ضع اعلانك هنا

يغيب القضاء فتظهر لغة أخرى ، حلول السلاح في زمن الحرب

عبد الرحمن حسن مجمل / خيوط

في زمن الحرب تمضي الأمور بشكل غير طبيعي، تتبدل الأدوات وتتغير الأساليب عما كانت عليه في أيام السلم، فبدلًا من الرجوع إلى القضاء لحلحلة المشاكل وفض النزاعات والاحتكام إلى العقل وتغليب لغة الحوار؛ باتت القوة ولغة السلاح هي الأداة المُثلى لحل النزاعات في نظر الكثيرين، وإن كان الواقع يخبرنا غير ذلك، فلطالما كان السلاح أداة هدم لا أداة إصلاح، تزهق به الأرواح وتدمر به الأرض وتنقلب بسببه الأفراح إلى أتراح.

في التاسعة والنصف من صباح الإثنين 7 أغسطس/ آب 2023، مرّ على أذنيَّ سماع طلقات رصاص من مسافة ليست ببعيدة من منزلي بمنطقة (بيت بادي) في عمران. في البداية لم أعِر الأمر اهتمامي لقد اعتادت أذناي سماع تلك الطلقات بين الحين والآخر في الأعراس ومختلف الفعاليات والمناسبات -مع الأسف- لكن مع استمرار سماعي لتلك الطلقات، وبشكل مختلف عما كنت أسمعه في المناسبات والأعراس خرجت إلى فناء المنزل، فرأيت جاري على سطح منزله وسألته عن سبب تلك الطلقات الكثيفة، فأخبرني أنّ اشتباكات في منطقة الأربعين، لم يتضح بعدُ من هم أطرافها.

استمرت الاشتباكات لفترة معينة ثم هدأت لفترة وجيزة، فما لبثت أن عادت بشكل أكثف، واستمرت على هذه الحال قرابة ثلاث ساعات، وتحديدًا حتى دخول وقت صلاة الظهر.

في طريقي نحو المسجد لأداء صلاة الظهر، بدأت بشاعة تلك الاشتباكات المسلحة تتضح لي شيئًا فشيئًا، فقد صُدمت عندما سمعت بوجود عددٍ من القتلى والمصابين من كل الأطراف، ولكن ما صدمني أكثر هو ما أخبرني به أحد طلاب مدرسة أهلية عن إصابة طالبة من زميلاته في الفصل بطلق ناري اصطدم بإحدى نوافذ المدرسة التي تناثر زجاجها إلى شظايا، لترتطم بوجه الطالبة حتى شوهته، وإنّ طلقًا ناريًّا آخر لم يبعد عنه سوى شعرة -مسافة أربع أصابع- سبّب رعبًا كبيرًا في أوساط التلاميذ الصغار.

بعد صلاة العصر تبيّن لي أنّ سبب الاشتباكات هو تنازع على أراضٍ بين ثلاثة أطراف: الطرف الأول وهم أُسر من منطقة بيت بادي -القرية التي أقطن فيها- وتزعم أنّ الأرض ملكهم، والطرف الثاني هم من منطقة الحجز التي تقع إلى جوار مصنع إسمنت عمران، ويزعمون هم أيضًا أنّ الأرض ملكهم، في حين تمثل الطرف الثالث بقوات الأمن المركزي والتي تعتبر الأرض وقفًا عامًّا لصالح الدولة.

اللافت أنّ هذه الاشتباكات بين هذه الأطراف ليست هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها جولات سابقة، بعد أن وجدت الأفق مسدودًا في قاعات مبنى القضاء والذي استمر لسنوات ماضية خلت، ليصير القضاء ونتيجة لعدم فاعليته في البت في النزاعات وحلحلتها، أحدَ الأسباب التي تؤدّي إلى مثل هذه الكوارث.

أثناء عودتي عصرًا إلى المنزل، رأيت مجموعة من المسلحين يخرجون من على متن مصفحة بعضهم يرتدي الملابس العسكرية، ولم أميز أنهم يتبعون الأمن المركزي إلّا بعد أن عرفت أحدهم، وكان ضابطًا في أحد أقسام الشرطة، وقد اشتبهوا بأحد الشباب الخارجين من المسجد وأخذوا يفتشونه ويهدّدونه ويضربونه بأسلحتهم ودفعوه نحو المصفحة تحت تهديد السلاح. نفس المدرعة اتجهت إلى منطقة، ثم سمعت أن أحد زملائي في الثانوية قُتل أثناء المداهمة.

