خطوط تشكيلية في «مزاج الجائع» لريان الشيباني
محمد جازم – كاتب يمني- مجلة الفيصل
صدرت عن دار مواعيد– صنعاء، مجموعة قصصية بعنوان «مزاج الجائع» للقاص والروائي الفنان ريان الشيباني، تقع المجموعة في 133 صفحة. وكان الكاتب قد أصدر قبل ذلك روايتين مهمتين في المشهد السردي اليمني؛ إحداهما بعنوان «الكلب» عن دار أروقة في القاهرة، والثانية بعنوان «الحقل المحترق» عن دار خطوط وظلال الأردنية. ومن يعرف الكاتب سيتذكر أنه دشن حياته الإبداعية بإقامة معارض تشكيلية لافتة في مدينة تعز – بداية، وكانت لوحاته التشكيلية وما زالت مثار إعجاب المهتمين، وقد رأينا أنه سار على الدرب، درب الرسم، ولكن هذه المرة بالكلمات.
قرأت قصصًا كثيرة لريان هنا وهناك، وشاهدت لوحات كثيرة لريان الفنان التشكيلي، ولا أستطيع إلا أن أقول: إن ريانَ حملَ معه مزاج اللوحة وهو يدلف من بوابة السرد، ومع صدور هذه المجموعة القصصية فهو ذكرنا بتلك اللوحات البديعة والمثيرة للإعجاب، هذا ما تؤكده مجموعته القصصية التي تحتوي على 21 لوحة/ قصة، استطاع أن يوشحها بخطوط إيقاعية لونية، مركزًا على موسيقا داخلية غير منظورة، ومحددًا مرتكزات وعلامات ودلالات، يجمع فيها الفنان بين الرسم السردي والأسلوب الفني. وإذا كان هناك من يعرف القصة بأنها تصوير مقطع من الحياة، فإنها لدى ريان تصوير مكثف من حياة اللون، ولا ينسى وهو يرسم قصصه أن يلتقط بورتريهات لشخصياته. فالفضاء البصري الذي اعتاده كاتبنا سار معه من فضاء اللوحة إلى أرض الواقع والحياة اليومية.
ولعلنا إذا تأملنا في العنوان «مزاج الجائع»، سندرك أن قصص ريان تتتبع أناسًا هامشيين منذ الغلاف الذي يحتمل كثيرًا من القراءات والاجتهادات، وإن كانت القراءة المفترضة للعنوان تشير إلى مزاج من نوع آخر. وسوف نلمس اصطفاف ريان، كما أننا سوف نتعرف إلى همه الذاتي وحزنه الخاص، وتوظيفه الساحر لفلسفة الجوع. فشخصياته جميعها لديها فلسفتها الخاصة وقدرتها المكثفة على الرد، لهذا فإن إضافة مفردة مزاج إلى مفردة الجائع لا تعني سوى أن المعركة معركة وجود. أنا جائع ولكن لدي مزاجي الخاص، حتى لو اقتضى الأمر أن أنشر جواربي في مطار دولي، وأمام وجه البرجوازية العفنة.
تقنية رسم الشخصية
من يقرأ هذا العمل الإبداعي سوف يكتشف أن ريان نقل تقنية رسم الشخصية من اللوحة، وأصبحت في أعماله تقنيات يشكلها حسب أحلام وأفكار شخصياته. اللوحة الأولى: البائع، خمسيني «يلبس بدلة سفاري رمادية… وجهه أسمر متورد، وشفة سفلية متهدلة، يحفها شارب كث» ص11، عن صديق أبيه، مقاول غربت شمسه أو هكذا يدعي. في قصة «المميزون الغرقى» لقطتان، من فوق الطائرة؛ إحداهما لركاب درجة أولى، والأخرى لركاب الدرجة الثانية وهما في لحظة الذروة، على وشك السقوط في بحيرة تانا. ثمة بورتريه دقيق لعجوز سبعينية في مطار رفيق الحريري ببيروت، تتأفف من وجود شخص ما كان له أن يوجد هنا.
لوحة «يا لوجهك القاتل اللعين! ما الذي يدور ببالك» يتجلى فيها بوصف الدكتاتور «يوسف زباطة» فهي لوحة تهكمية ساخرة، تشبه إلى حد ما لوحات الفنان الشهير «بهجاتوس». إنها لوحة فنية لا تمتد إليها يد الإنسان العادي، يظهر فيها زباطة وقد أمر مناصريه بإحداث شغب من أجل إسقاط الحكومة الجديدة التي أسقطته بعد حكم امتدّ لأكثر من ثلاثين عامًا، وهنا تتكثف اللقطة بثبات على ابتسامة مصطنعة «خرجت من شفتين مستعارتين لم تتعافيا بعد من آخر محاولة اغتيال» ص35. ألم أقل لكم: إن ريان «يشكل» بالكلمات. فلو تحولت هذه اللقطة إلى لوحة سنرى شفتين سوداويتين تتطاير جوارهما الأوسمة الصفراء والدخان والعيون الحمراء الملتهبة، و«نظارة ابن أخيه المعتمة داخل سحابة سوداء معتمة» ص36.
