أحمد عوضه
دائمًا يُنظر إلى المجاعات والتردّي المعيشي خلال الصراعات والحروب بوصفها أثرًا جانبيًّا، من واقع كونها تتكرر تاريخيًّا بصرف النظر عن عمق ونطاق تأثيرها، لكنها تكون أشد مضاضة حال حدوثها بشكلٍ متعمّد ومفتعل من جانب أطراف الصراع، إمعانًا في تطويع الجماهير وجعلها أليفةً، على نحوٍ يتجافى مع القانون الدولي والمحاذير الإنسانية وأخلاقيات الحرب، وذلك بالضبط ما دأبت عليه أطراف الصراع في اليمن خلال السنوات الست الماضية من الحرب في اليمن، متسببةً في خلق “كارثة إنسانية” تصفها الأمم المتحدة بأنها الأسوأ في العالم.
وتتشاطر أطراف الصراع اليمني -دون استثناء- وزر افتعال واقع الجوع في البلاد، منذ اندلاع الحرب التي جَرّأت الأطراف المتحاربة على استخدام الجوع كأحد الأساليب العسكرية في الصراع بحسب نتائج كشفت عنها دراسة نوعية ميدانية صدرت حديثًا عن منظمة مواطنة لحقوق الإنسان (المرشحة مع حملة مناهضة تجارة الأسلحة، لجائزة نوبل للسلام 2021) ومنظمة الامتثال العالمي للحقوق (GRC)، ركّزت على تعقب ورصد وتحليل واقع الجوع الناجم عن الهجمات أو الأساليب العسكرية التي اتبعتها أطراف النزاع خلال الفترة ما بين 2015 – 2021، سلطت خلالها الضوء على جانبٍ ظلّ طيلة السنوات الماضية مغيّبًا -أو يكاد- عن التناول البحثي والإعلامي بما يتناسب مع تأثيره في تعميق الأزمة الإنسانية في اليمن.
أما عن الكيفية التي اتبعتها أطراف النزاع في خلق ذلك الواقع؛ فتُقدِّم الدراسة إجابات دقيقة وموثَّقة تعضدها شهادات مباشرة من الضحايا والمصادر ذات الصلة بتفصيلٍ تطرق إلى البواعث والآثار التي نجمت من جراء ذلك الواقع، حسب الدور الذي لعبه كل طرف ونطاق تأثيره، في أربع مناطق جغرافية خلال الفترة بين عامي 2015 و2021، بناءً على توثيق “النمط المحدد الذي يؤثر على الغذاء والماء، الناجم عن: الهجمات الجوية التي شنها التحالف بقيادة السعودية والإمارات على المزارع في محافظة حجة ومرافق المياه في محافظة صعدة والصيادين ومرافق الصيد في محافظة الحديدة والألغام الأرضية التي زرعتها جماعة أنصار الله (الحوثيين) وتأثيرها على الأمن الغذائي والمائي في محافظة تعز، وعرقلة المساعدات الإنسانية من قبل الجماعة في محافظة صعدة”.
يرى الباحث في مجال الهندسة الغذائية عبدالله حسن الأهدل أن الأمر “لا يختلف بين من يزهق روح الإنسان بشكل مباشر، وبين من يخنقه تدريجيًّا ويحاصره في قوته ورزقه، حين تتعذر عليه أسباب الدخل وتزري به الفاقة وضيق الحال”.
جريمة حرب واضحة المعالم قانونيًّا.
تناقش الدراسة سلوك أطراف الحرب في استخدام التجويع كوسيلة من وسائل الحرب، في إطار كونها تعد “جريمة حرب” تتجافى مع محظورات القانون الدولي الإنساني، بمقتضى المادة الرابعة عشرة من البروتوكول الإضافي الثاني، الذي يحظر استخدام “التجويع كأسلوب من أساليب الحرب” في النزاعات المسلحة غير الدولية، حيث إنها تنص على أنه “يُحظر لهذا السبب مهاجمة أو تدمير أو إزالة أو تعطيل الأعيان أو المواد التي لا غنى عنها لبقاء السكان المدنيين على قيد الحياة، مثل المواد الغذائية والمناطق الزراعية المستخدمة لإنتاج المواد الغذائية والمحاصيل والثروة الحيوانية ومنشآت وإمدادات مياه الشرب وأعمال الري”.
بمقتضى ذلك تمحور موضوع الدراسة على تسليط الضوء على الدور المتعمد من جانب أطراف النزاع، في التسبب المباشر في استهداف الأعيان التي تقوم عليها حياة السكان المحليين في مناطق الصراع ونطاقات التماس، كتعذر ممارسة الصيد، أو وصول المزارعين إلى الأسواق لبيع محاصيلهم، وكذا تأثير الألغام التي زرعها الحوثيون في أجزاء مختلفة من السهل الغربي لليمن في محافظتي حجة والحديدة؛ الأمر الذي أفضى بكثير من قاطني تلك المناطق إلى التشرّد بعيدًا عن مناطقهم ومصادر دخلهم، بعد أن أصبحت الألغام تهدد نشاطهم الحياتيّ بسياج من المخاطر تجعل الوصول إلى المراعي أو مورد الماء، مجازفةً غير محمودة العواقب، إلى جانب عرقلة وصول المعونات الإغاثية إلى الفئات المستهدفة من قبل جماعة أنصار الله والتحالف إلى جانب قوات الحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا.
