الولاية والحاكمية.. اغتيال السياسة واستقالة العقل المدني (2/1)
فهمي محمد
إذا لم تكن الولاية لآل البيت أو الحاكمية لله اغتيالاً للسياسة، واستقالة للعقل السياسي المدني، فماذا يعني غير ذلك في حاضر ومستقبل اليمنيين؟!
من مظاهر الجريمة السياسية التي ارتكبتها السلطات السياسية الحاكمة على مدى عقود زمنية في ظل الجمهورية، أن اليمنيين بعد الألفية الثانية للميلاد وبربع قرن من الزمن يجدون أنفسهم في ظل سلطات وواقع تغتال فيه السياسة ويستقيل فيه العقل السياسي المدني رغم أهمية وجودهما في معركة التغيير السياسي نحو المستقبل الذي يجب أن يكون ملاذا آمنا يعيش في ظله اليمنييون كنتاج حضاري وتقدمي لثورة الخلاص -التاريخية- التي قدم اليمنيون الكثير من التضحيات في سبيل تحقيقها في واقعهم السياسي والاجتماعي، خصوصاً وأن حديثنا عن اغتيال السياسة واستقالة العقل السياسي المدني يأتي اليوم بعد ثلاث ثورات ووحدة!
السياسة وجدت مع وجود السلطة الحاكمة كما أن السلطة وجدت تاريخياً بعد أن تحول الفرد إلى مجتمع متجانس ومستقر على تضاريس الجغرافية التي بدأت هي الأخرى تأخذ بعداً سياسياً أكثر منه مكانياً، فالسياسة تاريخياً وإن كانت قد عبرت عن نفسها كعلم وممارسة للسلطة الحاكمة تجاه المجتمع، إلا أنه مع تحول السياسة «كفكرة ناجعة ومستقلة بذاتها» إلى علم يتعلق بمستقبل الجماعة المحكومة وحتى إلى فكر سياسي مدني تحولت السلطة على إثر ذلك في بعض المجتمعات الإنسانية إلى دولة مؤسسية تلاشت في ظلها سلطة الأفراد والعائلات وحتى سلطة المكونات التقليدية مثل سلطة القبيلة أو سلطة المذهب.
كما أن السياسة في ظل قنواتها المشروعة التي مكنتها في بعض المجتمعات من التعبير عن فكرتها المستقلة بفعل سياسي مدني، لم تجمد فعلها السياسي عند النقطة التي تحولت فيها السلطة السياسية المختزلة في شخص الحاكم إلى دولة مؤسسية، بل استمرت في ممارسة نجاعتها تجاه الدولة التي تجاوزت ظاهرت السلطة أو سلطة اللادولة، الأمر الذي أدى بالسياسة كأفكار مدنية وممارسات محض دنيوية إلى تزويد هذا الكيان الدستوري والمؤسسي (الدولة) بأبعاد ومفاهيم سياسية اجتماعية وطنية تعكس تطلعات ومصالح المواطنين وليس الحكام.
وعطفاً على هذا التزويد السياسي تحولت دولة المؤسسات إلى دولة وطنية بالمعنى السياسي ثم تحولت الدولة الوطنية إلى دولة مدنية ديمقراطية = دولة الاقتدار السياسي للشعب، بالمعنى المدني، بحيث أصبحت التعبيرات المدنية الوطنية المعبرة عن الشعب السياسي هي التي تتولى مقاليد السلطة السياسية المقيدة بالدستور والقانون في ظل دولة وطنية مدنية هي الحاكمة وهي الضامنة للتداول السلمي للسلطة بين هذه التعبيرات أو المكونات السياسية المدنية التي تتدافع سياسياً وتصل إلى كرسي الحكم عن طريق عد الرؤوس (الديمقراطية) وليس عن طريق قطعها.
فالسياسة على حد وصف الكاتبه العراقية آمال السعدي: تعالج قضايا وخلافات محض دنيوية ومدنية- وهي على هذا الأساس وفي ظل هذه السياقات والتحولات الوطنية المذكورة لم تعد تخدم أو تجسد حضور السلطة التاريخية تجاه المجتمع المحكوم بشكل يعزز استبدادها السياسي، أو حتى لم تعد السياسة تعكس قدرة السلطة السياسية على إدارة الوظيفة العامة فقط، بل أصبحت السياسة هي ثقافة اجتماعية وهي ممارسة الاقتدار السياسي للشعب تجاه السلطة نفسها وليس العكس.
