همس اليراع
القضية الجنوبية على مفترق طريقين
________ عيدروس نصر
تمر القضية الجنوبية، بما هي قضية شعب ودولة وتاريخ وهوية ومصير ومستقبل، تمر بواحدةٍ من أدقّ مراحلها وأكثرها حساسيةً ومصيريةً وخطورةً، وتكمن دقة هذه المرحلة في عنصرين هما:
1. بقاء الجنوب عند حالة 17 يوليو العام 2015م يوم اندحار قوات التحالف الانقلابي من عدن والمحافظات المحيطة بها، وبشكل أدق عند وضعية 11 مايو 2017م يوم إعلان ميلاد المجلس الانتقالي الجنوبي، رغم تحرك الأحداث وسيرورتها باتجاهات تختلف وتتناءى عما كانت عليه الأمور يوم 17 يوليو ويوم 11 مايو.
2. حالة الازدواج التي تتحكم بمسار القضية وبحياة المواطنين الجنوبيين بشكل عام، والقضية الجنوبية كما يعلم الجميع ليست بمعزل عن حياة الناس الذين تحمل هويتهم بل إن حياة أبناء الجنوب حاضراً ومستقبلاً هي جوهر القضية وكنهها ولا معنى للقضية الجنوبية غير هذا المعنى.
والازدواج الذي نتحدث عنه يتمثل في مجموعة من التمظهرات المتناقضة مع بعضها يمكن استعراض أهمها في الآتي:
1. إن مناطق الجنوب تسمى بالمحافظات المحررة وهي محررة بصورة شكلية لكنها ما تزال خاضعة لأعراف وتقاليد وسلوكيات وثقافة وأوضاع نظام 1994م، بل إن الكثير من القيادات السياسية والعسكرية والأمنية والإعلامية، ناهيك عن الوجاهات القبلية والجهوية والمناطقية المحسوبة على قوى الثورة الجنوبية ما تزال تتلبس بلباس 7 يوليو سلوكاً ولغةً وأسلوب حياةٍ وحتى في العلاقة مع أبناء الشعب الجنوبي بما فيهم أنصار الثورة الجنوبية وبعض جنودها الميدانيين الطوعيين أثناء معاركها السلمية والحربية.
2. إن الجنوب الذي تعرض للاحتلال والغزو مرتين ثم حرره أبنائه بضريبة مرتفعة تتمثل في عشرات الآلاف من الشهداء وأضعافهم من الجرحى، ما يزال يُحكَم بقانون ودستور الجمهورية العربية اليمنية (الذي جرى تعميمه على إنه دستور دولة ما يسمى بــ”الوحدة اليمنية”) ويتم التعاطي مع هذا الوضع بثقافة الأمر الواقع وتكريسه كالقدر المحتوم غير القابل للتغيير والاستبدال.
3. إن أهم جسم سياسي جنوبي وهو الحامل السياسي الرئيسي للقضية الجنوبية، وأعني هنا المجلس الانتقالي الجنوبي، الذي يمثل ذروة وخلاصة الحركة الوطنية التحررية الجنوبية، ما بعد العام 1994م، هذا الجسم السياسي مشاركٌ في السلطة الحاكمة ويتمتع بصلاحيات لا يمكن التقليل من شأنها بغض النظر عن درجة التوازن داخل السلطات الشرعية بين الجنوب والشمال وبين الولاء للجنوب وقضيته والولاء للمشاريع المتناقضة مع مصالح أبناء الجنوب وتطلعاتهم العادلة، وهذه المشاركة ليست معيبةً أو مسيئةً، لكن المشكلة في أن شراكة المجلس الانتقالي لسلطة 7/7 لم تحدث أي تغيير يذكر لصالح الجنوب والجنوبيين، لا في المعادلة السياسية وآفاق المستقبل ولا حتى في الحياة اليومية الاعتيادية لأبناء الجنوب.
