الولاية والحاكمية.. اغتيال السياسة واستقالة العقل المدني (2)
فهمي محمد
التجربة التاريخية للعرب المسلمين تقدم لنا مثالاً صارخاً للسلطة السياسية التي اغتالت السياسة على مدى قرون بل أغلقت الأبواب أمام تشكل عقل سياسي مدني يتعاطى مع السياسة كفكرة محض دنيوية، لذلك لم تتحول الخلافة الإسلامية التي فقدت الشورى كقيمة سياسية منذ الاجتماع السياسي الأول للمسلمين في سقيفة بني ساعدة، إلى دولة مؤسسية بناءً على مفهوم السياسة وفكرة الشورى، بل تحولت الخلافة الإسلامية إلى ملك عضوض تناقلت في ظله السلطة السياسية “وراثياً” عن طريق قطع رؤوس المحكومين وليس عن طريق عدها، الأمر الذي جعل تاريخ العرب السياسي على مدى 14 قرن في ظل الإسلام هو تاريخ سلطة الاستبداد السياسي، الحاكمة على رقاب المسلمين بالقوة والغلبة.
أو قل هو تاريخ سلطة الشوكة وليس سلطة الدولة، “فمن قوت شوكته وجبت طاعته” كما يقول المأثور السياسي العربي، ما يعني أننا بصدد الحديث عن سلطة أشخاص أسستها القوة العسكرية الغالبة والتي جعلت المواطنين مادة أو موضوعاً للحكم، بعكس سلطة المؤسسات التي تؤسسها الفكرة السياسية للدولة التي تجسد حضور المجتمع.
حتى سلطة الخلافة الإسلامية كان بالإمكان أن تتحول إلى دولة الخلافة التي تعبر عن كيان وحضور المجتمع الجديد الذي تشكل في المدينة المنورة على يد رسول الله، وكذلك حتى تعبر عن الاقتدار السياسي الشوروي للمسلمين جميعاً بعد أن توسعت الجغرافية السياسية للإسلام، لولا أن أبواب المجال السياسي العام قد أغلقت بإحكام منذ الاجتماع السياسي الأول في وجه الفعل السياسي المجتمعي الذي كان يستلزم منه بأن يتعاطى سياسياً مع مسألة السلطة الحاكمة التي سوف تشكل النموذج الذي يحتذى به سياسياً كنموذج للسلطة السياسية الحاكمة في مستقبل المسلمين بعد رحيل رسول الله عنهم.
بمعنى آخر لم يتم التعاطي مع مبدأ الشورى كقيمة سياسية محض دنيوية وفعل سياسي مدني يفتح المجال السياسي العام أمام حق أي أحد من المسلمين في تولي مقاليد السلطة السياسية طالما أن الإسلام كشريعة ملزمة قد أقر تكافؤ ذمم المسلمين ودمائهم وحقوقوهم دون تفضيل.
حتى الفعل السياسي الذي بدأه الأنصار في سقيفة بني ساعدة على إثر موت رسول الله ما لبث أن انسحب وقدم استقالته السياسية تحت إصرار وضغط مقولة عمر بن الخطاب (إن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش) مع أن التاريخ يقول بأن قبيلة قريش لم تكن حاكمة أو صاحبة سلطة سياسية على الأمصار العربية أو على القبائل العربية، كما يفهم من قول عمر بن الخطاب واحتجاجه في وجه الأنصار.
بل لم تكن، أي قريش، حتى مجيئ الإسلام تعرف معنى السلطة السياسية العامة ذات الحدود السيادية على جغرافيتها المحددة مكانيا، بحيث تحكم مثل هذه السلطة “سياسياً” فوق كيان قريش القبيلة التي كانت تحكم نفسها عن طريق ما يقرره أسياد العشائر القرشية في مكة، دون أن يكون هناك شخص واحد يشكل شيخ القبيلة الذي يقرر ما يراه على الآخرين، أو حتى قائد أو رئيس يمثل سلطة عامة على العشائر القرشية بالمفهوم السياسي الذي أريد له أن يتشكل داخل المدينة المنورة، وتحديداً في اجتماع سقيفة بني ساعدة الذي منح مقاليد السلطة السياسية لشخص الخليفة الراشد أبوبكر الصديق.
إذن قريش لم تحكم العرب سياسياً قبل الإسلام ولم تمارس السلطة السياسية العامة حتى على مكونتها العشائرية في مكة قبل الإسلام، وهذا بحد ذاته يطرح علينا سؤالاً نضعه بين قوسين للعودة إليه بعد ذلك وهو سؤال يتعلق بمغزى عمر بن الخطاب واحتجاجه على الأنصاري حين قال إن العرب لم تعرف هذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش، خصوصاً وأن قوله هذا قد أتى في اجتماع سياسي يتعلق باختيار قائد سياسي يدير السلطة السياسية للمسلمين، بغض النظر عن اسم هذا الشخص كان رئيس أو خليفة رسول الله أو أمير المؤمنين فالتسمية ليست مهمة.