ويتركز التأثير الأكبر لهذه التبعات في محافظة الحديدة وأجزاء من محافظة حجة، وهي المناطق التي ما تزال ميدانًا للمعارك منذ سنوات، حيث وثّقَت الدراسة أكثر من 966 واقعة عنف مسلح بمحافظة الحديدة وحدها، خلال العام قبل الماضي فقط، إلى جانب استهداف التحالف السعودي الإماراتي لمصائد الأسماك وقوارب الصيادين في المحافظة الساحلية، التي يعتمد نسبة معتبرة من سكانها على الصيد أو على أعمال لها صلة بالبحر، خصوصًا بمديرية اللحية التي نالت نسبة النصف من تلك الهجمات؛ الأمر الذي انعكس على الجانب الاقتصادي في المحافظة، وجعل نحو 56% من سكانها -كما توضح الدراسة- يعانون من انعدام الأمن الغذائي.
في هذا الصدد، يبدى الباحث في مجال الهندسة الغذائية، عبدالله حسن الأهدل، انطباعًا إيجابيًّا وتفاؤلًا إزاء استجلاء قضية استخدام أطراف الصراع للجوع كسلاح غير أخلاقي في الحرب، حيث يقول: “أرى أن توثيق هذه القضية يعد بادرة شجاعة ومسؤولة، مع أني كنت أستغرب أن مثل هذه القضية المهمة ظلت مغيبة عن اهتمام المنظمات الحقوقية أو العاملة في مجالات الإنسانية، رغم وضوح استهتار أطراف الحرب، أو قُل انتقامهم من الشعب، خصوصًا في مناطقنا (يقصد تهامة)، الذي أصبح من أوضح الواضحات”، حد قوله.
كما يلفت الأهدل في حديثه لـ”خيوط”، إلى أنه من الممكن أن يوفر التوثيق البحثي غير المتحيز، برهانًا موثوقًا لمقاضاة “أمراء الحرب” فيما بعد، جزاء “الإجرام المتعمد” بحق تهامة واليمن عمومًا، ذلك أن الأمر “لا يختلف بين من يزهق روح الإنسان بشكل مباشر، وبين من يخنقه تدريجيًّا ويحاصره في قوته ورزقه، حين تتعذر عليه أسباب الدخل وتزري به الفاقة وضيق الحال”، يضيف الأهدل.
تصالح إجباري مع موتٍ متربص
على مدى ثلاث سنوات ونيف، عمل الإعلامي محمد يوسف الخيواني، مراسلًا ميدانيًّا لصالح إحدى الفضائيات المحلية، في الشمال الغربي من محافظة حجة، التي أصبحت مناطق عسكرية وساحة للقتال بين جماعة أنصار الله (الحوثيين) والقوات الحكومية في المنطقة العسكرية الخامسة، متنقلًا بين مديريات حرض وميدي وحيران، يقول في تصريح خاص لـ”خيوط”: “معظم سكان تلك المناطق يعتمدون على الزراعة بشكلٍ رئيسي، وتربية الماشية، نسبة كبيرة من العائلات التي كانت هنا هربت من جحيم الحرب، وأصبحوا مشردين في مناطق غير قادرين فيها على الحصول على ما يحتاجونه من أساسيات الحياة، كما أن الألغام أصبحت كابوسًا يترصد السكان ومواشيهم”.
يروي الخيواني، قصة أرملة من مديرية حيران، نفَقَ عليها أكثر من جمل جراء انفجار ألغام زرعها الحوثيون بشكلٍ عشوائيّ في الحقول والمراعي، قبل انسحابهم؛ الأمر الذي أفسد حياة من بقي من السكان وضيّق عليهم نطاق المراعي، ومع ذلك ما تزال تبعات ذلك في تصاعد. كما يلفت إلى حادثة أخرى عايشها بنفسه، يقول: “قبل عدة أشهر، أصيب مزارع وزوجته بجروح بالغة وخسرا سيارتهما الوحيدة، إثر انفجار لغم أرضي أثناء ذهابهما إلى الحقل”.
يستطرد: “منذ 2018 أصبح المزارعون في حيران مطوقين بخطوط التماس، غير قادرين على تسويق محاصيلهم الزراعية، حيث لا يترخص الحوثيون في وصول المزارعين إلى مديرية عبس المحاذية لحيران من جهة الجنوب والخاضعة لسيطرتهم، كما لم يعد بالإمكان الاتجاه شمالًا نحو الأسواق السعودية كما كان قبيل الحرب، بالتالي تعقد الوضع الاقتصادي وازداد سوءًا في هذه المناطق”.
