رَجُل على الرصيف
زيد مطيع دماج
القلق واضحٌ على وجه صاحبي وعلى حركات يديه واهتزاز ركبتيه وطقطقة قدميه على قاع السيارة.. قلِق هو… وأنا مثله.
كان صاحبي ينظر من نافذة السيارة الواقفة على الناصية، وأنا بجواره، نحو السيارات العابرة عن يساره بأزيزها المزعج… أما أنا فكنت أنظر إلى الرصيف بحكم موقعي على الجهة الأخرى من السيارة.
كان السائق المرافق لنا رسمياً قد تركنا ومضى ليصرف لنا دولارات بسعر السوق السوداء من إحدى البنايات عند أشهر تاجر من تجار العملة المخفيين.
كان القلق الواضح على زميلي وعليَّ أيضاً له ما يبرره، إذ كنا نخشى أن يفشل المرافق الرسمي، لأن فشله كان يعني ضياع ما بقي في حوزتنا من مال لتسديد فواتير الفندق وقيمة تذاكر العودة إلى بلدنا… كما كان يقلقنا أنه موظف رسمي أيضاً!
* * *
يمشي على الرصيف المبلط الهوينا… رجُل يبدو أنه يهمل مظهره الخارجي عن غير عمد، لكن الوقار المهيب كان متجلياً في ملمحه المتكامل للمارة جميعاً ولي.. يتوقف لحظات رغم تباطؤه ليسند كتفه على عمود النور أو كشك الهاتف الزجاجي…
كان منهمكاً في القراءة… في يده اليسرى كتاب يلمع غلافه الصقيل… يبدو أنه كتابٌ مهم…
* * *
تأخر السائق…
انتبهت فزِعاً لوقع يد صاحبي القوية على كتفي… ولم أجبه…
– سارحٌ أنت كأن الأمر لا يعنيك..!
– لابد أن يعود…
قلتها بعدم اكتراث، فغمغم…
* * *
تركت صاحبي في دوامته وعدتُ أتابع الرصيف أبحث عن قارئ الكتاب صاحب الخطوات البطيئة المتكئ بكتفيه على عمود النور تارة وعلى كشك الهاتف الزجاجي تارة أخرى… لم أجده في البداية فكدتُ أصاب بالقلق رغم أن الرصيف شبه خالٍ من المارة لكونه محاذياً لأبنية سكنية في معظم امتداد الشارع…
زال قلقي، فقد وجدته واقفاً شبه منتصب بترنُّحٍ شبه واضح… لا بد أنه منتشٍ، وربما شبه ثمل أيضاً… أقنعتُ نفسي بأنه مندمجٌ وجاد…
اقتربتُ من نافذة السيارة لأدقق النظر رغم البرودة اللاذعة، لكنه فجأة رمى بالكتاب إلى أرض الرصيف وتركه… ومشى…
* * *
– تأخر الوغد..!
– لا تقلق…
* * *
الكتاب ما زال على بلاط الرصيف ملقىً على وجهه كأنه قتيل من أبطال السينما أو المسرح… وعاد بنفس الخطوات البطيئة المترنحة نوعاً ما… توقفتْ قدماه تجاه الكتاب… أحنى رأسه قليلاً ينظر إليه… أنزلتُ ما بقي من زجاج نافذة السيارة إلى آخره…
* * *
– إقفل زجاج النافذة…!
– الهواء منعش… نحن في فصل الصيف…
– صيفُ هذه البلاد كشتاء بلادنا…
* * *
أخذ الكتاب من جديد وخبط على غلافه يزيل ما تخيل أنه قد علق به من غبار الرصيف النظيف جداً والخالي من الأتربة والأوساخ…
تذكرتُ… كانت أمي تقول: “درجات منزل جارنا أحمد الشيخ يُلحس العسل من عليها لفرط نظافتها”… تقول أمي ذلك بطريقة غير مباشرة لخواتي وزوجة أخي الكبير الـمُهمِلة لنظافة المنزل…
* * *
– تأخر الوغد… هذا وقتٌ طويلٌ لا يطاق… لا بد أن ندبَّر حلاً…
– هوّنْ عليك… سيعود يا صاحبي…
– ألا تعي بأنها كل ما تبقى لنا من الدولارات؟
– ولذلك سيعود… دع القلق…
– وابدأ الحياة…
قالها بتهكم…
* * *
قلَّب الرجلُ بعض صفحات الكتاب ثم توقف فجأة… ورمى به إلى الأرض بحنقٍ شديد… وكاد أن يفقد توازنه بترنحه الذي بان لي واضحاً الآن…
* * *
– تأخر الكلب…!
– أوف… تأخر أو لم يتأخر… لا يهم… أقلقتني!
– لستَ مهتماً…؟!
– لا…
– تقولها بملء فمك!؟ يا إلهي!
– إهدأ يا صاحبي…
* * *
أخرجَ الرجل من جيب سترته قارورة صغيرة وهو ما زال متكئاً على عمود النور، ورشف منها جرعة لا بأس بها… وتريث قليلاً وقد أحكم إغلاق فم القارورة وأرجعها بتروٍ وبحرص شديد إلى جيب سترته…
ثم اتجه بخطوات أخرى أسرع نحو الكتاب… تناوله من جديد وفتح على الصفحة التي يريد أن يكمل قراءتها كما خيل إليَّ…
ترنَّح مرة أخرى بوقار، وعندما استقر توازنه توقف لحظة وبلل أصابع يده اليمني من لعاب لسانه ليتصفح الكتاب، وانهمك بتروٍ في القراءة والابتسامة تكاد أن تعلو شفتيه، وبلل أصابعه مرة أخرى وقلَّب الصفحات الأخرى…
وتحولت الابتسامة إلى ضحكة خافتة… لكنني رأيتها بصورة واضحة…
– هيه..! هل أنت معي؟!
هزني صاحبي من كتفي بعنف…
– معك يا أخي.. معك… اتق الله..!
غمغم… ولم أجبه…
* * *
رفع الرجل الكتاب بيده عالياً وهوى به إلى أرض الرصيف بعنفٍ واضح، ثم ركله بقدمه اليمني… ومضى ماشياً مترنحاً بوضوح الآن… لم يرسل بصره نحو الكتاب ولا أين استقرت به تلك الركلة العنيفة… كان الرجل كمن سجلَ هدفاً في شباك الخصم…
* * *
فزعتُ بخوف وألم للطمة صديقي العنيفة، التي لم أعهدها منه من قبل، على كتفي وهو يصيح بي بفرح:
– لقد خرج من باب المنزل…
– من هو..؟
– أغبيٌّ أنت..؟!
* * *
لم يقتنع الرجل بنتيجة قراره السابق… بل عاد من جديد وأخذ الكتاب ومسح على غلافه بحنان، ثم جلس على الرصيف مسنداً ظهره إلى عمود النور يتصفحه من جديد…
* * *
كان السائق المرافق الرسمي قد عاد مهرولاً، تبدو على ملامحه آثار الانزعاج… فتح باب السيارة بسرعة… وارتبك وهو يدير محرك السيارة… وأنطلق فزِعاً هارباً… ارتطمت ظهورنا ورؤوسنا بمؤخرة كرسي السيارة الخلفي… حاولت فتح باب السيارة أريد الخروج منها، لكنها كانت مسرعة بصورة مخيفة..
صنعاء، 4 أكتوبر 1987م
————————————-
* اللوحة للفنانة الأمريكية ليزبيث فيرمن