ضع اعلانك هنا

بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي ، الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (3-6)

بين فِكرة الدولة ودولة الفكرة ثمة صراع لا ينتهي ، الصراع الرسولي الإمامي أنموذجًا (3-6)

 

بلال الطيب

 

«النبي الأعزل مَهزوم دائمًا»، حكمة ميكافيللية استشعرها المُظفر يوسف منذ البداية، فعمل جاهدًا على بناء جيش قوي، استقدم لأجل تدريبه الخبراء المماليك، فكان ذلك الجيش مَصدر عظمة الدولة، وأساس هيبتها، وبفضله وحد السلطان الرسولي الأقوى اليمن الكبير، وامتدت دولته الفتية من شرقي ظفار حتى المدينة المنورة، وجاب صيتها الآفاق.

 

صمّي صمام

 

بعد هزيمتهم المُنكرة في معركة أفق بعنس، وأسر إمامهم المهدي إبراهيم بن تاج الدين ربيع الآخر 674هـ / أكتوبر 1275م، عاش الإماميون – بشقيهم الحمزي والهادوي – لحظات عصيبة، فيها الكثير من الضعف والتخبط، راسلوا في الشهر التالي المُطهَّر بن يحيى بن مرتضى، واستدعوه من حصنه تنعم في خولان العالية، ونصبوه في حصن حضـور ببني مطر إمامًا، بدعم وتحشيد من الأمير صارم الدين داؤود بن عبدالله بن حمزة.

 

كانت للإمام الجديد قبل قيامه حروب كثيرة مع الرسوليين، وهو من نسل الهادي يحيى بن الحسين، تلقب بــ (المُتوكل)، وقال في خطبة دعوته: «ولما رأيت أهل العصر قد ظهرت فيهم البدع، ونزل فيهم الخوف واتسع، وامتلأت قلوب المؤمنين بالجزع، عقيب أسر أمير المؤمنين – يقصد الإمام إبراهيم بن تاج الدين – خشيت استئصال شأفة المسلمين، بعلو كلمة الظالمين، فشمرت لطلب القائم من أهل البيت عن ساق، حين هدرت شقاشق الشقاق، ونفقت في سوق البغي سلع الظلم والنفاق».

 

وأضاف مُخاطبًا أنصاره: «أجيبوا داعيكم، ولبوا مناديكم، واتبعوا هاديكم.. مُنتقمين لإمامكم المهدي بثأره، ناعشين دينكم بعد عثارة، موضحين من مذهبكم طامس آثارة، كايلين لعدوكم بصاعة، ذارعين له ما بلغ من ذراعة، فأنتم حزب الله، وحزب الله هم الغالبون».

 

فرَّق المُظفر يوسف بدهائه شمل الإماميين، صالح الأمير داؤود، وتفرغ لمحاربة قريبه الأمير جمال الدين علي بن عبدالله، وأجبر الأخير على الاستسلام 10 رمضان 676هـ / 3 فبراير 1278م، بعد أنْ اشترى ولاء داعمه الرئيس الإمام المُطهَّر بـ 100,000 دينار، وقد ظل الأمير المُستسلم على ولائه للرسوليين حتى وفاته.

 

تفاقم بعد ذلك الصراع الحمزي – الحمزي، وخفت ذكر الإمام الهادوي، تخلى عنه أنصاره، وسخر بعضهم منه قائلين: «صمّي صمام، لا خلف ولا أمام!»، وفي المُقابل ظلت علاقة السلطان الرسولي مع الجميع قائمة، وكلما استقوى أحدهم لجأ الطرف المُنكسر إليه، طالبًا معونته.

 

لم يعاملهم المُظفر يوسف بالمثل؛ بل كان دائمًا ما يسعى للوفاق بينهم، أو يكتفي بتقديم المساعدات المالية لمن لجأ منهم إليه، والأهم من ذلك أنَّه استغل مُسالمتهم له، وانشغالهم عنه، ووجه حملاته العسكرية صوب ظفار 678هـ، وبالسيطرة على الأخيرة تمكّن من توحيد اليمن للمرة الرابعة في تاريخها.

 

بعد فتحه مدينة ظفار، هابت السلطان الرسولي المُظفر يوسف – كما ذكر الخزرجي – ملوك الهند، والصين، وفارس، وأخذ قادة الدول يرسلون إليه هدايا الصداقة، وحين منع ملك الصين رعاياه المسلمين من الختان، استنجدوا بـه، راسل ملكهم، فرفع الأخير عنهم المحظور من فوره.