الاشتباكات انتهت، لكنها تركت نساء ثكلى، وأطفال ميتمون، وآخرون مصابون، ومجموعة من الموقوفين! فهل حلت المشكلة؟ طبعًا لا، وليس هناك ضمانة من عدم اندلاعها مرة أخرى!

لم تكن اشتباكات الاثنين في بيت بادي هي الأولى في المحافظة، فقد اندلعت اشتباكات أخرى بين منطقتين متجاورتين بسبب ساقية -طريق لمرور مياه الأمطار من الجبل ليتوزع على الأراضي الزراعية- خلفت عددًا من القتلى والجرحى ولم يحُل دون استمرارها سوى وساطة قبَلية، وما هذه الاشتباكات إلّا صورة مصغرة عن المشكلة الكبرى التي يعانيها الشعب اليمني ككلّ منذ ما يقرب من تسع سنوات.

ما لم ندرك أنّ السلاح لم ولن يكون هو الحل لأيّ مشكلة، سواء صغرت أم كبرت، وما لم ندرك أنه متى ما سعينا لحل مشاكلنا الصغيرة بتغليب العقل والحوار والوسائل السلمية ونبذ العنف ووسائل القوة لحلحلتها، فلن ترتسم على وجه اليمنيين أيّ ابتسامة في بلدهم غير السعيد.

ختامًا

الأمر يقتضي الوقوف على الأسباب الحقيقية التي أدّت وتؤدّي إلى حدوث مثل هذه المشاكل التي تورث بشاعة قد لا تمحوها قادم السنين، وتبقى سلطة الأمر الواقع مطالبة بمعالجة كل تلك الاختلالات، وعلى رأسها تفعيل القضاء والعمل على استقلاليته، وضبط حمل السلاح، ونشر الوعي بمخاطر ومهالك حمله.

•••
عبد الرحمن حسن مجمل
باحث وسياسي يمني مهتم بالقضايا السياسية والحقوقية

يغيب القضاء فتظهر لغة أخرىحلول السلاح في زمن الحربعبد الرحمن حسن مجملافي زمن الحرب تمضي الأمور بشكل غير طبيعي، تتبدل الأدوات وتتغير الأساليب عما كانت عليه في أيام السلم، فبدلًا من الرجوع إلى القضاء لحلحلة المشاكل وفض النزاعات والاحتكام إلى العقل وتغليب لغة الحوار؛ باتت القوة ولغة السلاح هي الأداة المُثلى لحل النزاعات في نظر الكثيرين، وإن كان الواقع يخبرنا غير ذلك، فلطالما كان السلاح أداة هدم لا أداة إصلاح، تزهق به الأرواح وتدمر به الأرض وتنقلب بسببه الأفراح إلى أتراح.

في التاسعة والنصف من صباح الإثنين 7 أغسطس/ آب 2023، مرّ على أذنيَّ سماع طلقات رصاص من مسافة ليست ببعيدة من منزلي بمنطقة (بيت بادي) في عمران. في البداية لم أعِر الأمر اهتمامي لقد اعتادت أذناي سماع تلك الطلقات بين الحين والآخر في الأعراس ومختلف الفعاليات والمناسبات -مع الأسف- لكن مع استمرار سماعي لتلك الطلقات، وبشكل مختلف عما كنت أسمعه في المناسبات والأعراس خرجت إلى فناء المنزل، فرأيت جاري على سطح منزله وسألته عن سبب تلك الطلقات الكثيفة، فأخبرني أنّ اشتباكات في منطقة الأربعين، لم يتضح بعدُ من هم أطرافها.

استمرت الاشتباكات لفترة معينة ثم هدأت لفترة وجيزة، فما لبثت أن عادت بشكل أكثف، واستمرت على هذه الحال قرابة ثلاث ساعات، وتحديدًا حتى دخول وقت صلاة الظهر.

