”
***
في غمرة الاحتفال بصنعاء وقد سقطت في قبضة حلف رجعي طائفي قبل عام, انسجم خليط غير متناغم من الانتهازيين الموسميين والثوريين الجوالين والسياسيين ضيقي الأفق والمريدين المنغلقين في محاكمة “أيلول الأسود”.
ونادى فرِحون وحمقى بأن على الحزب الاشتراكي اليمني أن يسحب جريدته التي رصعت غلافها بالعنوان ذاك من نقاط البيع حتى يحتفظ بشهادتهم له بوطنيته ويساريته.
فلقد انعكس العنوان -المقتبس من اسم معركة المقاتلين الفلسطينيين ضد قوات الملك حسين في مدن أردنية عدة عام 1970- في خيالاتهم جرماً وتنكراً للثورة.
لكن حصاد نظام 21 سبتمبر بزعامة علي صالح وعبدالملك الحوثي على مدى عام ألقم هؤلاء حجراً تلو آخر, ولم يُبقِ كلمة مديح بحق تلك الارتكاسة إلا في أفواه الذين لا يخجلون من أعضاء ذلك النادي.
أما وقد خرست الجوقات التي كانت ترانيمها تخترق السماء تعظيماً لـ”ثورة الريف” وموكبها الزاحف, فالتوقيت ملائم لإطلالة على المشهد الوطني بعد عام على سقوط صنعاء.
حقاً, قوضت الحركة الحوثية بعض مراكز النفوذ التقليدية وأشهرت راية العداء للسعودية ولاكت مفردات عن الشعب والعدالة ومحاربة الفساد فبدت بذلك عند من تجرفهم الدعاية وتعوزهم أدوات الغوص في عمق الأحداث موجة جديدة من الحركة الوطنية تقود مداً ثوريا.
وأخفق المنجرفون مع انتصارات الثورة المضادة في الإمساك بحقيقة أن الحوثيين نهجوا ذلك بدوافع وخلفيات طائفية وانتقامية خالصة, فعداؤهم للسعودية مبعثه معتقدها الوهابي؛ العدو اللدود لمذهبهم الزيدي وطردهم لآل الأحمر وعلي محسن سببه تزعم الأخيرين لنشر الوهابية داخل الجغرافيا الزيدية.
لذلك لا يستوي عداء الجبهة القومية أو ثوار سبتمبر 1962 للسعودية وعداء الحوثيين, فللأول مضمونه الوطني والاجتماعي وللثاني مضمونه الطائفي. وأي توفيق بينهما إنما هو ضرب من تسول التاريخ وتعسفه.
ورأى انطباعيون في الحوثية حركة ثورية استناداً إلى طبيعتها العنيفة فقط, كما لو أن كل حركة عنيفة هي ثورية بالضرورة دون تمييز بين الثورة المسلحة والعنف الطائفي أو الفوضوي.
لا يخضع الحكم برجعية الحركات أوتقدميتها وثوريتها للميول والأمزجة بل بفحص طبيعتها وجذورها. وإذا التبست طبيعتها على قليلي الفطنة أو من يجردون الأحداث من مضامينها ويعزلونها من سياقاتها الكاملة فبسلوكها وأدبياتها الداخلية على الأقل.
وبناء على ذلك, تربض الحوثية في درك الرجعية الأسفل باضطهادها للأقليات وتحقير المرأة وحظر الموسيقى وإيمانها بالاستثناء السلالي, عدا عن أنها سمت نفسها “أنصار الله” فنسبت سلوكها إلى السماء ضمناً بما يعرض ناقديها ومعارضيها للتأثيم والاستباحة.
أما الفساد فلم يكن من رفعوا شعار مكافحته خلال حصارهم لصنعاء قبل 21 سبتمبر 2014 بأقل شأناً من دهاقنته السابقين, فقد أقبلوا عليه بعجلة من يخشى فوات فرصته.
وإذا كان الفساد الذي فشى في عهد علي صالح قد استفحل إلى حد اكتسابه أصولاً طورته إلى مؤسسة بحد ذاته, فالفاسدون الجدد يمارسونه بجلافة لا يخشون معها الفضيحة ومن موقع المنزهين عن شبهته.
ففي حين استمر رجالات صالح في فسادهم القديم, وضع قادة الحوثيين أيديهم بدونما عناء على شركات أهلية لخصومهم السياسيين والعسكريين والقبليين تدر ثروات ضخمة وشرعوا يستمتعون بها.