 

لم تكد أحوال الدولة الرسولية تستقر، حتى نقض صارم الدين داؤود الصلح 680هـ / 1281م، اعتدى على حصون جمال الدين علي، وعز الدين محمد (حلفاء الرسوليين البارزين)، فما كان من السلطان المُظفر يوسف إلا أنْ أعاد السيطرة على صعدة، تاركًا لواليه على صنعاء الأمير سنجر الشعبي مهمة حصار حصن ظفار ذيبين، معقل الأمير المُـتمرد، ناقض العهود.

 

المظلل بالغمامة

 

بوفاة الأمير سنجر الشعبي 682هـ / 1283م، تنفس الأمير صارم الدين داؤود الصعداء، حشد الحشود الكثيرة، وجدد العزم على الاستيلاء على صنعاء، إلا أنَّ الأمير الحاتمي بدر الدين محمد بن حاتم (صاحب كتاب “السمط الغالي”) تصدى له، هزمه في حوث، وفرَّق جموعه.

 

كان هَم الأمير صارم الدين داؤود الشاغل لم شتات أنصار الزّيدِيّة من حوله، عمل على إصلاح علاقته بالإمام الهادوي المُطهَّر بن يحيى، إلا أنَّه فشل، وسعى إلى إعادة تنصيب الحسن بن وهاس إمامًا، ففشل أيضًا، فما كان منه إلا أن توجه بداية العام التالي إلى ثلا، حيث يقطن ابن أخيه إبراهيم بن أحمد، ونصب الأخير إمامًا، رغم أنَّه لم يكن مستوفيًا شروطها.

 

صحيح أنَّ الأمير داؤود حقق بعض الانتصارات، إلا أنَّ الصراع الزيدي – الزيدي تفاقم – بسبب تصرفه ذاك – أكثر فأكثر، وصارت معاركه مع أكثر من طرف، ليتمكّن الرسوليون في إحدى المعارك من أسر ولده الأمير محمد، وحبسه في حصن الدملؤة بالصلو، فأرسل إلى المُظفر يوسف مُعتذرًا:

أعاتبــــه فـــي الـهـــجر أم لا أعـــــاتـــبـــه

وأصــبــر حتـــــى يـــرعــوي أم أُجانــــبـه

فــــمــن مبلـــــغ عنــــي إلى الملك يوسف

أبي عــمــر مـعـطي الـجـزيـــل وواهــــــبه

فــشــفــــع أبـانـــــا في بــنـيــــــه فــإنـــه

شفيــعك في الــــذنب الـــــذي أنت كاسبه

 

دخل الأمير الواثق نور الدين إبراهيم بن المُظفر يوسف صنعاء واليًا عليها من قبل أبيه 23 ربيع الأول 683هـ / 8 يونيو 1284م، كبح التوسعات الإمامية، وصالح في العام التالي الأمير المُنهك داؤود، بِطلب من الأخير، على أنْ يأخذ منه حصن قفل ظفار، مقابل رفع الحصار عن حصن ثلا، وإطلاق سراح الأمير الأسير.

 

وفي ربيع الأول 686هـ / أبريل 1287م، جدد المُتوكل المُطهَّر بن يحيى دعوته، مُتحالفًا مع الأمير داؤود، وابن أخيه الأمير نجم الدين موسى بن أحمد، نقضوا جميعهم صلحهم مع المُظفر يوسف، وقادوا جموعهم المُتحفزة صوب مدينة صعدة، اقتحموها، وقتلوا غدرًا 80 جنديًا رسوليًا، وأسروا واليها، فكثرت حينها الأراجيف، وكاد شمال اليمن أنْ يخرج من أيدي الرسوليين، و«فسدت البلاد من نقيل صيد إلى صعدة»، حد توصيف صاحب (السمط الغالي).

 

فشل الأمير الواثق إبراهيم في إيقاف التمدد الإمامي، فأرسل المُظفر يوسف بعد شهرين بولده الأكبر الأشرف عمر، تمكّن الأخير بسرعة خاطفة من هزيمة الإماميين، استعاد كثيرًا من الحصون، وحصر الإمام المُطهَّر في جبل تنعم، والأمير داؤود في حصن القبة، قريبًا من حضور، وصالحهما في منتصف العام التالي على عدة شروط، وفي تلك الانتصارات قال الأمير بدر الدين محمد بن حاتم مادحًا الأشرف عمر:

