عندما ساد العُنف،،، جار الله عُمر (1/2)
.. بلال الطيب
إنَّه الشهيد الشاهد، والسياسي المُتجدد، والمُفكر المُتعمق، والمُثقف الموسوعي، والمُحاور الحصيف، سيرته سيرة وطن، وكتاباته تاريخ يمن، غاص بدقة في التفاصيل، وتفنن في السرد المُكثف، والطرح المُختزل، والتحليل الموضوعي، والنقد الصادق، وفق منهج عقلاني مُتحرر من هيمنة العاطفة، وإرضاء الأهواء، فكان بحق صوت الحق، وعين الضمير، وصانع التحولات، ورجل التوازنات الذي لا يتكرر.
مُنذ تفتحت مداركه، وبدأت حواسه تستوعب ما يدور حوله، وجد الصبي النحيل نفسه بلا أب، وفي حضن أمٍ تبكي أباه، لم تكن ككل الأمهات، ضحت لأجله ولأجل أخته الوحيدة، وأصرَّت على تعليمه، ومنها تشرَّب معاني الوفاء والتضحية، واستمد القوة والشجاعة، ومضى في طريقه طامحاً شغوفاً بتعلم أبجديات القراءة والكتابة، وأبجديات ترويض الحياة، ولولا تلك البداية القوية، ما كان العظيم جار الله عُمر.
في معلامة قريته «كهال – النادرة» تلقى تعليمه الأول، وتوجه وهو في السادسة عشرة من عمرة إلى ذمار «1958م»، ودرس في مدرستها الشمسية لمدة سنتين، ويمم بعد ذلك خطاه صوب صنعاء، مُلتحقاً بمدرستها العلمية، ونهل على أيادي مُعلميها – كعبدالله البردوني – مبادئ حب الوطن، ومُفردات الوطنية، وحظي برعاية بعض الأساتذة المُنتمين لـ «حركة القوميين العرب»، وهو أمرٌ كان له ما بعده.
شارك في المظاهرة الطلابية التي سبقت قيام الثورة السبتمبرية، وهي المظاهرة التي تجاوزت إطارها المطلبي إلى رفع شعارات سياسية؛ الأمر الذي أثار غضب السلطات الإمامية الغاشمة، ألقت القبض على بعض الطلاب، وأودعتهم في سجونها المُوحشة، فما كان من جار الله عُمر إلا ولى هارباً إلى عدن، في رحلة شاقة استمرت أسبوعاً كاملاً، وحين لم يتوفق في الحصول على منحة دراسية من قبل مُعارضي الإمام، عاد أدراجه إلى صنعاء، عملاً بنصيحة الشيخ محمد بن سالم البيحاني، وما هي إلا أشهر قليلة حتى اندلعت ثورة «26 سبتمبر 1962م».
عاش جار الله عُمر تفاصيل تلك اللحظة الفارقة، وتابع سير المعارك الأولية عن قرب، وعايش انقسام اليمنيين حول ذلك الحدث، وقال أنَّ سكان مناطق تعز، وعدن، والمناطق الوسطى، والمناطق الشرقية أيدوا الثورة، وأنَّ سائر المُواطنين في المناطق الشمالية، وحتى بعض المواطنين في المناطق الوسطى لم يكونوا يؤيدونها تلقائياً، وأنَّ الأمور كانت تتغير تدريجياً، لافتاً أن التأييد في المناطق الأخيرة اقتصر على بعض أبناء المشايخ الذين كانوا قد دخلوا في صدام مع الإمام، بالإضافة إلى بعض الضباط الذين انخرطوا في الجيش، وخلص بالقول: «ولم تكن القبائل تحارب عن عقيدة أو عن اقتناع، لا مع الإمام، ولا مع مُعارضيه طوال التاريخ».
كما انتقد قيام بعض المُتحمسين «الجمهوريين» بإعدامات عشوائية لـ «إماميين» خارج دائرة القانون، وقال في تقيمه لتلك الأحداث أنَّ بعض من تم إعدامهم – من وزراء ومسؤولين – لم يكونوا يستحقوا الإعدام، وأضاف: «الثورة دائماً تكون أشبه بسيل يجرف ما أمامه، واليوم ينظر الإنسان إلى تلك الإعدامات بشيء من الأسف؛ بل وينظر بأسف إلى كل الآثار التي ترتبت على أعمال العنف التي صاحبت الثورة، لكن منهج العنف كان سائداً في اليمن من قبل الثورة، ومن بعدها، سواء من قبل الإمامة، أو من قبل الثوار».
وأردف: «لقد كانت الحرب تؤدي تلقائياً إلى مُمارسة العُنف هنا وهناك، فالصراع بين الملكيين والجمهوريين حصد عشرات الألوف من الضحايا، كما أنَّ الصراع داخل النظام الجمهوري قد أدى إلى سقوط ضحاياً أيضاً، وقد ألحقت هذه الصراعات باليمن ضرراً بالغاً، وأوقفت عملية التنمية، وسخرنا كل جهودنا للصراع السياسي العنيف، ولو لم نفعل ذلك، لكانت حياتنا اليوم أفضل».
أشاد الثوري النبيل بالتواجد المصري، وقال أنَّه لولا ذلك التدخل ما كان لـ «ثورة سبتمبر» أن تستمر، عمل هؤلاء على خلق نواة الإدارة لأول مرة في اليمن، وساهموا في انتشار التعليم الإعدادي والثانوي بمناهجه الحديثة، وكان البديل لتواجدهم – كما أفاد جار الله عُمر – هو تسوية مُبكرة مع السعودية، ومع القبائل المُحيطة بصنعاء، وهذا ما حدث بعد ذلك، وجميعنا يعرف نتائجه.
وانتقد في المُقابل الأخطاء التي مارستها السلطات المصرية في حق مُعارضيها، وتدخلاتها في تفاصيل حياتهم اليومية، ليصل الأمر إلى اعتقال جميع أعضاء الحكومة اليمنية في القاهرة، وهو التصرف الذي أثر سلباً على وحدة الصف الجمهوري، وقال جار الله عُمر عنه: «وكان هذا خطأً سياسياً فادحاً، يخلو من الذكاء السياسي، ومن الفطنة، ولا معنى له».
في عام الثورة الأول، انخرط الشاب الطموح في صفوف أعضاء «حركة القوميين العرب»، التي لم تكن حينها «ماركسية» التوجه، وتعرف على شخصيات قيادية، كمالك الأرياني، وعبد الحافظ قائد، وعبدالله محرم، وكان بارعا ومُحنكا في فن الاستقطاب، لينتقل بعد ذلك إلى تأسيس أول اتحاد طلابي، وصار بذلك شخصيته استثنائية، لها حضور لافت في مسارات العمل ا