والقادة الحوثيون ليسوا في حاجة إلى أن يسلكوا السبل الملتوية التي لا يجيدها مقاتلون حملتهم العربات العسكرية من البراري إلى المدن كي يفوزوا بصفقات فساد مزمنة بل يفضلون الضربات المباشرة التي تأتي بالمبالغ جاهزة.
فقد ظلت المؤسسات الحكومية الإيرادية منذ سبتمبر 2014 هدفاً لاستقطاعات مالية كبيرة لتغطية طلبات الحوثيين أو لمواجهة إفلاس مؤسسات أخرى أتى عليها المد “الثوري”.
ونشرت الصحافة المحلية وثائق مختلفة تحوي أوامر إلى مدراء مؤسسات حكومية مختلفة بتخصيص مبالغ مالية باهظة لتغطية نشاطات الجماعة وحروبها, على أن ما نشرته الصحافة هو نزر جد يسير مما يحدث فعلاً ويفصح عنه موظفون حكوميون.
ولما أضرم نظام صالح والحوثي الحرب في أنحاء البلاد, فقد ركدت الأعمال وصدأت رافعات البناء في كل المواقع التي لم تعد تدور فيها غير عجلات الآليات الحربية فتعطلت الإيرادات الحكومية ليبدأ زحف نظام سبتمبر على الاحتياطي النقدي الذي تفيد تقديرات أن النظام قد أنفق نحو النصف منه.
أفقرت سياسات نظام 21 سبتمبر الخزينة العامة وعطلت حروبه الإيرادات فامتدت ذراعه الإفقارية إلى قطاع الأعمال الأهلي فسطت على عدد كبير من مؤسساته وشركاته وتكفلت الظروف التي صنعتها حروب النظام بوقف باقي النشاط الاقتصادي مما أفقد ملايين العمال أعمالهم وأغلق أكثر من 40 ألف منشأة خاصة.
وأغلق النظام صحفاً مطبوعة وإلكترونية ومحطات تلفزيونية وإذاعية. ومن أصل مئات الصحف المطبوعة المرخص لها لم يعد يصدر سوى ثماني صحف منها ست تصدر عنه.
والأدهى من الضرر الاقتصادي أن حرية الصحافة والرأي تلقت ضربة قاتلة باستيلاء صالح والحوثيين على الحكم أعادتها إلى أجواء ما قبل 1990 وأحالت صوتها الجهير همساً أو ملتحقاً بركب المنتصرين, يبهرج عهدهم.
وبإشعاله للحرب الشاملة, قوض نظام 21 سبتمبر ما كان تبقى من الخدمات الحكومية فأضحى معظم سكان البلاد بلا غذاء ولا طاقة ولا وقود ولا دواء وتعطلت منظومة التعليم من المدرسة حتى الجامعة. وفرض النظام اقتصاد الحرب وقاسم الشعب خدماته ليبيعه نصفها في السوق المشروعة ونصفها الآخر في السوق السوداء.
السوق السوداء.. خلاصة الفلسفة الاقتصادية لنظام سبتمبر الذي بلغ بها حداً مبكياً ومضحكاً حتى أن كبار تجار هذه السوق يركنون مقطورات البنزين على قارعة الشارع ويبيعون حمولتها بسلام.
ولم تكن السوق السوداء لتزدهر إلى هذا الحد العجائبي إلا بخطوتين فاعلتين من نظام صالح والحوثي: الأولى, سرقة أكبر كمية ممكنة من المحروقات المخصصة للتوزيع العمومي والثانية ضرب حصار خانق على المحافظات التي يخوض حرباً ضد مواطنيها فتصير الحيلة الوحيدة لإدخال وقود إليها عبر رجالات النظام المتاجرين بالوقود.
وذكر شهود في يوليو الماضي أن الحوثيين سيروا قوافل شبه يومية محملة بالوقود كانت تسلك طريقاً يبدأ من مارب ويمر بالبيضاء ودمت حتى تعز المحاصرة حيث يشتري تجار وفصائل في المقاومة الشعبية ما يوصله الحوثيون من كميات بأسعار مضاعفة.
ولئن كان تحالف صالح والحوثي قد أسقط العاصمة بذريعة رفع حكومة الرئيس عبدربه هادي للدعم عن المحروقات فقد اتجر قادته بها ثم عادوا ليحرروا أسعارها على نحو نهائي في أغسطس الماضي وخلت الرأفة من قلوب قادته الذين تباكوا على حال الشعب قبل عام.
على هذا النحو, ابتلع هذا الحلف الدولة ثم أنتجها قفازاً يمارس به إرهاب الدولة ولصوصية الدولة.
