فهمي محمد
إذا كان تاريخ البشرية يخبرنا عن كفاح الإنسان وعن تجربة الشعوب والأمم مع الثورة أو مع فكرة التغيير الثورية، فإن تفاصيل صفحات هذا التاريخ تضع هي الأخرى بين أيدينا أسباب اندلاع كل ثورة من تلك الثورات التي قادها الفعل الثوري في هذه البلاد أو في تلك، خصوصاً إذا تحدثنا عن تاريخ القرن الثامن عشر الذي شهد مع تجربة الإنسان والثورة أعظم الثورات وأخلدها على الإطلاق (الثورة الفرنسية).
بحيث تحولت هذه الواقعة بين قوسين إلى حدث تاريخي تجاوز بواقع حال الشعوب والأمم الأوروبية مآلات الأحداث السياسية التي كانت تتكرر بين الحين والآخر مع سقوط عائلة حاكمة في أوروبا وصعود أخرى دون تغيير حقيقي يتعاطى مع جذر المشكلة التي كانت تعيق مستقبل الإنسان في فرنسا بشكل خاص وفي أوروبا بشكل عام. لهذا ستظل الثورة الفرنسية «بما هي حدث ثوري تولى صناعة الحدث التاريخي في أوروبا» ثورة خالدة ما بقي كفاح الإنسان في سبيل الحرية خالدا على هذه الأرض.
إن أهمية أو دلالات الحديث عن الثورة وأسبابها يعني أن الثورة في كل زمان ومكان لا تندلع ضد الحكام باشخاصهم أو ضد أنظمة سياسية بعينها بقدر ما هي ثورة ضد واقع سياسي واجتماعي واقتصادي تعيش في ظله المجتمعات أو الشعوب في مرحلة تاريخية، وهو واقع أقل ما يقال عن توصيفه السياسي والاجتماعي وحتى الاقتصادي، بأن المجتمعات الإنسانية أصبحت في ظله فاقدة لثُلاثية وجودها الإنساني: (العدالة والحرية، ورغيف الخبز).
بمعنى آخر نتحدث في هكذا مقالة عن مجتمعات أو شعوب فاقدة للشروط التي تجعل الإنسان في ظلها مخلوقا مكرما على هذه الأرض، والتي تحتم في نفس الوقت على المجتمعات المتطلعة نحو المستقبل في حال مصادرة حقها في أن تعيش في ظل هذه الشروط، استدعاء العمل بفكرة الثورة وهو عمل يبدأ بالكلمة الناقدة تجاه الواقع (مع بروز الدور الفاعل لسلطة أهل الفكر داخل المجتمع) ثم يتحول في ظل تجربة الثورة إلى فعل ثوري معني بمسألة تغير مسار التوجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي من أجل تغير واقع الإنسان والمجتمع نحو تحقيق التقدم الذي يجب أن يكون حاضراً مع مستقبل الأجيال، أكثر من كونه فعلا ثوريا معنى -كغاية ثورية- في تغير الوجوه الحاكمة التي تربعت على كرسي السلطة قبل اندلاع الثورة .
وعطفاً على ذلك فإن أهمية تغير وجوه النظام الحاكم بأشخاصهم تأتي من زاوية أن هؤلاء الحكام يشكلون في ظل سلطتهم السياسية حالة سلطوية ممانعة لفكرة التغيير التي تعني في كل الأحوال تغيير التوجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي وليس تغيير الوجوه الحاكمة بآخرين يحتلون مقاعدهم السياسية والإدارية في سُلم السلطة، مع إبقاء حياة الناس حُبلى بأسباب الثورة في ظل سلطة الثورة، هذا إذا لم تكن حياتهم قد أصبحت تعاني من مضاعفة في أسباب الثورة أكثر من ذي قبل كما هو الحال في اليمن .
غير أن خطورة مضاعفة أسباب الثورة الناتجة عن إخفاق سلطة الثورة في تغيير مسار التوجه السياسي والاجتماعي والاقتصادي، تكمن في حقيقة أن مضاعفة الأسباب الثورية، سيما في المجتمعات الأقل وعياً وثقافة، لا تستدعي مواصلة الفعل الثوري، أو تستدعي العمل بالثورة مجدداً من أجل الانتصار لفكرة التغيير كما حدث مع الثورة الفرنسية، بل تستدعي حالة وجدانية شعبية تحن للماضي وتترضى على الحكام الذين أسقطتهم الثورة، كما هو الحال مع تجربة الثورة العربية بشكل عام واليمنية بشكل خاص!
بدون شك أن الإخفاق الثوري مع فكرة التغيير وتحديداً في تغير مسار التوجه، يجعل المجتمع يذهب دائما للمقارنة بين الحكام الجدد والحكام السابقين من واقع حياتهم اليومية، وهي مقارنة وإن كانت في حقيقة أمرها تقاس بين السيئين من الحكام والأسوأ منهم، داخل دائرة الفشل الممتد من الماضي إلى الحاضر، إلا أنها من جهة أولى تكرس محنة الثورة كمشروع للمستقبل مع إشكالية تغيير الوجوه على حساب تغيير التوجه، بالمعنى الذي يحقق شيئا من رد الاعتبار للوجوه السابقة (الحكام السابقين).
ومن جهة ثانية فإنها مقارنة تجعل العوام من واقع معاناتها في زمن سلطة الثورة، تذهب للكفر بفكرة الثورة على اعتبار أن الثورة أصبحت تتحمل مسؤولية ما يجري في نظرهم وليس الأشخاص الذين أصبحوا يستحقون مواصلة العمل الثوري ضد وجودهم على رأس السلطة باسم سلطة الثورة.
بيت القصيد أن الإنتصار لفكرة التغيير أو للمستقبل الذي يتطلع إليه الثوار يتحقق في حال أن تمكنت سلطة الثورة الحاكمة من تغير التوجه السياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي كان في الأساس مبرراً لاندلاع الثورة ومبرر للتضحيات الجسام التي قدمها الفعل الثوري في سبيل تحقيق ثورة الخلاص التأريخي.
لهذا فإن تجربة الثورة في اليمن التي تميزت بتكرار اخفاقاتها في تغير مسار التوجه نحو المستقبل الذي يجب أن يكون، وفشلت في نفس الوقت في تحقيق ثورة الخلاص التأريخي لليمنيين مع اندلاع ثلاث ثورات ووحدة، لا تجعل حالي كحال الكثيرين ممن اصبحوا في اليمن يحنون للوجوه الماضية أو يذهبون للكفر بفكرة الثورة، بل تزدني هذه التجربة – بكعبها الاخيل – قناعة راسخة بنجاعة تعريفي للثورة، حين عرفتها في احدى مقالاتي السابقة من زاوية حدثها السياسي وحدثها التأريخي مع فكرة التغيير بالقول إن “الثورة الحقيقية هي الثورة القادرة على إعفاء الأجيال القادمة من مشقة التفكير في الثورة”.