سبب تخلف العرب وعجزهم عن مواكبة حركة التاريخ الحديث والمعاصر كما جاء في سؤال ندوة وحدة الدراسات الفلسفية والتاويلية بالمعهد العالمي للتجديد العربي السبت الموافق ٢٥ يناير ٢٠٢٥م لماذا لم ننهض؟ ذلك السؤال المحوري الذي يدور حول العوامل التي ساهمت في فشل المشروع النهضوي العربي: هل في الموروث؟ أم التفسير المهيمن للدين؟ أم الهجمة الامبريالية المتواصلة؟ أم بعدم وجود رافعة حقيقية للنهضة؟ قدمها الدكتور توفيق شومر أستاذ فلسفة العلم والفلسفة الغربية المعاصرة في قسم الفلسفة – الجامعة الأردنية ورئيس وحدة الدراسات العلمية بالمعهد العالمي للتجديد العربي وحاوره الدكتور خالد سعد كموني ، أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية، رئيس وحدة الدراسات الفلسفية والتأويلية بالمعهد العالمي للتجديد العربي وأدارها بكفاءة واقتدار صديقنا العزيز الدكتور ضياء الدين المشايخي ، أستاذ الجيوفيزياء التطبيقية ،نائب رئيس وحدة الدراسات العلمية بالمعهد العالمي للتجديد العربي..
كانت ندوة مهمة وجاذبة بعنوانها فضلا عن
كونها جمعت لأول مرة في معهدنا بين الفلسفة والعلم، أشبه بلقاء القمة بين أم العلوم وأولادها الذين عادوا لسؤالها فيما
استشكل عليهم فهمه وعمله بازاء تحديات الحياة المعاصرة ومشكلاتها الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية والتقنية والقيمية الشديدة التداخل والتشابك والتعقيد. وقد حرصت على حضورها بدوافع شتى منها اهتمامي بفلسفة العلم وسؤال النهضة العربية فضلا عن تقديري واحترامي للزملاء الذين قدموها.
واتذكر بانني كتبت في اوقات سابقة حول علاقة العلم بالثقافة..
مع أن العلم هو أقدم وأهم شكل من أشكال الوعي والممارسة الاجتماعيين قبل السحر والاسطورة والدين والأخلاق والقانون. أنه قديم قدم الإنسان ذاته منذ أن أكلا آدم وحواء من ثمار الشجرة المحرمة وخروجهما من الفردوس المفقود. إذ لم يكن للإنسان أن يتمكن من العيش في الأرض بدون العلم والتفكير العلمي وأول قانون علمي ادركه الإنسان هو قانون مقاومة الفناء والحفاظ على البقاء وأول المدنية كهف او مغارة او موطئ قدم يحتله الانسان ويجد فيه اسباب العافية والامن والامان فيدافع عنه وطناً في العراء قبل اللجوء الى الكهوف والمغارات، واول الحضارة هو الاحساس بالخوف من العجز والوحدة…
كل هذه الاحساسات التي تنتاب الانسان في جميع الازمنة وفي كل مكان وفي جميع العصور هي فطرة وغزيرة وطبع دفعه للبحث عن حلول عملية لها. وأول الثقافة خيال وتصور وتعبير وتفكير وبحث عن الأشياء التي تأمن حياة الإنسان وتجنبه المهالك. العلم ليس نظرية ابدا بل هو مواجهة مشكلات حيوية والبحث في حلها وتجاوزها. وحينما واجه الإنسان معضلة مرور النهر فكر باستخدم الواح الخشب وصنع الغارب وحينما واجه الإنسان تحدي البرد والمطر فكر بالبحث عن ما يحمي بدنه من البرد والمطر والشمس والريح فصنع ملابسه من الجلد والصوف وحينما واجه الإنسان تحدي العيش في العراء فكر ببناء منزل يحميه من غوائل الوحوش والضواري وحينما واجه الإنسان تحدي الجوع والعطش فكر باستصلاح الأرض وزراعتها وحفر الآبار وحمايتها. وحينما واجه الإنسان تحدي المسافات فكر بترويض الحيونات واستخدامها في المواصلات وحينما واجه الانسان تحدي البحار فكر بصناعة السفن الشراعية وحينما واجه الإنسان تحدي المرض فكر بالبحث عن الدواء وهكذا كان العلم هو الحليف الأول للإنسان على هذه الكوكب ومازال ومن المعروف أن إي فعل أو سلوك إذا ما تكرار يصير عادة وإذا ما ترسخت العادة صارت ثقافة! فلماذا لم يتحول العلم والتعليم في المجتمعات العربية الإسلامية إلى ثقافة ؟ وما الذي يفسر شيوع الخرافة والعنف والتعصب والتطرف والإرهاب بعد هذا المسار الطويل من نشوء المؤسسات العلمية الحديثة في المجتمعات العربية الراهنة. وما علاقة العلم بالثقافة؟ وكيف يمكن أن تكون الثقافة السائدة في مجتمع ما دافعا لتنمية العلم وازدهاره أو معرقلة لنموه وتطوره؟..