سـمـوت إلى الثغر الـمخـوف بعزمة

هـدمت بـهـا مـــــا كــان منه مُـمَنَّعا

ومزقـت شـمـلًا مـن عـــداة تـألبــوا

وجرعتــهم مـن بأسك السـم مُنْقَّعا

 

بعد توقيع الصلح أرسل المُظفر يوسف ولده المُؤيد داؤود حاكمـًا على صنعاء ذي القعدة 687هـ / ديسمبر 1288م، ليتوفى سميه صارم الدين داؤود بعد عام وبضعة أشهر، فانتقلت زعامة الحمزات إلى ابن أخيه الأمير همام الدين سليمان بن القاسم، كان الأخير ضعيفًا للغاية، خفت في عهده ذكر الحمزات، وقوي في المقابل ذكر الإمام الهادوي المُطهَّر.

 

نقض المُتوكل المُطهَّر صلحه مع الرسوليين، واعتدى على عدد من الحصون، واحتل جبل اللوز في خولان العالية. توجه المُؤيد داؤود إليه بجيش كبير 5 محرم 690هـ / 7 يناير 1291م وقتل عددًا كَبيرًا من أنصاره، ظهر حينها ضباب كثيف اختفى به الإمام الهارب، ونجا بأعجوبة من موت مُحقق، تناقل الإماميون تلك الحادثة، وعدوها مُعجزة إلهية تؤكد وقوف الله مع إمامهم الذي عُرف من يومها بـ (المظلل بالغمامة)!

 

التُبع الأكبر

 

أمام تعاظم التمردات الإمامية أرسل المُظفر يوسف بولده الأشرف عمر إلى صنعاء مرة أخرى 693هـ / 1294م، فأطاعته القبائل، «ولم يبق مؤالف ولا مخالف إلا وتاق لخدمته»، حد توصيف صاحب (السمط الغالي)، فكان لذلك أثره في التمهيد لصلح جديد، وهو ما تحقق مطلع العام التالي 20 نوفمبر 1294م.

 

بعد تسعة أشهر وعشرة أيام من توقيع ذلك الصلح، توفي بمدينة تعز المُظفر يوسف بن المنصور عمر 13رمضان 694هـ / 26 يوليو 1295م، عن 74 عامًا، وفيه قال الإمام المُطهَّر: «مات التبع الأكبر، مات معاوية الزمان، مات من كانت أقلامه تكسر سيوفنا ورماحنا!».

 

تولى الأشرف عمر حُكم الدولة الرسولية بوصية من السلطان الراحل، إلا أنَّ القدر لم يمهله كثيرًا، توفي بعد عام وبضعة أشهر، فخلفه أخوه المُؤيد داؤود، كان الأخير حازمًا كأبيه، سيطر على الأمور، واستعاد بعض الحصون التي سبق للإماميين أن أخذوها بعد وفاة أبيه وأخيه.

 

بعد وفاة الإمام الأعمى يحيى السراجي بعام وسبعة أشهر في صنعاء، توفي بـذروان حجة الإمام المُطهَّر بن يحيى 12 رمضان 697هـ / 22 يونيو 1298م، عن 83 عامًا، ولم يكن للأخير – كما أشار بعض المُؤرخين – أي تأثير كبير في مجريات الأحداث؛ كون غالبية علماء الزّيدِيّة وأنصارها لم يعترفوا بإمامته، ليعلن ولده محمد من حوث نفسه إمامًا 701هـ / 1301م، وتلقب الأخير بـ (المهدي).

 

رغم أنَّ أغلب شيعة زمانه لم يقولوا بإمامته؛ كان للمهدي محمد أنصار مُتحمسون، أغار بهم عام قيامه على عدة مناطق، وسيطر على عدد من الحصون، وكانت له وقائع كثيرة مع الرسوليين، وحلفائهم الحمزات، إلا أنَّ السلطان المُؤيد داؤود تمكّن من كبح جماحه، وتفريق أنصاره، تارة بالقوة، وتارة بالأموال.

 

وفي عام 703هـ / 1303م تقوى جانب المهدي محمد لبعض الوقت، وتمكن من السيطرة على صعدة، إلا أنَّ المُؤيد داؤود تمكن من استعادتها في العام التالي، هدأت الأوضاع بعد ذلك بين الجانبين، إلا من مُناوشات محدودة كانت تحدث هنا وهناك، ولم تغير في خريطة الدولتين السياسية شيء.