تتبارى جميع الأطراف -بأدوار متفاوتة- في عرقلة وصول المعونات الإغاثية بشكل متكرر، حيث تؤكد الوقائع التي رصدتها الدراسة أن جميع أطراف النزاع، ساهمت بطريقةٍ ما في إعاقة أو تأخير وصول المعونات الغذائية أو الطبية إلى المستفيدين، بصورٍ متعددة.
وفي هذا الإطار، وثّقت الدراسة العديد من الضحايا والتفاصيل المشابهة، من خلال التحري والرصد الميداني والمقابلات، انتهت إلى توثيق 269 انفجارًا لألغام أرضية منذ 2014، أسفرت عن مقتل 214 مدنيًّا وإصابة 282 آخرين، خلصت إلى تأكيد أن جماعة أنصار الله هي من زرعت تلك الألغام.
عسكرة الجوع
خلال الفترة الماضية، تناولت عددٌ من التقارير الإعلامية، سعْيَ بعض أطراف الصراع، “ولا سيما جماعة أنصار الله (الحوثيين)”، إلى خلق واقع معيشي بائس في مناطق سيطرتها عن طريق منع تسليم المرتبات وتدمير مصادر الدخل التي يعتمد عليها السكان أو التأثير عليها، واحتكار الحقوق العامة (المال العام وأجور الوظائف الحكومية) على أساس الانتماء السياسي أو الأيديولوجي للجماعة، كنوع من العقوبة الجماعية غير المباشرة بحق غير الموالين للفصيل المهيمن، ومن ناحية أخرى وضعهم أمام خيارين؛ إما الجوع، وإما الانخراط في كتائبها للحصول على بعض الامتيازات والتموين الذي يوزع على أعضاء الجماعة بشكل دوري من المعونات الإغاثية التي تقدم إليهم بوصفها مساعدات تقدم للمحتاجين، وهي طريقة فعَّالة في تحشيد المقاتلين وتطويع للإرادة الجمعية بصورةٍ غير مباشرة، وأقل حرجًا.
ويُحسب للفريق القائم بالدراسة، التفاته إلى هذه الجزئية، بالإشارة إلى استغلال أطراف النزاع لـ”الوضع الاقتصادي المزري في أغلب المحافظات اليمنية، حيث تسعى جميع الأطراف إلى تدمير مصادر دخل بعض العائلات في المناطق التي تستعر فيها المواجهات، لكي تدفع بالمدنيين والشباب للانخراط في صفوف التجنيد حتى يستطيعوا توفير مصدر دخل جديد عوضًا عما تدمر”.
إعاقة العمل الإغاثي
على صعيد العمل الإنساني، تتبارى جميع الأطراف -بأدوار متفاوتة- في عرقلة وصول المعونات الإغاثية بشكل متكرر، حيث تؤكد الوقائع التي رصدتها الدراسة أن جميع أطراف النزاع، ساهمت بطريقةٍ ما في إعاقة أو تأخير وصول المعونات الغذائية أو الطبية إلى المستفيدين، بصورٍ متعددة، بما في ذلك قيود الحظر المفروض على المنافذ اليمنية من قبل التحالف الذي تقوده السعودية والإمارات، وإجراءات التفتيش التي تخضع لها السفن التجارية وشحنات المساعدات الإنسانية، إلى الاستحواذ والهيمنة التي تفرضها جماعة أنصار الله على المنظمات الإغاثية، والشروط التي تضعها أمام المنظمات الإغاثية في مناطق سيطرتها، واقتطاع جزء منها لصالح أعضاء الجماعة، إلى جانب فرض أو منع وصول بعض المساعدات أو الفرق الإغاثية إلى المناطق المستهدفة، فضلًا عن الحصار المفروض على تعز منذ أكثر من ست سنوات.
في السياق، يؤكد عاملون في المجال الإغاثي، أن الانفلات الأمني الحاصل في البلاد، خصوصًا في المناطق المضطربة، ضاعف من مشقة إيصال المساعدات الإنسانية إلى المستهدفين.وتطرقت الناشطة والعاملة في المجال الإغاثي، زهور القباطي، في حديث لـ”خيوط”، إلى جانب الحصار الذي تفرضه جماعة أنصار الله (الحوثيين) على تعز، والعراقيل والإجراءات المتبعة في الحواجز الأمنية لأطراف الصراع، أثناء النزولات الميدانية أو الإشراف المباشر على توزيع المساعدات، أو حتى دراسة المناطق التي تحتاج إلى المساعدات بصورة عاجلة، الأمر الذي يزيد من المعاناة الإنسانية.
ولا يختلف الحال كثيرًا بالنسبة للقوات التابعة للحكومة اليمنية المعترف بها دوليًّا، إذْ تُبينُ الدراسة ممارسات وابتزازات مالية تُفرض تعسفيًّا على الفرق الإغاثية نظير السماح لها بالعبور من حواجز أمنية تخضع لسلطة الحكومة اليمنية بتعز، وكل ذلك، أدّى إلى حدوث تبعات إنسانية مدمرة على الأمن الغذائي والمائي، بتأثير تضافر الأدوار بين جميع الأطراف في توطيد مأساة الجوع في البلاد.
•••أحمد عوضه
المادة خاص بمنصة خيوط