4. إن الشعب الجنوبي ما يزال يعارض السلطة القائمة ويتعامل معها على إنها سلطة احتلال، لأنها وبفعل المعطيات المشار إليها أعلاه تعبر دستورياً وقانونياً وثقافةً وعرفاً وسلوكاً عن سلطة الغزو الأول، وحتى لا يساء فهم ما أقصده هنا فإن غالبية الشعب الجنوبي تستثني المجلس الانتقالي من خصومتها مع التحالف الحاكم، لكن الشعب يراهن على إمكانية نجاح المجلس الانتقالي في إحداث خضة نوعية في سياسات السلطة وممارساتها على النحو الذي يجسد مصالح الشعب الجنوبي ويخفف من معاناته ويكرس النهج السياسي للمجلس الانتقالي كما تنص على ذلك وثائقه وأدبياته وخطابات قادته، فالشعب هو صاحب الأرض والسكان والثروة والتاريخ الذي تتحكم فيه هذه السلطة، وما الآخرون سوى شركاء ثانويين في السلطة، لكن هذه الخضة لم تحصل حتى اللحظة وما يزال الشعب الجنوبي يتطلع إلى منتجات شراكة المجلس الانتقالي في هذه السلطة وإن طال زمن هذا التطلُّع.
5. إن معانات الشعب الجنوبي صاحب الأرض والثروة والقاعدة الجماهيرية تزداد وتتنامى بمرور الأيام وبمرور كل عام تبلغ المعانات ذروةً لم يعرفها الجنوب طوال تاريخه، منذ أن عرف أبجديات الحضارة والمدنية، وهذه الوضعية يعلم الجميع تفاصيلها، لكن هذه الأزمات والمعانات تتناقض كليةً مع مفهوم التحرر ومعنى “المحافظات المحررة” ومدلدلها اللغوي.
إن معانات الشعب الجنوبي المتنامية والآخذة في الاستفحال لم تأتِ من فراغ ولكنها نابعة من جذر أساسي للقضية وهي أن من يحكم الجنوب هم أعداء الجنوب، وهم الحكام المستوردون من الشمال الشقيق، بعد أن تركوا ديارهم وأرضهم وجمهورهم وعاصمتهم للجماعة الانقلابية ومشروعها الفارسي السلالي، وراحوا يبحثون عن بلاد أخرى ليحكموها، . . ومن بديهيات الأمور أن من يعادي بلداً من البلدان أو شعباً من الشعوب لا يمكن أن يحرص على استقراره ، ناهيك عن نموه وتقدمه، وبالتالي فإن الأزمة على الأرض الجنوبية هي صناعةٌ متقنةٌ من قبل الحكام المستوردين، وهم يصرون على البقاء في مواقعهم، رغم علمهم أن البلد تمضي باتجاه الهاوية، حيث تشير الكثير من المعطيات إلى اقتراب إعلان الحكومة إفلاسها بعد أن عجزت عن توفير أبسط أبجديات وظائفها والمتمثلة بتوفير الخدمات الأساسية ومرتبات موظفي الدولة التي لم تعرف انقطاعاً أو تقطعاً منذ زمن الزريعيين والطاهريين، وربما منذ عاد وثمود وانقطعت بشكل يقترب من أن يكون كلياً في زمن الجهبذين النادرين رشاد العليمي ومعين عبد الملك.
كل هذه المعطيات وغيرها تضع الشعب الجنوبي وقضيته العادلة وقيادته السياسية ممثلة بالمجلس الانتقالي الجنوبي وشركاءه وبقية القوى السياسية الجنوبي أمام مفترق طريقين لا ثالث لهما:
* أما استبقاء الشراكة الراهنة بشرط إعادة صياغتها على النحو الذي يمكن الجنوبيين من تولي زمام قيادة بلادهم؛
* وإما إنها هذه الشراكة بصورة كلية؛
وإذا ما أصر الأشقاء الحكام الشماليون الوافدون على التمسك بمواقعهم والتشبث بصيغة الشراكة الراهنة التي أوصلت الجنوب إلى بوابات جهنم، ففي هذه الحالة على المجلس الانتقالي الجنوبي وشركائه إنها هذه الشراكة المميتة والانتقال إلى صف الشعب الذي يستعد لإعلان ثورته على الوضع الراهن، والمشاركة في هذه الثورة وقيادتها بدلاً من الاشتراك في مواجهة وقمع الثورة الوشيكة على الاندلاع دفاعاً عن حكمٍ جائر لا يضع للشعب ومعاناته أدنى حدود الاعتبار.
“وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ”
صدق الله العظيم.