كتب / فتحي أبو النصر …
في ذلك الصباح الحزين، خرج اللواء الركن محمد الجرادي من منزله، يحمل في جيبه خمسة آلاف ريال فقط، لكنه حمل في قلبه ثروة من الإيمان باليمن الجمهوري..
على أنه لم يكن يعلم أن القدر قد خط بدمه فصلا أخيرا في قصة نضاله الطويل، وأن رصاصات الغدر ستختطفه من بين أهله ورفاقه، دون أن يترك له الوطن، الذي أفنى عمره من أجله، بيتا يأويه أو سدادا لديونه..
وُلِد محمد الجرادي في ريمة، المحافظة التي أنجبت أحرارا لم يحنوا جباههم إلا لله، ولا يرون في الجمهورية سوى العدل والكرامة.
ولهذا لم يكن الجرادي مجرد قائد عسكري، بل كان رجلا بحجم قضية، رجلا رأى في الجمهورية قيمة تتجاوز كل الانتماءات الحزبية والمنافع الشخصية، وكان صوته الصادق صدى لنبض الأحرار في مواجهة المليشيات التي أرادت أن تخنق اليمن في ظلام الكهنوت والعبودية..
صحيح أنه كان محسوبا على الحزب الاشتراكي، لكنه كان يقول لمن يلتقيه: “الجمهورية أكبر من الأحزاب، وأقدس من أي انتماء.” ..
وحينما اشتدت المعركة، لم يكن في الصفوف الخلفية، بل كان حيث يكون الشرف، حيث تكون التضحية، وحيث يكون الدم هو الحبر الذي يكتب به الرجال مواقفهم…
في 8 نوفمبر 2022، كان الجرادي متجها إلى فندق بلقيس في مأرب لحضور ندوة عسكرية. لم يكن يعلم أن الغدر ينتظره في الطريق، وأن قتلة بلا ضمير قد قرروا أن يطفئوا صوتا طالما دوى بالحقيقة، وطالما أزعج أعداء الجمهورية…
ففي لحظة خاطفة، تحولت مأرب إلى مسرح لجريمة أخرى تُضاف إلى سجل التصفيات التي طالت أحرار الجيش اليمني، من الشهيد عبد الرب الشدادي وغيرهم…
ليسقط الجرادي مضرجا بدمائه، ومعه سقط مرافقه الوفي طارق الوالبي، لكن صوت الحق لا يُقتل، والتاريخ لا ينسى الأبطال، حتى وإن حاول الخونة إخفاء الحقيقة…
المأساة لم تنتهي عند لحظة الاغتيال، بل بدأت بعدها. إذ لم يُقبض على القتلة، لم تُكشف الحقيقة، ولم تحصل الأسرة على حقها في العدالة. على العكس، وجد أبناء الشهيد أنفسهم مهددين بالطرد من منزلهم المستأجر، بينما بقيت ديون الجرادي معلقة على ورثته، دون أن يكترث أحدٌ لمصيرهم..
مستشار وزير الدفاع وقائد اللواء 81 مشاة سابقاً،
كان قاتل في صفوف الجيش العربي العراقي.مع الجيش العراقي في الحرب العراقية الإيرانية
كان من المؤسسين للجيش الوطني في معسكر العبر، الذي توافد اليه الأحرار من مختلف المحافظات، غالبيتهم من محافظة ريمة فقاد اللواء 81 مشاة، وخاض به مع ضباطه وجنوده معارك بطولية في محيط مدينة مأرب، وصولاً إلى فرضة نهم، كما كان القائد الوحيد بعد اللواء الركن عبدالرب الشدادي الذي وصلت قواته العسكرية إلى مشارف مدينة صرواح…
في الحقيقة كان الجرادي يحمل هموم الجيش الوطني، لكنه غادر الدنيا دون أن يجد من يحمل همومه. قاتل لأجل الجمهورية، لكنه لم يجد من يُقاتل من أجله بعد استشهاده. وها هي أسرته اليوم، في ذكراه ، تجدد صرختها في وجه الصمت والتجاهل، تطالب بما هو حقٌ لها، بما هو حقٌ لكل يمني شريف: العدالة والإنصاف…
من هنا فإن السؤال الذي يطرحه كل من عرف الجرادي: هل يمكن لوطن أن ينتصر إذا كان يتخلى عن أبطاله؟ بل كيف يُمكن أن نواجه المليشيات، ونحن نُفرط في دماء من حملوا أرواحهم على أكفهم دفاعا عن اليمن؟ كيف يُمكن أن يكون هناك مستقبلٌ لهذا الوطن، إذا كان كل من يُقاتل لأجله يُترك وحيدا، في حياته وبعد موته؟..
على إن القتلة، أيا كانوا، لن ينجوا من مصيرهم المحتوم، لكن العار سيظل يلاحق كل من فرّط في قضية الجرادي، وكل من لم يقف مع أسرته، وكل من جعل دماءه تُهدر بلا حساب…
اليوم، وفي غمرة روح اللواء الركن محمد الجرادي، لا نطلب سوى العدالة. العدالة التي تأخرت كثيرا، لكنها تظل المطلب الوحيد الذي لن يسقط بالتقادم.
يطالب اهله وذويه وجنوده ورفاقه بالقبض على القتلة الرئيسيين ومحاكمتهم علنا. إضافة إلى تمكين الأسرة من الاطلاع على الأدلة وكشف الحقيقة..
وكذا توفير سكن كريم لأسرته، بعد أن ضحت بأكثر مما يملكون. علاوة على سداد ديونه المستحقة التي كانت لخدمة الجيش الوطني..
بالتأكيد فإن الجمهورية، التي كان يؤمن بها الجرادي، لا تكون جمهورية فعلا إلا إذا أنصفت أبناءها الأوفياء، وإن الدولة، التي حلم بها، لا تكون دولة إلا إذا كانت العدالة هي ميزانها..
قبل عامين وفي ٢٦ فبراير ٢٠٢٣ شهدت مارب تشييعا مهيبا للشهيد المغدور الجرادي وحتى الآن مازال القتلة غير مقبوض عليهم..
لذلك لا يجب أن يكون السؤال “هل تتذكرون الجرادي؟” بل “كيف لا تتذكرونه؟” كيف لا يبقى في الضمير الحي لهذا الوطن؟ كيف لا يكون اسمه علامة فارقة في تاريخ النضال الجمهوري؟
أنا كلما كنت اسمع صوته كنت على يقين أن الجمهورية ستنتصر على المليشي ات الح و ت ي ة.
رحم الله البطل المغدور اللواء الركن محمد الجرادي.. واحد من انبل الجمهوريين واصدق قيادات الجيش اليمني شرفا ووطنية.ورحم كل من سار على درب الشرف والكرامة. وليكن دمه صرخة توقظ الضمير الغافل، حتى لا يُقتل الأحرار مرتين، مرة برصاص الغدر، ومرة بالنسيان…