إن اكتساب معرفة وضعية أو عقلية- أو السعي وراء العلم، والأمر سيان بكثير أو بقليل- يتحدد إلى حد كبير من خلال نظام الفكرة الشاملة الذي يسود في وقت معين في المجتمع. نظم الفكرة الشاملة – التي يقصد بها المعتقدات والمواقف والأعراف الاجتماعية، والافتراضات العامة، والمواقف الدينية والإيديولوجية المحددة – هي ذات أهمية بالغة في تاريخ البشرية. لقد قارنها جوليان هكسلي Julian Huxley بالهياكل العظمية في التطور البيولوجي: فهي توفر البنية للحياة التي تنعشها وتلبسها، وتقرر إلى حد بعيد الطريقة التي ستعيش بها. إن القيم العليا والأهداف التي يطمح إليها المجتمع إنما يتم العثور عليها في الطريقة التي يربى بها أبناءه. وههنا يواجه المرء بحق مسألة ما إذا كان المجتمع يثمّن التحول والتغير أو يفضل النظام القائم أو القديم. فما الذي يفسر نهضة اليابان والصين والهند والنمور الآسيوية الأخرى منذ بداية القرن العشرين ، بعد أن كانت واقعة تحت نير الاستعمار الغربي وتنويعاته المختلفة، مثل ما كانت عليه المنطقة العربية تماما؟ لماذا نهضت شعوب الشرق آسيوية في الشرق الأقصى والأدنى بينما ظل الشرق الأوسط كما كان متخلفا وها هو اليوم بات يشكّل نقطة سوداء في بلاد الشرق والعالم أجمع ؟ هذا في حين كانت اوضاع الدول العربية بالقياس الى البلدان الشرق آسيوية الناهضة اليوم مثل كوريا وسنغافورة وماليزيا وتايوان بل حتى الهند والصين واليابان ، كان وضع بعض الدول العربية وقدراتها الاقتصادية أفضل بكثير من وضع الدول الناهضة قبل نهضتها طبعا؟ لماذا تعثرت حركة النمو والتنمية واليقظة والنهوض في البلاد العربية الإسلامية واين يمكن لنا العثور عن الأسباب التي يمكنها تفسير هذا الأمر ؟!..
ثمة من يرى أن وراء نهضة الشعوب الشرق آسيوية أسباب ثقافية ، وأن الفلسفات والعقائد الفكرية الشرق آسيوية مثل الكونفوشيوسية والبوذية والطاوية والجيانية بما تمتلكه من منظومة قيمية إيجابية تحث على السلام والتناغم والانسجام والإيثار والتضحية والإخلاص بالعمل والنزعة الجماعية ونبذ الأنانية وقمع الشهوات والانفعالات العنفية والنزعة السلامية وحرية الذوات الفردية في ممارسة الخبرات الدينية ونبذ التعصب والتطرف والتكفير ومن ثم تعايش المذاهب والاعتقادات والطوائف والأفكار والأديان بكل سلاسة وتقدير واحترام في الدولة الواحدة اذ يوجد في الهند وحدها أكثر من ألفي طائفة دينية متعايشة.لقد أثارت نهضة الشرق الآسيوي حَفِيظة أوروبا الغربية وجعلتها تعيد التفكير من جديد في الشرق ومعناه وممكناته، فكان المدخل الثقافي في تفسير تلك الظاهر هو ما جذب الكثير من الأهتمام بعد أن تبين عدم كفاية المداخل النظرية الآخرى التي تم الرهان عليها في الغرب ، ومنها المدخل العسكري والأمني والمدخل المادي الاقتصادي ، والمدخل التعليمي التربوي وغير ذلك. في ضوء هذا المنظور يمكن تمثيل العلاقة بين العلم والثقافة بعلاقة الابن والأم، فالثقافة هي الرحم الحي لتخصيب وميلاد ونمو العلم، فكيفما كانت صحة الأم يكون الابن سليماً أو سقيماً. ولا تطور ولا تقدم ولا تنمية الا بمعرفة وفهم قوانين الطبيعة والتاريخ والمجتمع وحركتها ولا يكون فهمها الا بازدهار الثقافة بوصفها قوة التاريخ الإبداعية وتتعين بذلك التطور الدائم المستمر في العلوم والفنون والآداب ولا يكون ذلك الازدهار والتطور الثقافي إلا في بيئة حضارية متعافية بوصفها قوة التاريخ التنظيمية سياسة واخلاقا وتشريعا..