المهم في الأمر أن رسول الله قد رحل بعد أن أكمل شريعة الإسلام للناس وأوجد المجتمع الذي اعتنق الشريعة الإسلامية، وبعد موته أصبح المسلمون كمكون إنساني يحتاجون إلى سلطة سياسية عامة تتأسس على الشوري كقيمة سياسية وفعل سياسي مدني متاح لكل المسلمين دون استثناء، لا سيما وأن هذا الفعل السياسي يظل متعلقاً بما هو محض دنيوي وليس دينياً، وفي مقدمة هذا المحض السياسي “الدنيوي” السلطة السياسية وشكل النظام السياسي وتحديد شخص الحاكم وصلاحياته السياسية على رأس هذا النظام السياسي.
ناهيك عن حق المجتمع سياسياً في عزل الحاكم وتحديد فترة حكمه، هذا في حال أن سلمنا بأن السلطة في الإسلام أو النظام السياسي في الإسلام هو نظام شوروي وهو كذلك كما ينص القرآن الكريم.
فالله تعالى يلزم رسوله الكريم بخصوص ما هو سياسي دنيوي بقوله (وشاورهم في الأمر) كما أنه يصف الصورة المثلى التي يجب أن تكون عليها حياة المسلمين على المستوى السياسي والاجتماعي وخصوصاً بعد رحيل الرسول عنهم بقوله تعالى (وأمرهم شورى بينهم) الأمر الذي يعني بأن لسان حال الموجهات القرآنية تقول إن النهضة والتفوق السياسي للمجتمعات البشرية في الدنيا مرتبط بغياب الاستبداد السياسي.
فالمستفاد من مفهوم آيات الشورى هو نبذ منهج الاستبداد بالسلطة السياسية وكذلك دنيوية السياسة التي يجب أن تظل حقا لكل المسلمين دون استثناء، حتى في حياته صلى الله عليه وسلم فإن عصمته كرسول لم تلغي حق المسلمين في اتخاذ القرار السياسي معه، واقتدارهم في ممارسة السياسة، أو قل في ممارسة الشورى كقيمة سياسية تتعلق باختياراتهم الدنيوية هذا من جهة أولى.
ومن جهة ثانية إذا كان السواد الأعظم من المسلمين مسلمين في الماضي والحاضر بأن المقصود بالأمر المبني على الشورى في الآيتين هي السلطة السياسية الحاكمة -وهذا هو المفهوم المنطقي لمعنى ومفهوم الآيتين المتعلقة بالشورى- فإن الأكثر منطقية في البناء على الآيتين هو أن السلطة السياسية في الإسلام هي سلطة سياسية محض دنيوية وليست دينية.
بل هي سلطة سياسية تتطور وتتقدم بتطور الممارسات السياسية كاقتدار سياسي يعبر عن حاجة مجتمعية وليست حاجة دينية، وآية ذلك أن السلطة السياسية في الإسلام تتأسس على الشورى كقيمة سياسية محض دنيوية أي على المشاورة وتداول الآراء بين الناس بنص القرآن الكريم، في حين أن ما هو ديني فإن المعلوم عنه بالضرورة أنه لا يخضع للمشاورة بين الناس ولا يخضع لآرائهم بل عليهم أن يسمعوا ويطيعوا، لا أن يتشاوروا فيه.
فالفرق بين السياسي والديني يكمن في حقيقة أن السلطة السياسية في الإسلام مصدرها ومالكها المجتمع أو الشعب وذلك بنص القرآن الكريم في آيات الشورى، في حين أن شريعة المسلمين مصدرها الخالق سبحانه وتعالى مع قابلية الشريعة الإسلامية للاجتهاد الذي يواكب العصر على يد المسلمين.
ما يعني في النتيجة أن العمل على تأطير السلطة السياسية الحاكمة في أي مجتمع مسلم بمفاهيم الحاكمية لله تعالى والولاية لآل البيت لا يعدو أن يكون مجرد احتيال سياسي على حق المجتمع والشعب في تولي مقاليد السلطة السياسية وإدارتها كما تقرره آيات الشورى، وهو احتيال لا يجعل الله ورسوله هما الحاكمين في الأرض بل يجعل جماعات الكهنوت والخروفة هي الحاكمة على رقاب الناس وهي التي تستأثر بالسلطة والثروة باسم الله تعالى الذي منحها هذا الحق من دون سائر خلقه، كما يزعمون.