بمعنى آخر أصبحت السياسة تعمل على تلاشي السلطة التاريخية لصالح الدولة الوطنية الديمقراطية، ناهيك عن أن السياسة بمفهوم الاقتدار السياسي سوف تعمل على تحويل المجتمع التقليدي إلى شعب سياسي يقف في وجه سلطة اللادولة، لهذا نجد سلطة اللادولة ترى دائما في السياسة عدوة لها، لأن السياسة لم تعد علم السلطة او قدرتها على حكم المجتمع بل أصبحت قدرة المجتمع على مواجهة السلطة إذ لم تكن السياسة تعني ضرورة تلاشي السلطة لصالح الدولة.
فالسلطة من هذا المنطلق كانت وسوف تظل تغتال السياسة أو تعمل على خنقها عن طريق إغلاق قنواتها المشروعة أمام المجتمع حتى لا يتمكن هذا الأخير من ممارسة الفعل السياسي تجاه السلطة الحاكمة هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية فإن إغلاق أبواب السياسة لن يعيق نجاعتها كاقتدار سياسي وطني تمارسه التعبيرات السياسية للمجتمع داخل فضاء المجال السياسي العام فقط، بل سوف يؤدي إلى تجمد الصيرورة المتعلقة بنشأة وتكوين ثقافة العقل المدني داخل بنية ومكونات المجال الاجتماعي.
فالسلطة السياسية الحاكمة حين تغلق أبواب السياسة لا يعني أنها لن تمارس الفعل السياسي بل سوف تمارسه بشكل مكثف في كل مناحي الحياة، غير أن فعلها السياسي سوف يعمل دائما على ادلجة الوعي المجتمعي بما هو مناقض للسياسة كفكرة محض دنيوية، أو بكونها ممارسات مدنية واقتدارا سياسيا اجتماعيا ينشد قيام دولة الشعب السياسي على حساب السلطة الحاكمة، وهذا ما تفعله اليوم سلطة الحركة الحوثية في مناطق سيطرتها تحت مسمى الولاية لآل البيت، وما فعلته سابقا وسوف تفعله أي سلطة أصولية للحركات الإسلامية تحت مسمى الحاكمية لله كما سوف نوضح تفاصيل ذلك في هذه المقالة.
اغتيال السياسة لا تمارسه سلطة الاسلام السياسي «السنية أو الشيعية» تحت مسمى الولاية لآل البيت أو الحاكمية لله، بل تمارسه سلطة الاستبداد السياسي في كل زمان ومكان أياً كان نوعها، مع الفارق أن السلطات التي نحن بصدد الحديث عنها تغتال السياسة باسم الله تعالى، وتجبر العقل السياسي المدني على الاستقالة تحت مسمى حماية الشريعة الإسلامية أو الحفاظ عليها.
فـالكارثة هنا تتعاظم مع هكذا سلطات، فيما يتعلق بانتزاع حقوق الإنسانية في المجتمعات المسلمة، لأن سلطة الولاية وسلطة الحاكمية تجعل الله تعالى والدين الإسلامي ضد عملية التغيير وفي وجه السياسة التي تعالج قضايا وخلافات محض دنيوية ومدنية، الأمر الذي يجعل الخوض في السياسة من قبل المحكومين ليس مجرد اعترض على الحاكم وسلطته السياسية الاستبدادية بل اعتداء على حكم الله تعالى.
فعلى سبيل المثال وليس الحصر نسمع اليوم بعض قيادة الحركة الحوثية يتحدثون عن استحالة التخلي عن شرط الولاية لآل البيت، لأن ذلك حسب زعمهم أمر رباني لا يجوز لأي مسلم التخلي عنه ما يعني أن أي مساس بسلطة زعيم الحركة الحوثية يعني مخالفة وتجاوزاً لحكم الله تعالى.