وقد عبرت عن وجهة نظري عن مشكلة العلاقة بين العلم والتعليم والثقافة في المجتمعات العربية والإسلامية المعاصرة إذ لم اقتنع بتفسير الدكتور توفيق شومر بشأن الأمية الابجدية والمنهجية في تفسير عجز العرب عن استئناف النهضة واليكم وجهة نظري التي طرحتها بإيجاز واختصار البارحة بسبب ضيق الوقت..
من المعروف أن إي فعل أو سلوك إذا ما تكرار يصير عادة وإذا ما ترسخت العادة صارت ثقافة! فلماذا لم يتحول العلم والتعليم في المجتمعات العربية الإسلامية إلى ثقافة ؟ وما الذي يفسر شيوع الخرافة والعنف والتعصب والتطرف والإرهاب بعد هذا المسار الطويل من نشوء المؤسسات العلمية العربية إذ تعد الجامعة مقوماً أساسياً من مقومات الدول العصرية، وركيزة من ركائز تطور المجتمعات البشرية وتحقيق تقدمها العلمي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي، فضلاً عن كونها بيوتاً للخبرة ومعقلاً للفكر والإبداع، ومركزاً لانتقال الإنتاج والمعرفة وتطبيقها وبؤرة للتحديث والتجديد والتنوير والتغيير، وهي أهم وأخطر مؤسسة حديثة وإستراتيجية في تاريخ الحضارة الإنسانية، وذلك لإسهامها الحاسم في نهضة وازدهار مشروع الحداثة العلمية العقلانية في عموم الكرة الأرضية، وأهمية الجامعة لا تعود إلى قيمة وظائفها الأساسية الثلاث: المتمثلة في نقل المعرفة خلال وظيفة التدريس، أو في إنتاج وتطوير المعرفة وظيفة البحث العلمي أو في استخدام وتطبيق المعرفة وظيفة خدمة وتنمية المجتمع فحسب، بل وإلى كونها تعد المثل الأعلى لمؤسسات المجتمع المدني الحديث والإدارة البيروقراطية الرشيدة، وذلك بما تمتلكه من بنية تشريعية دقيقة التنظيم وإدارة فنية أكاديمية كفؤة وعالية الجودة وقيم ومعايير، وهيئة أكاديمية علمية قانونية وثقافية وأخلاقية وجمالية وحضارية وإنسانية وعقلانية شاملة..
وقد تأسست أول جامعة عربية في مصر عام 1908م بجهود أهلية ثم تحولت إلى جامعة حكومية عام 1925م جامعة القاهرة حالياً، وكانت جامعة دمشق التي تأسست عام 1923م أول جامعة عربية حكومية حديثة وفي عام 1942م أنشأت جامعة الإسكندرية وفي العام ذاته تأسست جامعة القرويين في مدينة فاس المغربية، ثم تأسست جامعة الخرطوم سنة 1955م وجامعة بغداد في سنة 1957م وتأسست أول جامعة في عدن 1970م وفي عام 1971م تأسست جامعة صنعاء، وتأسست جامعة السلطان قابوس في مسقط عام 1986 وهناك ما يربوا على 700 جامعة عربية حكومية وخاصة، معظمها حديثة النشأة إذ نشأ أكثر من 80% منها بعد عام 1970م. ففي الجزائر 66 جامعة وفي المغرب 29 جامعة وفي تونس حوالي 30 جامعة ومؤسسة تعليم عالي. ففي اليمن وحدها اليوم أكثر من أربعين جامعة فضلا المعاهد والمؤسسات التعليمية الأخرى. هذا التوسع الكمي في الجامعات اليمنية أفضى إلى إنتاج عشرات الآلاف من حملة الشهادات الأكاديمية من النوع الاجتماعي، ورغم ما لهذا من ملامح إيجابية عامة في شيوع أهمية الجامعة وشهادتها، إلا أنه أفضى إلى جعل الجامعات أشبه بالمدارس التقليدية التي تمنح الشهادات لغرض البحث عن وظائف عمل ممكنة..