في طريقي نحو المسجد لأداء صلاة الظهر، بدأت بشاعة تلك الاشتباكات المسلحة تتضح لي شيئًا فشيئًا، فقد صُدمت عندما سمعت بوجود عددٍ من القتلى والمصابين من كل الأطراف، ولكن ما صدمني أكثر هو ما أخبرني به أحد طلاب مدرسة أهلية عن إصابة طالبة من زميلاته في الفصل بطلق ناري اصطدم بإحدى نوافذ المدرسة التي تناثر زجاجها إلى شظايا، لترتطم بوجه الطالبة حتى شوهته، وإنّ طلقًا ناريًّا آخر لم يبعد عنه سوى شعرة -مسافة أربع أصابع- سبّب رعبًا كبيرًا في أوساط التلاميذ الصغار.

بعد صلاة العصر تبيّن لي أنّ سبب الاشتباكات هو تنازع على أراضٍ بين ثلاثة أطراف: الطرف الأول وهم أُسر من منطقة بيت بادي -القرية التي أقطن فيها- وتزعم أنّ الأرض ملكهم، والطرف الثاني هم من منطقة الحجز التي تقع إلى جوار مصنع إسمنت عمران، ويزعمون هم أيضًا أنّ الأرض ملكهم، في حين تمثل الطرف الثالث بقوات الأمن المركزي والتي تعتبر الأرض وقفًا عامًّا لصالح الدولة.

اللافت أنّ هذه الاشتباكات بين هذه الأطراف ليست هي الأولى من نوعها، فقد سبقتها جولات سابقة، بعد أن وجدت الأفق مسدودًا في قاعات مبنى القضاء والذي استمر لسنوات ماضية خلت، ليصير القضاء ونتيجة لعدم فاعليته في البت في النزاعات وحلحلتها، أحدَ الأسباب التي تؤدّي إلى مثل هذه الكوارث.

أثناء عودتي عصرًا إلى المنزل، رأيت مجموعة من المسلحين يخرجون من على متن مصفحة بعضهم يرتدي الملابس العسكرية، ولم أميز أنهم يتبعون الأمن المركزي إلّا بعد أن عرفت أحدهم، وكان ضابطًا في أحد أقسام الشرطة، وقد اشتبهوا بأحد الشباب الخارجين من المسجد وأخذوا يفتشونه ويهدّدونه ويضربونه بأسلحتهم ودفعوه نحو المصفحة تحت تهديد السلاح. نفس المدرعة اتجهت إلى منطقة، ثم سمعت أن أحد زملائي في الثانوية قُتل أثناء المداهمة.

الاشتباكات انتهت، لكنها تركت نساء ثكلى، وأطفال ميتمون، وآخرون مصابون، ومجموعة من الموقوفين! فهل حلت المشكلة؟ طبعًا لا، وليس هناك ضمانة من عدم اندلاعها مرة أخرى!

لم تكن اشتباكات الاثنين في بيت بادي هي الأولى في المحافظة، فقد اندلعت اشتباكات أخرى بين منطقتين متجاورتين بسبب ساقية -طريق لمرور مياه الأمطار من الجبل ليتوزع على الأراضي الزراعية- خلفت عددًا من القتلى والجرحى ولم يحُل دون استمرارها سوى وساطة قبَلية، وما هذه الاشتباكات إلّا صورة مصغرة عن المشكلة الكبرى التي يعانيها الشعب اليمني ككلّ منذ ما يقرب من تسع سنوات.

ما لم ندرك أنّ السلاح لم ولن يكون هو الحل لأيّ مشكلة، سواء صغرت أم كبرت، وما لم ندرك أنه متى ما سعينا لحل مشاكلنا الصغيرة بتغليب العقل والحوار والوسائل السلمية ونبذ العنف ووسائل القوة لحلحلتها، فلن ترتسم على وجه اليمنيين أيّ ابتسامة في بلدهم غير السعيد.

ختامًا

الأمر يقتضي الوقوف على الأسباب الحقيقية التي أدّت وتؤدّي إلى حدوث مثل هذه المشاكل التي تورث بشاعة قد لا تمحوها قادم السنين، وتبقى سلطة الأمر الواقع مطالبة بمعالجة كل تلك الاختلالات، وعلى رأسها تفعيل القضاء والعمل على استقلاليته، وضبط حمل السلاح، ونشر الوعي بمخاطر ومهالك حمله.‍

•••عبد الرحمن حسن مجمل

باحث وسياسي يمني مهتم بالقضايا السياسية والحقوقية

المادة خاص بمنصة خيوط

ضع اعلانك هنا