بزغ الفجر وعم النور وباشر كل حي يومه الجديد. تناول إفطاره وهرع يغير ثيابه على عجل فلم يعد لبداية يوم عمله سوى وقت قصير. وكالعادة غادر المنزل ليذهب إلى العمل. أمتطى دراجته النارية وأنطلق كالرصاصة يطوي المراحل ولا يلوي على أحد. وفي كل متر يقطعه ينسج حلم وما يشاهد من بؤس على جنبات الطريق يهدم حلم آخر من بقايا أحلامه فكل يوم يبني ويأتي يوم آخر ليهدم ما نسج وهكذا ديدن الحياة في وطنه.
إنه يعيش في مدينة يخيم عليها ضباب الموت مدينة تقطنها الأشباح ويلازمها ملك الموت كالهواء.
كثيرون من أصدقائه غادروها هجروها من غير عودة ولكن كانت هجرتهم إلى السماء فكل بقاع الأرض نبذتهم ولم يرحب بهم سوى ثرى أرض إسمها وطن.
كم كان يرهبه الموت كلما ودعه أحد منهم فيتأهب هو الآخر للرحيل وما يفتأ حتى ينسى الموت وينساهم وتستمر الحياة….وكلما رافق أحدهم حتى مثواه الآخير كما يقولون أعتاد الأمر كثيرا. أصبح الموت جزءا لا يتجزأ من أخبار يومه فأضحى الموت والحياة مترادفان في قاموس معاني حياته ولم يعد هنالك شيء يذكره بأنه حي سوى تلك الأحلام … تلك الأماني التي تحيا لتموت وتموت لتحيا لتصبح شريان حياة يغذي الأمل المحتضر في قلبه.
في آخر طريق سلكه، على بعد شارعين من مقر عمله، أوشك القدر أن ينهي مساره الدنيوي فقد آن أوان الرحيل وجاء الذي ليس منه بد.
كان الموت يتربص له في أحد المباني العالية ليسلبه النفس الأخير وعلى عين غرة رأى كل من أمامه يتساقطون كالأوراق الذابلة حين تهب الريح العاصفة. إنه الموت ربما! حاول أن يعود أدراجه ولكن الموت المحقق أدحض رغبة الموت حين أنطلقت رصاصة من المجهول لترديه صريعا على وطن لم يهبه من الحياة سوى الردى . ثانية فقط فيها تلاشت نسمة الحياة من جسده وأختفت معها أحلاما كبيرة فليرحم الله روحاً لكَم أحياها الأمل ويكفيه أن مات ولم يسلب روحاً أودعها الله في جسد.
وأستأنف القاتل القتل وكأنه تصالح مع الموت وصار عن الموت بمعزل إلى أبد.
وهكذا مضى يمني آخر عن أطلال مملكة الموت فتوارى في غياهب ثراها. إنه القدر فما يصنع له محبوه كان له مع الموت موعد. فلتبكيه البواكي فبيننا لغدٍ شهيد جديد!
وهيبة قائد