يصعب الحديث عن معايير الجودة والتمييز والأداء الأكاديمي والقيم المهنية بمعزل عن المؤثرات السوسوثقافية التي تأتي من خارج أسوار الجامعة، ونحن نعلم أن مسألة النمو العلمي وإزهار العلم والتعليم هي مسألة ليست علمية بل سياسية حضارية وثقافية، فكذلك يمكننا القول، أن مشكلة معايير الجودة والتميز ليست مشكلة فنية أو إدارية أو أخلاقية أو ذاتية يمكن حصرها وحلها داخل جدران الجامعة الأربعة أو في أداء عضو هيئة التدريس فقط بل هي مشكلة أكثر تعقيداً مما يمكن تخيله، أنها تتصل بنسق هائل من المستويات والعناصر الحضارية والتاريخية والفكرية وكل المنظومة الثقافية للمجتمع التقليدي أو الحديث، إذا أن الجامعة بحكم حداثة ميلادها في بيئتنا الثقافية التقليدية ظلت عرضه للاختراق من البنى والقوى والقيم والممارسات والعادات والمعتقدات التقليدية التي تشن حرب لا هوادة فيها ضد هذه المؤسسة الوليدة بدون وعي في معظم الأحيان وبوعي أحياناً وهذه هي سنة من سنن الحياة الاجتماعية أنه الصراع الأبدي بين القديم والحديث بين التقليد والتجديد بين المألوف وغير المألوف بين القوى والمصالح الاجتماعية السياسية الاقتصادية المتنافسة المتصارعة المختلفة الاستراتيجيات والغايات والأهداف صراع بين المعروف والمجهول بين الطبع والتطبع، بين العادات التي تشكلنا والعادات التي نريد أن نشكلها هذا يعني أن التعليم الجامعي على صلة وثيقة بالسياق التطوري التاريخي للمجتمع وتراثه وقيمه ومؤسساته وبنياته وتقاليده من جهة وبالمؤسسة الأكاديمية الحديثة وتاريخ نشأتها ومستوى تقدمها من جهة اخرى..
إذ يصعب فهم وتفسير تخلف مخرجات جامعتنا بمعزل عن تخلف المجتمع والجامعة ككل.فالالتزام بأنماط معينة للعلاقات الاجتماعية يولد طريقة معينة في النظر إلى العالم، كما أن رؤية العالم بطريقة معينة تبرر نموذجاً منسجماً معها للعلاقات الاجتماعية. ومن المعرف أن أفكار الناس ونظراتهم للعالم وإلى أنفسهم والآخرين وكيفية تجسيد الحياة فيه نابعة من علاقاتهم الاجتماعية ففي مجمع لا يمتلك ثقافة مؤسسية ولا ثقافة قانونية ولا يزال يخضع لهيمنة العلاقات التقليدية كيف يمكن أن تكون فيه المؤسسة الأكاديمية وقيمها لا سيما إذا تركت مكشوفة لاعداءها التقليديين بلا حماية وبلا رعاية من الدولة والمجتمع وبلا سلطة خارجية أو ذاتية وفي ثقافة لا يزال بعض الناس فيها ينكرون الطبيعة وقوانينها والإنسان وعقلة وحريته وغير ذلك الظواهر والموضوعات التي هي الموضوع الأول والأخير لكل العلوم الطبيعية والإنسانية وينكرون العقل الإنساني كأداة ومعيار للمعرفة العلمية بل وينكرون الإنسان بعده كائن كرمه الله وأكرمه بالعقل وبالقدرة على التمييز والمعرفة ومن ثم فهو يستحق بأن يعيش حياته بحرية وكرامة وأمن وأمان هذا الإنسان الذي هو الموضوع الجوهري لكل العلوم الإنسانية والاجتماعية وفي ثقافة رسمية وشعبيه لا زال مفهوم العلم فيها يثير الالتباس وغير متفق عليه، بل لا زال الاعتقاد الراسخ، بأن العلماء هم “علماء الدين أو علما الشريعة ولا أحد سواهم)، وأن العلم هو العلم الشرعي النافع في الدار الآخرة لا في هذه الدنيا الفانية (وأن كل جديد بدعة وكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار) هذا الحديث الشريف الذي يحذر من البدع والابتداع في العقيدة الدينية الإسلامية الحنيفة السمحاء والذي جرى تأويله وتعميمه للآسف الشديد على كل مناحي حياة المسلمين بسبب الغلو والتطرف في التأويل والتفسير، وفي مجتمع لا زالت فيه الثقافة السحرية والأسطورة والخرافية واللاهوتية تهيمن على كل الأفق الثقافي والفكري عند الخاصة والعامة في مجتمع ليس من بين مثلة العليا للنجاح العلم والتعليم والتفوق العلمي والكفاءة الشخصية والأداء المتميز والمواهب الفردية بل القرابة، العشائرية القبلية والعصبية والنفوذ والمحسوبية والرشوة والوساطة والانتهازية، والابتذال والنفاق والمزايدات السياسية الأيديولوجية… يقول (جون وجاردنر) في كتابة (التميزة الموهبة والقيادة) ” “إذا أعدت الرثاثة والهرجلة مجتمعاً ما فليس من السهل على أي عضو في ذلك المجتمع أن يبقى بمعزل عن التأثر بها في سلوكه الخاص والعام.على مدى أكثر من قرن من التعليم للعلوم الحديثة لم يتحول العلم إلى ثقافة عامه في مجتمعاتنا العربية الراهنة فما هو سبب ذلك ياترى؟..
( نستكمل حديثنا في الجزء الثاني القادم )…