 

وسائـل جبـال اللـوز

 

كان الحمزات بزعامة جمال الدين علي بن عبدالله الحمزي، ثم ولده عماد الدين إدريس دعامة حُكم السلطان الرسولي المُؤيد داؤود في المناطق الشمالية، وكان لانضمامهم وانضمام الأكراد فيما بعد إلى صف الإمام الهادوي المهدي محمد بن المُطهر أثره الأكبر في تقوية صف الأخير، جدد بهم حروبه الاستنزافية 709هـ / 1310م، سيطر على صعدة هذه المرة نهائيًا؛ ووصل إلى أسوار صنعاء، وحاصرها لشهرين، وخاطب السلطان الرسولي في غمرة انتشائه قائلًا:

تنــح عــن الـدســـت الـذي أنـــت صدره

وعد عـن الملك الـذي حـــــــــزته غصبا

رويـدك أن الله قــد شــاءَ حــربـــكــــم

وصــيـرني الرحمن في ملــكـــه حـربــا

سأجـــلـــبــها شعـثــا إليـــــك ســواريـا

مضـمـرة جـــردًا مطـهــــمـــــــة قـــبـا

فمـا في جـبــال اللـوز عـــــارُ لســـيـــدٍ

غـــدت وأكفــاف السحب من دونه دربا

 

كان رد السلطان المُؤيد داؤود عليه صارمًا، توجه إليه بحملة كبيرة، وأرسل إليه شعرًا ذكره فيه بحادثة هروب أبيه (الإمام المطهر) في موقعة جبل اللوز السابق ذكر تفاصيلها، وهدده قائلًا:

رويـدك لا تــعجـــل فمــا أنـت بعلها

سيـأتـيــك فتَّاك يعــلـــمـك الــضـربا

فــإن تكُ ذا عـــزم فــــلا تــكُ هاربًا

كعـادة مــن قد صرت من بعده عقبا

وسائــل جبـال اللـوز عـــنــا وعنكم

فـأفضــلــــكـم ولــى وخلفـــكـم نهبا

فعــــاملتــكم بالصفــح إذ هو شيمتي

ومــا أنتـم تعفون عــــن واقــــع ذنبا

 

دخل السلطان المُؤيد داؤود صنعاء دخول الفاتحين، وانقادت إليه القبائل الشمالية مجددةً الولاء والطاعة، فيما تكفل ولده المُظفر ضرغام الدين حسن بمطاردة الإماميين، استعاد الأخير كثيرًا من الحصون، وأجبر الإمام المُتحفز على التحصن بجبل رهقة في شبام كوكبان لعدة أشهر.

 

تخلى الأكراد عن مُناصرة الإمام الهادوي المهدي محمد، وكذلك فعل الحمزات، سلموا رهائن الطاعة للسلطان المُؤيد داؤود، لتتجدد الحرب بين الجانبين في بلاد الشرف، انتصر فيها هذه المرة الإمام الزيدي المُتحفز، وقد نجح الأخير في أسر قائد القوات الرسولية عماد الدين إدريس.

 

حين يئس المهدي محمد بن المُتوكل المُطهَّر من استمالة الأكراد والحمزات إلى صفه؛ أرسل الوسطاء إلى المُؤيد داؤود، ووقع معه صلحًا مدته عشر سنوات جمادى الآخر 712هـ / أكتوبر 1312م، وقد كان لوفاة الأمير ضرغام الدين حسن (أحد أشهر القادة الرسوليين) في أواخر ذات العام أثره الأكبر في ضعف الدولة الرسولية كما سيأتي.

 

لم يستمر ذلك الصلح طويلًا، تم نقضه بعد مرور أربع سنوات، ودارت حروب وخطوب بين الجانبين، كانت في مُعظمها سِجالًا، وصل الرسوليون في إحداها – كما ذكر ابن عبدالمجيد، وهو مُؤرخ عاصر تلك الأحداث – إلى تخوم مدينة صعدة، دون أن يتمكّنوا من استعادتها.

 

بوفاة المُؤيد داؤود 1 ذو الحجة 721هـ / 22 ديسمبر 1321م، وتولي ولده المُجاهد علي ذو الـ 15 ربيعًا الحكم، دخلت الدولة الرسولية مرحلة التيه والضعف الشديد؛ كون سلطانها الجديد صغير السن، وبلا خبرة سياسية، والأسوأ من ذلك أنَّه كان سيء الظن، سادي الانتقام، أقصى رجالات الدولة من أعوان أبيه، على حساب حاشية دخيلة مُستغلة، أرادت أنْ تحكم باسمه، وهمش بني عمومته، فكانت تمردات الأخيرين عليه صادمة.

 

.. يتبع

ضع اعلانك هنا