قصة الملياردير محمود هي أيضًا تنتقد رجلًا فقد تجارته، ولكنه يمتلك في قريته أرضًا تُقدّر بمساحة البحرين، وهذا ما جعله علكة في فم أهل القرية أصحاب الحق الأصليين، الذين من حقهم أن يشاركوا الرباصي هذه المساحة. فقد ذهبت إليه عبر حيله الخاصة وعلى حين غفلة مثل: «نحتاج جدارًا يقي نساءنا نظرات الغرباء» ص43. وهو المكان الذي سيبني فيه قصرًا على شكل دبابة، مبددًا كل أمواله على حلم عبثي لا طائل منه.
يستلطف الراوي «متسول عصري» فهو أيضًا لديه مزاج ولا يحب أن يبوح بأسراره إلا عن طريق اللغة الإنجليزية، ليس لأنه يبتكر طريقة جديدة للتسول ولكن حتى لا يفقد هيبته، فهو دكتور ينحدر من أصول هندية تقطعت به السبل، فلم يستطع العودة إلى بلد المنشأ، والخلاصة أنه يفتقر إلى المال ويريد أن يقنع محدثه أنه في حكم الضيف لكي يحفظ ماء وجهه، ولكنه حين أخذ ما بالجيب نسي لغته المفترضة وعاد لفصاحته العربية.
لن أنسى التوضيح أن قصص ريان ليست بورتريهات فقط، ولكنها ذات فضاءات وخلفيات مكانية وزمانية وفضاءاتها ليست مغلقة، وإنما عامة ومفتوحة ومؤثثة بما يشير إلى أنها قصص الناس العاديين. فالقصة التي أخذت العنوان «مزاج الجائع» تدور أحداثها داخل مطعم مفتوح لمن أراد ارتياده، وشخوصه متجددون كما لو أنهم ماء نهري يعبرون في مكان محدد، ثم يذهبون إلى فضاءات المطعم، هي أيضًا مفتوحة على شخوص عدة؛ المسؤول الأول، والمسؤول الثاني، والندل، والزبائن، إضافة إلى الأدوات وما يتبعها، والمكان المؤثث بملحقات جمة.
أنقاض الحرب
أما قصته «لحظة كاوية» فإنها منحوتة من بين أنقاض الحرب، وبطلاها سليم المربوش وماجد المكمّل، وكلاهما يخضع لدهر الحرب اليمنية التي كما يبرزها السارد تسيطر على المجتمع، فبالقدر الذي يجسد فيه القاص ملامح سليم المربوش يذهب إلى ماجد فيرسمه بدقة لأنه يمثل المرحلة: «يحتزم حافظة متروسة بالرصاص، ويحمل في يده اليمنى بندقية كلاشنكوف، وعلى خاصرته اليسرى مسدس ميكاروف» ص57. قدم ماجد كنافة، وصفها الجد المرتاب، الذي يعد من المحاربين القدامى، باللغم؛ ليلتها توفي الجد وهو يصرخ بأن الرجل الذي زارهم، من الأعداء، وهو الأمر الذي شكك فيه سليم؛ فظل طوال عمره يشك في أنه يحمل جسدًا ممتلئًا بالسم. استعار الراوي من الفضاء العام صورة جد سليم وصفه بين الشخصيتين، ثم جاء بوجوه خلفية اصطفت هي أيضًا خلف الوجوه الرئيسة؛ مثل: زوجة سليم منى، وصديق مشترك، وسائق السيارة التي أقلته إلى المطعم. وفي المجمل تصور القصة كاوية الحرب وهي لا تحرق المشهد البصري فقط، وإنما تمتد إلى الداخل. غير أن ما نود التنويه إليه، هو أننا لمحنا خيطًا رفيعًا يتتبع «مزاج الجائع» داخل مجموعة اللوحات؛ في القصة الأولى شاهدنا رجلًا لديه حسه الخاص في عرض مدخراته لطالب معدم هو الآخر. الشاب في مطار بيروت يواجه بجواربه المتسخة وجه امرأة برجوازية تتقزز من وجوده، لكنه بعزيمة الإنسان المقهور يوجد. الشاب نيبور في قصته لا يستطيع دفع ثمن الفتاة، التي ذهب لخطبتها كما لو أنها «بقرة»، وهو ما يعني أن القاص يمضي محافظًا على أمزجة شخوصه الجوعى. «المميزون الغرقى» ليسوا سوى ركاب طائرة، وفيها يشير الكاتب إلى خيط غير المميزين، من حيث إنهم يحملون عنوان العمل القصصي نفسه، فالجميع سيغرق.
أخيرًا، تعد «مزاج الجائع» إضافة حقيقية للمشهد الإبداعي اليمني؛ لما تمتلكه من أسلوب خاص وقاموس لغوي ممتع وسرد شائق، استطاع أن يختط له مكانًا فارهًا في المشهد الإبداعي اليمني.
جميع الحقوق محفوظة لمجلة الفيصل الثقافية © 2023