ولم يكن صعود الحوثية إلى الحكم إلا ليقفز بمعدلات الفقر والهجرة والأمية إلى مستويات كارثية, إذ أن الرفاه والتعليم يخلان بشروط استمرارها في الحكم, مثلما أن لتجربة الحكم الإمامي في إفقار الشعب ودفعه للهجرة سلطانها على مجددي شباب تلك التجربة المأساوية التي يقتفونها مهما شاب حركتهم من تجديد في الملامح.
كذلك كانت السيادة الوطنية من العناوين العريضة التي رفعها الحوثيون وأتباع صالح قبل الانقضاض على السلطة, لكن بمقارنة عابرة بين حال السيادة في سبتمبر 2014 وسبتمبر 2015 يتجلى كم أنهم مدينون لشرف الوعد ومدانون في آن.
فما زال إعلام صالح والحوثيين يحتفي بمقتل نحو 67 عسكرياً خليجياً إثر استهداف معسكر لهم في منطقة صافر بصاروخ قبل أسبوعين.
يا للمفارقة! الذين انقلبوا على الحكم ليصونوا السيادة الوطنية يحتفلون اليوم لأنهم نالوا من جيوش معادية باتت تعسكر في قلب العمق اليمني فيما كانوا قبل عام يبشرون بتوحيد الجزيرة العربية لا بحماية السيادة فحسب.
وبما للجماعة الحوثية من نهج سياسي وطبيعة ثقافية, يمكن القول إن جوهر السيادة الوطنية عندها يعني قدرتها على ضرب عزلة على البلاد, تمكنها من التنكيل بالجماعات السياسية والفئات الاجتماعية والصحافة خلف غطاء ساتر عن العالم.
والولع بالعزلة خليق بالحوثية حتى في الألفية الثالثة, فالعقيدة السياسية التي ترتاب من كل ما هو أجنبي وتعادي الانفتاح والتحديث تقود بالضرورة إلى سياسة العزلة.
لا غنى في هذا المقام عن استحضار الاحتفاء الذي أبداه الحوثيون برحيل البعثات الدبلوماسية العالمية بعد إكمالهم الاستيلاء على الحكم في يناير 2015.
وهكذا حط نظام 21 سبتمبر بفرعه الحوثي الذي يملأ الواجهة -لأسباب كثيرة- من الموسيقى ليعلي من شأن الزامل (بما هو نفير حربي مموسق فقط) وسرق الخدمات الاجتماعية من السوق العامة ليغذي بها سوقه السوداء وذرف الدمع حيال انتهاك سماء السيادة الوطنية ليبيح مياه اليمن وبرها وجوها للأعداء والأصدقاء.
وأيقظ صعود الحوثية إلى الحكم أشرس الجهالات مصادمة للعلم والعمل والمواطنة. ويكفي في هذا الإطار أنه صرف أجيالاً من صفحات المؤلفات العلمية إلى البحث في مخطوطات الأنساب.
وأحرقت حروب نظام 21 سبتمبر أجمل مدننا مثلما قوضت أروع القيم وقطًعت أمتن الأواصر الوطنية والعرى الاجتماعية.
كان تنظيم القاعدة قوافل من المجرمين الأصوليين الملثمين يغيرون على ثكنات الجيش ومفارز الشرطة ويفرون إلى أطراف البلاد وصحاريها, وحين ساد نظام 21 سبتمبر مفتتحاً عهده بالحروب الداخلية غرس التنظيم الإرهابي رايته في قلب المدينة واستقطب الأفراد إلى عضويته علانية مستغلاً حروب نقيضه الطائفي.
يصعب تصوير فداحة ماخسرته القضية الوطنية مهما بلغ الاسترسال في عرض حصاد هذه المحطة الارتدادية, لكن صورة اختزالية يمكنها إسعاف الخيال عبر تصور طبيعة نظام تسلطي على رأسه علي عبدالله صالح وعبدالملك الحوثي.
علي صالح.. السيكوباتي الذي تخفق ذاته في كل ما هو حثالة وإجرامي وتآمري. وعبدالملك الحوثي؛ راعي ميراث ضخم من الظلام والدم والخرافة وقد هجم ذلك الميراث مخترقاً حقب التاريخ ومتسلحاً بأخلص سماته تخلفاً وعنفا.
سيصر الحوثيون وصالح على أنهم أسقطوا صنعاء قبل عام بثورة شعبية يريدونها معادلاً تاريخياً لثورة سبتمبر 1962, لكن التاريخ لا يتكرر إلا هزلاً. وليست وقائع ما بعد 21 سبتمبر 2014 إلا جملة اعتراضية ساخرة في سياق التاريخ اليمني.
_______________
الثوري, 16 سبتمبر 2015.